كثر الكلام على السدل والقبض، وتشعبت الآراء المؤيدة والمخالفة، فجاءت مقالة العلامة الفقيه مولاي البشير أعمون كافية شافية لمن أراد الحق. أما أهل الأهواء فلا حديث معهم والله ولي التوفيق.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم).
أما بعد..
فإنك أيها الأخ السائل الكريم، توجهت إليَّ بسؤال عن أدلة جواز السدل في الصلاة، وعن حكمه هل هو سنة أو مندوب أو مكروه أو ماذا؟
فاعلم -نوَّر الله بصيرتي وبصيرتك بنور الفهم- أنني لست من فرسان أهل هذا الميدان، ولا من أهل الرسوخ في هذا الفن، حتى تسألني عن مثل هذه المسائل العويصة الشائكة، والتي جرى فيها الخلاف بين المذاهب والعلماء، وتناظر فيها الفقهاء، وبحثوا فيها وألفوا، وحققوا ونقحوها وأجادوا وفصلوا وحكموا، فلم يبق لنا – معشر التلاميذ المتأخرين المقلدين- إلا فهم كلامهم، واستخلاص العبر من مناقشتهم، والأخذ بتوجيهاتهم، لا الإعراض عن تآليفهم، والضرب عنها صفحاً، والاستبداد دونهم؛ لأنهم أشياخنا وأساتذتنا ومعلمونا، وهم المجتهدون الذين نقحوا النصوص والأصول، وحققوا الفروع والنقول.
ولما أردتُ أن ألبي رغبتك أيها السائل الكريم، بجمع ما تيسر لي جمعه وتأليفه، وضعتُ أمامي ما ينيف عن بعضة عشر مؤلفاً حول هذا الموضوع؛ لأنتقي منه وأنتخب منها ما له صلة بمسألتنا باختصار.
وبدأتُ بعدم صحة أخذ المقلِّدِ الدليل مباشرة من الكتاب والسنَّة وأقوال العلماء في ذلك.
وسميت هذه النقول المنتقاة، بـ (أدلة سنية السدل في الصلاة).
ومن الله أرجو الإعانة وبلوغ المأمول، وأسأله القبول.
فقلتُ: قد أجمع العلماء المحققون أن المقلد لا يصح منه أن يستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا بعد أخذها من الأئمة المقتدى بهم، فعدم صحة احتجاج المقلد على إثبات حكمٍ أو نفيه بآية أو حديث مجمعٌ عليه، وأمرٌ متفق عليه.
فالذي عليه الجمهور أنه تجب على من ليس فيه أهلية الاجتهاد أن يقلد أحد الأئمة المجتهدين.
وقال بعض الأئمة: لا يجوز لعامي أن يترك تقليد الأئمة الأربعة، ويأخذ الأحكام من القرآن والأحاديث؛ لأن ذلك له شروط كثيرة مبينة في الأصول، لا توجد تلك الشروط في أغلب العلماء، ولا سيما في آخر الزمان.
قال ابن عيينة: الحديث مضلَّة إلا للفقهاء، إلى آخر ما ذكره العلماء في ذلك. انظر نوازل سيدي المهدي الوزاني الكبرى والصغرى. هذا وقد بنى الإمام مالك رضي الله عنه مذهبه على أربعة أشياء:
الأول: آية قرآنية.
والثاني: حديث صحيح سالمٌ من المعارضة.
والثالث: إجماع أهل المدينة.
والرابع: اتفاق جمهورهم، وهو العمل.
وقد سبقت الإشارة إلى إجماع العلماء على وجوب التقليد على من ليس فيه أهلية الاجتهاد، حتى صار معلوماً من الدين بالضرورة، اهـ.
[حكم السدل في الصلاة]
أما حكم السدل في الصلاة، فقد قال عليش في فتاويه: أما بعد، فاعلم أن سدل اليدين في الصلاة ثابت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به بإجماع المسلمين، وأجمع الأئمة الأربعة على جوازه فيها، واشتهر ذلك عند مقلديهم، حتى صار كالمعلوم من الدين بالضرورة، وأنه أول وآخر فعليه صلى الله عليه وسلم.
أما الدليل على أنه أول فعليه وأمريه، فالحديث الذي أخرجه مالك رضي الله عنه في الموطأ، عن سهل بن سعد واقتصر عليه البخاري ومسلم، من قوله: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة).
