فقد كثر الخوض والقيل والقال في مسألة الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة ورؤيته كفاحا، وافترقت كلمة المسلمين فيها وبسببها فرقا وطوائف شتى، بين منتقد ومعتقد ومتوسط ومتوقف؛ وقد سال للبحث فيها غزير مداد، وصنفت فيها المصنفات الجياد، وانتصر فحول علماء الإسلام إلى جواز وقوعها عقلا وشرعا.
فلنتابع الدكتور عدنان زهار المحدث الفقيه الأصولي، لنحظى بالإجابة الشافية لذوي الصدور السليلمة، ولمن يبحث عن الحقيقة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد الفاتح الخاتم
الأجوبة المنقِذة
لمن أنكر على أولياء الله المجتمعين بالنبي يقظة
للمحدث الفقيه الأصولي
الدكتور: عدنان زهار
وبعد،
فقد كثر الخوض والقيل والقال في مسألة الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة ورؤيته كفاحا، وافترقت كلمة المسلمين فيها وبسببها فرقا وطوائف شتى، بين منتقد ومعتقد ومتوسط ومتوقف؛ وقد سال للبحث فيها غزير مداد، وصنفت فيها المصنفات الجياد، وانتصر فحول علماء الإسلام إلى جواز وقوعها عقلا وشرعا، كالسيوطي في “تنوير الحلك برؤية النبي والملك”، وشمس الدين الحلبي في “تحفة الطالب المستهام في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام”، وكالشيخ يوسف الخلوتي في “تنبيه الغبي برؤية النبي”، وكابن الحنبلي في ” حور الخيام وعذراء ذوي الهيام في رؤية خير الأنام في اليقظة كما في المنام”، وكعبد الرحمن البسطامي في ” درة الفنون في رؤية قرة العيون”، والكلاعي في ” مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام”،
هذا، عدا من تطرق إليها بالتوثيق والترجيح من العلماء في مصنفاتهم من كتب الحديث والتفسير والأصول والمنطق والتراجم والتاريخ فضلا عن كتب السلوك والتصوف مما لا يحصى ولا يعد…
واختصارا لما ذكره ساداتنا من حجج وبراهين طوقوا بها أعناق المنكرين المتقولين أذكر ما يلي:
الأول: وقوعه لعدد من صالحي هذه الأمة وأصفيائها وحكايتهم ذلك واعترافهم به، وهو عندي أقوى حجة وأظهر بيان، فإن مثلهم لا ينبغي اعتقاد الكذب عليهم، فكيف وأنهم أجمعوا على وقوعه واتفقوا على حصوله لهم. وتكذيب المسلم عموما فسق فكيف بتكذيب خيرة المسلمين ونقاء المتقين؟ وعجبت من شيخ الإسلام ابن حجر كيف ينقل الخلاف في المسألة من “فتح الباري” وينسب هذا القول إلى الصالحين فينسبهم إلى الشذوذ بقوله: “وَشَذَّ بَعْض الصَّالِحِينَ فَزَعَمَ أَنَّهَا تَقَع بِعَيْنَيْ الرَّأْس حَقِيقَة”، فإن كان في أمر اجتهادي صح وسمهم بالشذوذ، والواقع أنه في غير ذلك فشهادته لهم بالصلاح ناقضة لوصفهم بالشذوذ، إذ ذروة سنام الصلاح الصدق، فلزم تصديقهم في دعواهم، وإن لم يتحمل عقل المنكر ذلك…
قلت: فوقوعه للصالحين قاطع لكل إنكار وحاسم لكل خلاف، لمن تدبر وفطن، وإلا ففي الباب أدلة اخرى منها:
الثاني: عدم ورود المانع الشرعي والعقلي، وقد علم أن مثل هذا لم يأت ما يدل على منعه بالشرع، بل ورد فيه ما يؤيده كما سيأتي، أما العقل فلا يمنعه إذا لبس لبوس الإيمان بقدرة الله على فعل الممكن وغير الممكن، وإذا تدثر العقل برداء التسليم لما وراء عالم الشهادة والتصديق بالغيب، وإلا فوقوف على عتبة الكفر بالإنكار…
الثالث: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي )، وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك ابن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة. قال العلماء: اختلفوا في معنى قوله ( فسيراني في اليقظة) فقيل معناه فسيراني في القيامة وتعقب بأنه بلا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم ومن لم يره ، وقيل المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون مبشرا له أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته، وقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم فلا بد أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه وقيل بعين في قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من البخاري : هذا الحديث يدل على أنه من رآه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته أو هذا كان في حياته وهل ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والإتباع لسنته عليه السلام اللفظ يعطى العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف.