ووجه دلالته أن أمرهم بالوضع المذكور دليل نص على أنهم كانوا يسدلون، وإلا كان أمراً بتحصيل الحاصل، وهو عبثٌ محالٌ على الشارع صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم بالضرورة أنهم لم يعتادوا السدل ولم يفعلوه إلا لرؤيتهم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إياه، وأمرهم به بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وأما الدليل على أنه كان آخر فعليه وأمريه صلى الله عليه وسلم، فهو استمرار عمل الصحابة والتابعين عليه، حتى قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة: لا أعرفه، يعني الوضع في الفريضة، إذ لا يجوز جهلهم بآخر حالي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفته؛ لملازمتهم له بضبط أحواله واتباعه فيها، فلهذا ضمَّ مالكٌ عملهم للآية المحكمة والحديث الصحيح السالم من معارضة العلم به، والإجماع، وجعل الأربعة أصول مذهبه.
وأما القبض في الفرض، فاختلفوا في كراهته وندبه وإباحته، مع اتفاقهم على ثبوت فعله والأمر به من النبي صلى الله عليه وسلم، اهـ.
وقال الإمام الشعراني في الميزان، في جواب شرذمة من البطالين يقولون: كيف تترك الآيات والأحاديث الصحيحة وتقلد الأئمة في اجتهادهم المحتمل للخطأ، ما نصه:
إن تقليد الأئمة في اجتهادهم ليس تركاً للآيات والأحاديث الصحيحة، بل هو عين التمسك والأخذ بالآيات والأحاديث الصحيحة، فإن القرآن ما وصل إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، ومتشابهه ومحكمه، وأسباب نزوله ومعانيه، وتأويلاته ولغاته، وسائر علومه، وتلقيهم ذلك عن التابعين المتلقين ذلك عن الصحابة المتلقين ذلك عن الشارع صلى الله عليه وسلم، المعصوم من الخطأ، الشاهد للقرون الثلاثة بالخيرية.
وكذلك الأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيحها وحسنها وضعيفها ومرفوعها ومرسلها ومتواترها وآحادها ومعضلها وغريبها وتأويلها وتاريخها المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها ولغاتها، وسائر علومها، مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها، وكمال إدراكهم، وقوة ديانتهم، واعتنائهم وتفرغهم، ونور بصائرهم.
فلا يخلو أمر هذه الشرذمة من أحد الشيئين: إما نسبة الجهل للأئمة المجمع على كمال علمهم، المشار إليه في أحاديث الشارع الصادق عليه الصلاة والسلام.
وإما نسبة الضلال وقلة الدين للأئمة الذين هم من خير القرون، بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، (إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
وقولهم أيضاً لمن قلد مالكاً مثلاً: نقول لك: قال الله تعالى أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال مالك، أو ابن القاسم أو خليل أو ابن عاشر!! إلى آخره.
جوابه: أن قول المقلد: قال مالك إلخ معناه: قال مالك فاهماً من كلام الله أو من كلام رسوله، أو متمسكاً بعمل الصحابة والتابعين الفاهمين كلام الله أو كلام رسوله، أو المتأسين بفعل رسوله.
ومعنى قوله: (قال ابن القاسم) أنه نقل عن مالك ما فهمها من كلام الله إلخ، أو أنه فهمه ابن القاسم نفسه من كلام الله إلخ.
ومعنى قوله: (قال خليل) مثلاً، أنه ناقل عمن ذكر، ومالكٌ وابن القاسم مجمع على إمامتهما ومن خير القرون.
أما التارك للتقليد يقول: قال الله، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقلاً بفهمه، مع عجزه عن ضبطِ الآية والحديث، ووصل السند، فضلاً عن معرفة ناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، وظاهره ونصه، وعامه وخاصه، وتأويله وسبب نزوله، ولغاته وسائر علومه، فانظر أيهما يقدَّم؟ قول المقلد: قال مالك الإمام بالإجماع، أو قول الجهول: قال الله تعالى قال رسول الله؟ (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
فتبين من هذا أن المشهور في مذهب مالك هو كراهة القبض في صلاة الفرض، ولاسيما والكراهة هي رواية ابن القاسم في المدونة، وعليها عمل أهل المدينة.
وفي سنن أبي داود قال: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، قال: حدثنا حجاج، عن أبي جريح، قال: كثيراً ما رأيت عطاء يصلي سادلاً، اهـ.
قال الحفيد ابن رشد في بداية المجتهد: وسبب اختلاف العلماء في القبض في الصلاة، هو أنه وردت أحاديث صحيحة في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يذكر فيها أنه كان يقبض في صلاته، وثبت أيضاً كما في صحيح البخاري أنهم كانوا يؤمرون بالقبض فيها، فذهب بعض العلماء إلى أن القبض في الآثار التي فيها القبض هي زيادة من ثقة مقبولة، معمول بها، وذهب آخرون إلى المصير إل الآثار التي ليست فيها تلك الزيادة، لكون تلك الزيادة ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما هي من باب الاستعانة، ولذلك أجازه مالك رضي الله عنه في النفل، وكرهه في القبض، اهـ باختصار.
أما الأحاديث الواردة في القبض فليس أكثرها صحاحاً ولا حساناً ولا سالماً من الضعف، بل كلها إما بين موقوف ومضطرب وضعيف، وكل ما ورد في القبض ليس فيه خبر إلا وفيه مقال، فلا يحتج به بوجهٍ، غير حديث وائل عند مسلم، مع ما فيه من الخلاف في سنده وإرساله ومتنه، فبقي النظر فيه: هل هناك شيء يخالفه أصلاً، أو وجد ولكن دونه في المرتبة، وجب الرجوع إليه عند أهل الأصول بلا خلافٍ أعلمه.
وهنا قد عارض حديث وائل المذكور الأحاديث التي معه في القبض عند مالك أمران:
أحدهما: حديثان صحيحان، وليس فيهما ما في تلك الطرق التي في القبض من المقال.
أحد الحديثين: حديث المسيء في صلاته، قال ابن بطال في شرح البخاري: وحجة من كره ذلك، أي القبض، أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم المسيء صلاته الصلاة، ولم يذكر له القبض، نقله عن ابن القصار، ولعلهما –والله أعلم- أرادا حديث رفاعة بن رافع الذي أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين من طرق صحيحة عنه أنه كان جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فدخل المسجد، فصلى، فلما قضى صلاته جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليك، فارجع فصل فإنك لم تصل، قال: فرجع فجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعين منها، فلما قضى صلاته فجاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليك، فارجع فإنك لم تصل، وذكر ذلك إما مرتين أو ثلاثاً، فقال الرجل: ما أدري ما عبت عليَّ من صلاتي، قال صلى الله عليه وسلم: لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز وجل، يغسل وجهه ويديه للمرفقين، ويمسح رأسه بيديه، ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر ويحمد الله ويمجده، ويقرأ من القرآن ما أذن الله له فيه، ثم يكبر فيركع، ويضع كفيه على ركبتيه، حتى تطمئن مفاصله، ويستوي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ويستوي قائماً، حتى يأخذ كل عظم مأخذه، ثم يقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد فيمكن جبهته من السجود حتى تطمئن مفاصله ويستوي، ثم يكبر فيرفع رأسه ويستوي قاعداً على مقعدته، ويقيم صله، وصف الصلاة هكذا حتى فرغ ثم قال: لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك.
قال الحاكم: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، وساقه من طرق.
فبهذا –والله أعلم- احتج الإمام ابن القصّار، ولم يذكر له القبض، مع أنه ذكر له السنن والمندوبات، كيف يصح أن يكون القبض سنةً ولم يعلّمه له بعد أن علمه السنن و….
وثاني الحديثين: حديث أبي حميد الساعدي الذي أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، والنسائي وأبو داود وغيهم، واللفظ لأبي داود: حدثنا مسدد، أنبأنا يحيى، قال: أخبرني محمد بن عمر عن عطاء، سمعتُ أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة، وفي رواية وأبو هريرة ومحمد بن مسلمة وسهل بن سعد ويغرهم يقول: أنا أعلمكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلم؟ فوالله ما كنتَ بأكثرنا تبعاً ولا أقدمنا صحبة، قال: قالوا: فأعرض، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بيهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقرَّ كل عظمٍ في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يركع ويضع راحته على ركبتيه، ثم يعتدل ولا يصبو رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليهما ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظمٍ إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم يقوم من الركعتين فيكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ويصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسلم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر.
قالوا: صدقتَ، هكذا كان يصلي.