قال: وقد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه وقال على ما أعطاه عقله وكيف يكون من قد مات يراه الحي في عالم الشاهد قال وفي قول هذا القول من المحذور وجهان خطران : أحدهما عدم التصديق لقول الصادق عليه السلام الذي لا ينطق عن الهوى والثاني الجهل بقدرة القادر وتعجيزها كأنه لم يسمع في سورة البقرة قصة البقرة وكيف قال الله تعالى : (( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى )) وقصة إبراهيم عليه السلام في الأربع من الطير وقصة عزير فالذي جعل ضرب الميت ببعض البقرة سببا لحياته وجعل دعاء إبراهيم سبباً لإحياء الطيور وجعل تعجب عزير سبباً لموته وموت حماره ثم لإحيائها بعد مئة سنة قادر أن يجعل رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم سببا لرؤيته في اليقظة وقد ذكر عن بعض الصحابة أظنه ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فتذكر هذا الحديث وبقي يفكر فيه ثم دخل على بعض أزواج النبي أظنها ميمونة فقص عليها قصته فقامت وأخرجت له مرآته صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه فنظرت في المرآة فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر لنفسي صورة قال وقد ذكر عن بعض السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص قال والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يصدق بكرامات الأولياء أو يكذب بها فإن كان ممن يكذب بها فقد سقط البحث معه فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة وإن كان مصدقا بها فهذه من ذلك القبيل لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي والسفلي عديدة فلا ينكر هذا مع التصديق بذلك. انتهى كلام ابن أبي جمرة.
قلت: وهو أيضا مليح متين في إثبات الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوهين مذهب المنكرين…بل الأول كاف والثاني والثالث حاسم قاطع.
أما شبهات المنتقدين فالجواب عنها سهل ممتنع، وهي كالآتي:
أولا: قالوا هل يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكانين في وقت واحد؟ في قبره ومع من اجتمع به؟
قلت: أما أولا فلا يعقل في نظام عالم الشهادة، لكنه ممكن في عالم الغيب حيث تتخلف موازين النظام الكوني، التي يحكمها قانون الزمان والمكان وقانونهما أصل الهيئة وحسابها، لكن لما يتعلق الأمر بالذوات التي خرجت من عالم الدنيا إلى عالم الأخرى فلا يجري عليها حكم ذلك النظام، فعطّل عقلك هاهناك وأنخ ناقة التسليم عند باب أهل الله تدخل حضرتهم فيفاض عليك من انوارهم، والانتقاد سبب الهلاك. وأما ثانيا: فقد علم أن المستحيل العقلي هو وجود أي ذات في مكانين في وقت واحد، ودعوى رؤيته صلى الله عليه وسلم لا يلزم منها وجوده في مكانين في وقت واحد؛ إذ مكانه صلى الله عليه وسلم روضته الشريفة يحيى فيها صلى الله عليه وسلم يصلي لربه ويأنس به، كما أن الأنبياء جميعهم أحياء في قبورهم، فعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون » أخرجه أبو يعلـى في مسنده، ورجاله ثقات. ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : « مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ،وهو قائم يصلي في قبره » رواه مسلم في صحيحه؛ فرؤيته صلى الله عليه وسلم لا تعد إلا أن تكون انكشافًا للولي عن حاله الذي هو في قبره صلى الله عليه وسلم يقظة، وهذا لا ينكره العقل، ويؤيده النقل فقد ثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يخطب فكشف الله له عن حال سارية ـ كرامة له رضي الله عنه ـ وهو في بلاد نهاوند بفارس، وناداه قائلاً : « يا سارية الجبل الجبل، وسمع سارية النداء، وطالما جاز وقوعه لغير النبي صلى الله عليه وسلم ؛فلا يقتصر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو حتى الصحابة وحدهم، وكذلك المرئي فقد يكون سارية أو غيره.
ثانيا: قالوا: إن من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه صار صحابيا، فهل تثبت الصحبة لكل من رآه بعد؟
قلنا: أجابوا عن هذا الكلام المتعثر بأجوبة مفصلة طويلة وعندي أنه لا يستحق إلا عبارة قصيرة مختصرة قاضية على المحتج، وهي أن من عرَّف الصحبة من الاصوليين والمحدثين إنما عرفها باعتبار رائي النبي في زمن البعثة وفي عالم الشهادة، لا غير، فقد رآه الأنبياء ليلة المعراج ولم يسموا صحابة ورآه الجم الغفير مناما ولم يسموا صحابة، فهذه أضعف حججهم…
ثالثا: قالوا قد حصل لكثير من الصحابة أمور ومدلهمات كانوا في حاجة إليه صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان الاجتماع بالنبي يقظة سائغا أو جائزا لحصل لهم قبل أي أحد، فهذه أحداث الفتن المتكاثرة على الصحابة ولم يدع أحد منهم ذلك ولا رآى النبي ليحكم في أمره والواقعة الحاصلة له؟
قلت له: هذه مغالطة مبنية على مقدمة متخيَّلة من المنكرين، لا يعتقدها ولم يقل بها السادة العلماء القائلون بالجواز، وهي أن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة تكون في وقت الشدة والفتنة للحسم والتفريج…
والصواب أن لا أحد ادعى هذا أو قال به حتى يحتج عليهم بإيراده، وإلا فرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة كرامة من الله لمن اصطفى من أولياء الله، يثيبهم عاجلا على رفيع مجاهدتهم ويبشرهم بها بعلي قدرهم ويؤنس وحشتهم ويخفف من لوعة شوقهم وكذلك ليدلهم على مختصر طريق إلى الله كما وقع لسيدنا أبي العباس التجاني الذي سلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسام الختمية وأعطاه الهداية المطلقة للدلالة على الله تعالى…
كتبته على عجل مكابدا مشقة السفر، مما علق بالذهن مساء يوم الأربعاء 25 رجب 1434،
والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.