وهذا حديث ابن حنبل، وهو كما ترى حجة واضحة في السدل؛ لأن أبا حميد في مقام الاحتجاج على الصحابة المنكرين عليه أنه أعلمهم وأعلم منهم بصفة صلاته صلى الله عليه وسلم، لكونهم ما سلموا له أول مرة حيث قالوا له: ما كنتَ بأكثرنا له تبعاً، كما جبلت عليه الأقران من التنافس وعدم التسليم للأتراب، إلا لمن وصف لهم صلاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقصاء للسنن والفرائض، ولم يترك منها شيئاً علمه، فقالوا له: صدقتَ، وسلموا له ما ادعاه، لكونهم أخبرهم بما عندهم، فحينئذ لو كان القبض من صفة صلاته صلى الله عليه وسلم لأنكروا عليه قائلين له: يا أبا حميد، تركت أو نسيتَ أخذ الشمال باليمين؛ لأن المقام مقام الاحتجاج، والعادة قاضية بأنهم يناقشون فيه على أقل شيء، فحيث لم يناقشوه في ذلك علمنا أنهم متفقون على ترك القبض في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم كان سادلاً؛ لأن السدل هو الأصل، والأصل لا يُحتاج إلى ذكره، والتمسك به هو الحكم المتفق عليه.
قلت: هذا الحديث صرح فيه بالسدل واضحاً عند كل ذي لب سليم، وهو في قوله: حتى يقر كل عظم في موقعه معتدلاً، ولا شك أن موضع اليدين جنباه، وذلك هو السدل بعينه، وهو دليلنا في الحديث.
فإن قيل: أبو حميد وأصحابه وإن لم يذكروا القبض فقد ذكره غيرهم، فيكون زيادة ثقة، وهي مقبولة عند أهل الفن.
قلنا: المسألة ذات خلاف، وعلى التسليم فشرطها التساوي بين الراويين في الصوف، كما هو مقرر عندهم، وما هنا ليس كذلك؛ لأن أبا حميد وأصحابه لم يخالفهم من هو أعلم منهم، بل لم يخالفهم من طريقٍ ثابتٍ إلا وائل بن حجر الحضرمي، وهو شاسع الدار من أرض حضر موت باليمن، ولم يكن ملازماً له صلى الله عليه وسلم، بل إنما أتاه مرتين، بخلاف أبي حميد وأصحابه، فإنهم لم يفارقوه منذ صاحبوه، فهم أدرى بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً، وهذا من المرجحات عند أهل الأصول والأثر، ولا أعلم في ذلك خلافاً بينهم.
ومن عادة أهل الأثر والنظر إذا جاء حديث صحيح، وجاء شيء آخر مما يعد معارضاً له عندهم التمسوا له شاهداً من حديث آخر ضعيف، أو قراءة شاذة أو قياس جلي، أو غير ذلك، ليكون عاضداً له، وإذا كان لحديثٍ راوٍ واحد، التمسوا له متابعاً، وإن كان ضعيفاً، فقد فعل ذلك الشيخان في صحيحهما، فاستشهد البخاري في الصحيح برواية عبد الكريم بن أبي المخارق وغيره من الضعفاء، ولم يحتج بهم في الأصول، وعبد الكريم ضعيف باتفاق، واستشهد به أيضاً في باب التهجد في صحيحه، فإذا تقرر هذا فقد جاء ما يفسر حديث رفاعة، وحديث أبي حميد وأصحابه، وفيه نص، وهو ما رواه الطبراني في معجمه الكبير من طريق محبوب بن الحسن والخطيب بن جحدر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه قِبَل أذنيه، فإذا كبر أرسلهما، ثم سكت، وفي رواية: وربما أخذ الأولى بالثانية.
فهذا كما ترى نص في النزاع، ومعاذٌ لم يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبوب بن الحسن وثقه ابن معين وأخرج له البخاري في صحيحه، وأما ابن جحدر فهو وإن كان فيه مقال، إلا أنه غير متهم، فصح أن يكون هذا الحديث مفسراً أو عاضداً لحديث رفاعة، وحديث أبي حميد وأصحابه، به يزول الإشكال ويرتفع القيل والقال مما ورد في تلك الأخبار.
وهناك رواية أخرى في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير عن معاذ بن جبل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في صلاته رفع يديه قبال أذنيه، فإذا كبَّر أرسلهما، ثم سكت، وربما رأيته يضع يمينه على يساره.
ومن الأحاديث المصرحة بالإرسال ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن الحسن وإبراهيم وابن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير أنهم كانوا يرسلون.
وقال النووي في مجموعه: قال الليث بن سعد: يرسلهما، فإن طال عليه ذلك وضع اليمنى على اليسرى، وقال الأوزاعي: مخير بين الوضع والإرسال اهـ.
قلتُ: كلام الليث صريح في أن القبض عنده ليس من السنة، وإنما هو من باب الاستراحة، وهذا هو عين ما علَّل به مالك كراهيته لما فيه من الاعتماد.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال حين سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله، فقال: إنما ذلك من أجل الروم.
وروي عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة، وهكذا أخرج عن أبي مجلز وأبي عثمان النهدي وأبي الجوزاء اهـ.
وهؤلاءكلهم من كبار التابعين وفيهم الحسن البصري الذي روى أبو داود في حديث وائل بن علقمة عن وائل بن حجر أن محمد جحادة قال: فذكرتُ ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعله من فعله، وتركه من تركه.
وما نقل عن جميعهم يفهم منه النسخ لأن نسبته لأحبار بني إسرائيل أو الروم، دالٌّ دلالة صريحة على أنه ليس من سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقتدى بأخبار الروم، ولا يأمر بالاقتداء بهم، ولا ينسب إليهم شيئاً من السنة، بل لقد نهى صلى الله عليه وسلم عن سؤالهم والاقتداء بهم والنظر في كتبهم.
وروى ابن المنذر عن ابن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسلهما ولا يضع اليمنى على اليسرى.
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم قال: سمعتُ عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه.
ومن الأحاديث الدالة على الإرسال: كل حديث وصفت فيه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه ذلك لذكر المستحبات، ولم يذكر فيها القبض؛ لأن الإرسال هو الأصل كما لا يخفى، والقبض وصفٌ زائدٌ، فإذا لم يذكر بقي الحالُ على الأصل الذي هو الإرسال.
ومن أدلة الإرسال: ما عليه عمل أهل المدينة.
عمل أهل المدينة مقدم على خبر الآحاد عند مالك، جاعلاً له كالناسخ لما عارضه من خبر الآحاد، وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم يأخذون بالمتأخر من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يخفى عليهم المتأخر منها، فإذا وجد مالك رضي الله عنه عمل أهل المدينة المشحونة من التابعين على خلاف ذلك الخبر، عمل بعمل أهل المدينة، وترك الخبر لقرب عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة الذين تلقوا منه الشريعة، وتلقتها منهم التابعون، فلا يمكن التابعين أن يجدوا الصحابة على عمل ويعملوا بخلافه، فعلم أن هذا العمل مستندٌ إلى خبر متأخر ناسخ للخبر الذي قبله، فصار عمل أهل المدينة لهذا المعنى كالمتواتر، والمتواتر مقدمٌ قطعاً على خبر الآحاد.
وعمل أهل المدينة حجة عند مالك رحمه الله، والمقصود بعمل أهل المدينة مقصور على عمل الصحابة والتابعين بالمدينة خاصة؛ لأنهم هم الذين يتوفر فيهم ما مر من نقل خلفهم عن سلفهم ما كان يعمل به صلى الله عليه وسلم ويحصل فيهم شرط التواتر كما مر.
وإذا قال قائل: لم يثبت عندنا عمل أهل المدينة بالإرسال، ومن أين لنا ثبوته؟
فالجواب: أن قول مالك بالإرسال كافٍ في ثبوته؛ لأن القائلين بالقبض يزعمون أنه لا يوجد حديث يدل على الإرسال، مع ما قدمناه من الأحاديث الدالة عليه.
ومما هو دليل أيضاً على أن عمل أهل المدينة على الإرسال، كونه مذهب سعيد بن المسيب، وهو أحد كبار التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة، أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أفضل التابعين على الإطلاق كما قال الإمام أحمد.
فهذا وحده كافٍ في ثبوت كون عمل أهل المدينة على الإرسال.
ومن أشد العلماء تعصباً للقبض ابن عبد البر، وقد قال في كتابه الكافي الذي ألفه في فقه مالك، وذكر في خطبته أنه اعتمد فيه على عمل أهل المدينة، واقتصر فيه على الأصح عملاً والأوثق نقلاً من ذلك ما نصه: ووضع اليمنى منهما على اليسرى وإرسالهما، كل ذلك سنة في الصلاة.
قلنا: إن آخر الأمرين الإرسال، لما مر بيان ما عليه عمل أهل المدينة.
فمالك لم يترك العمل بالحديث إلا لترك الصحابة القاطنين بالمدينة، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، العمل به، والتابعين لهم، فمالك رحمه الله جعل عمل أهل المدينة على خلاف خبر الآحاد مستنداً إلى ناسخ لذلك الخبر؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم إنما يأخذون بالمتأخر من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم.
والإرسال في مذهب الإمام مالك هو المشهور والراجح، وذلك معلوم حتى عند علماء المذاهب الخارجة، فقد قال النووي في شرح مسلم: وعن مالك رحمه الله روايتان: إحداهما يضعهما تحت صدره، والثانية يرسلهما ولا يضع إحداهما على الأخرى، وهذه رواية جمهور أصحابه وهي الأشهر عندهم، اهـ.
وفي فتح الباري لابن حجر العسقلاني: وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، اهـ.
وأما كونه هو الراجح في المذهب، فلأ، الراجح هو ما قوي دليله، وأحديث القبض كلها ضعيفة، وذكرنا أحاديث الإرسال الدالة دلالة صريحة أو التزامية، وأنها سالمة من الطعن الواقع في أحاديث القبض.
ومن تلك الأحاديث الدالة على سنية السدل حديث أبي حميد الساعدي، لصحته الصحة التامة، ودلالته على الإرسال دلالة صريحة.
وقد قال في فتح الباري: إنه أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وأحمد وابن خزيمة، نكرر هنا ذلك الحديث وإن سبق ذكره، ونسوق رواية أبي داود لما فيها الزيادة الدالة على الإرسال صراحة.
ولفظه: قال: حدثنا أحمد، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد (ح)، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى، وهذا حديث أحمد: أنبأنا عبد الحميد، يعني ابن جعفر، أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعتُ أبا حميدٍ الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فَلِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبه، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل، فلا يصوب رأسه، ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فيجافي يديه على جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام إلى الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلى صلى الله عليه وسلم، انتهى.
فانظر هذا الحديث الذي رجاله رجال الصحيح، صرح فيه بالسدل في قوله: (إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً).
قال في فتح الباري: وفي رواية هشيم عن عبد الحميد: ثم يمكث قائماً حتى يقع كل عظم في موقعه، ثم يقرأ، إلى آخره.
فغير خافٍ على عاميٍ، فضلاً عن عالمٍ، أن معنى (يقر) و(يقع) في الروايتين يثبتُ ويستقرُّ في محلِّه، ولا شك أن محل اليدين من الإنسان جنباه، وذلك هو الإرسال بعينه، لا ينازع في ذلك إلا مجنون أو مكابر في المحسوس، انتهى باختصار من كتاب (إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض) بتصرف يسير حسب الحاجة.
وبهذا الحديث الصحيح ختمتُ هذه العجالة المباركة، المختصرة من أقوال الأئمة المجتهدين، حول حكم السدل في الصلاة، فخذها أيها السائل المتعطش جواباً تاماً كافياً شافياً مختصراً.
فكن من أهل التسليم والاعتقاد، ولا تكن من أهل التعصب والانتقاد، فقد عرفت من خلال ما تقدم بإيجاز أن السدل سنَّةٌ ومندوب في الصلاة على مذهب إمامنا مالك، كما ذكره أئمة الفروع الفقهية، كالشيخ خليل وشراحه، وابن عاشر وشراحه وغيرهم، ومستندهم جميعاً هو هذا الحديث المذكور أعلاه المدعوم بما سبق ذكره من الدلائل، وبعمل أهل المدينة الذي اعتمده إمام الأئمة مالك بن أنس رضي الله عنه، فلم يبق للإنسان الذي يريد الحقيقة ويبحث عنها إلا أن يسلم ويستسلم، وينقاد للحقيقة، ويعترف بأن ما ذهب إليه مالك رحمه الله هو الأحوط والأجدر بالاتباع، وأن من صلى بكلتي الحالتين السدل أو القبض فصلاته صحيحة كاملة تامة غير ناقصة، غير أن السدل هو الأفضل والأحسن، وهو الأشهر والأرجح على مذهب الإمام مالك الذي اتبعه المغاربة قاطبة منذ رسوخ الإسلام في هذا الوطن العزيز، وتوحدت به كلمة المغاربة، واجتمع عليه صفهم ورأيهم وإجماعهم منذ دخول المولى إدريس الأول إلى المغرب، حتى ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الفرق التي قلدت المشارقة في كيفية صلاتهم وصيامهم وحجهم، بسبب ما يرون في الحرمين الشريفين أثناء زيارتهم في الحج والعمرة، وبسبب ما يروجه علماء المشرق من الكتيبات المطبوعة المشتملة على ما يخالف المذهب المالكي السائد في الحرمين الشريفين وبلاد الحجاز، قبل تولي الحكام السعوديين واستيلاؤهم على تلك البلاد، ومعلوم أن مذهبهم ودولتهم قامت على أسس المذهب الوهابي، الذي تزعمه محمد بن عبد الوهاب النجدي، الذي أجمع علماء الأقطار الإسلامية بأنه مخالف لجميع المذاهب الإسلامية.
ووصل هذا الداء إلى صفوف شباب المغرب في السنين الأخيرة، حتى استفحل الأمر واتسع الرتق على الراقع، رغم النداءات المتكررة والأوامر المتأكدة من طرف أمير المؤمنين جلالة الحسن الثاني نصره الله، الذي ما فتئ يصرح في كثير من خطبه وتوجيهاته السامية إلى وجوب اتباع المذهب المالكي والمحافظة عليه، والعمل به في مجموع بلاد المغرب، لكن الشباب يستهويه كل جديد، حتى ظنوا أن في الدين جديداً ما يقوم به مروجو الأفكار الوهابية من وسائل التشجيعات والإغراءات المادية والمعنوية، وذلك هو السبب فيما يلاحظ في وسط الساحة الاجتماعية من خلافات وصراعات فكرية، حتى يفقد الإنسان في بيته ومسجده مع من يصلي مطمئناً براحة باله، من أجل كثرة التكلفات في الصلاة، من تفريق الرجلين كثيراً، ومجافاة المرفقين حتى يسع المصلي الواحد مساحة صلاة رجلين أو ثلاثة، وكذلك تكرار (قد قامت الصلاة) في الإقامة، والسكتة بعد تكبيرة الإحرام هنيهة قليلة لا تفي حتى لقراءة دعاء الاستفتاح إن كان المقصود قراءته ولو كره عند مالك، وكذلك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام حتى يقبض بهما أذنيه، وكذلك الجهر بالتأمين جهراً ينافي الخشوع لقوة النطق به، وكذلك رفع اليدين عند تكبيرة الركوع وعند الهوي إلى السجود، وعند القيام من الركعة، وكذلك تقديم الركبتين عند السجود وتأخير وضع الكفين، عكس ما هو عند الإمام مالك، وكذلك تأخير الركبتين في القيام ن السجدة وإحداث جلسة زائدة أثناء ذلك، مثل جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى، وكذلك القيام بتكلف وانحناء الرأس إلى جهة اليمين مما ينافي الاعتدال المطلوب في الصلاة، وكذلك وطء المصلي برؤوس أصابع رجليه على رؤوس أصابع رجلي مصلٍّ آخر بجنبه، ولا أدري من أين لهم بذلك، وكذلك التسليم مرتين، إلى آخر ما أحدثوه في الصلاة، من كل ما يخالف المذهب المالكي.
فهذه الخلافات الفقهية كلها تقلق راحة المصلي، ويفقد فيها خشوعه في الصلاة، وتلك هي نتائج ما يروجه أهل المذاهب المختلفة بين صفوف الشباب الضائع الذي لم يجد من يأخذ بيده ويرشده إلى الصواب لأول وهلة، قبل أن يزرع في أفكاره أهل الأهواء ضلالاتهم وزريعتهم الفاسدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهناك مسائل خلافية أخرى في أبواب فقهية شتى، سيأتي وقت تبيينها وتوضيحها للقراء إن شاء الله تعالى.
وكتبه على عجل، العبد الضعيف، أعمون مولاي البشير، بن محمد، بن مبارك، الناصري التتنائي،
وذلك بتاريخ 5 صفر الخير عام 1419 هجرية، موافق 31 مايو سنة 1998ميلادية، غفر الله ذنبه وستر عيبه، بجاه سيد الأولين والآخرين أجمعين،
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والحمد لله رب العالمين.