الإصابة بالعين حقيقة ّأم خرافة؟
الخطبة الأولى:
*الحمد لله الحيي الكريم، * و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خير العالمين * و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، * ونشهد أن سيدنا و نبينا و مولانا محمدا عبد الله و رسوله و مصطفاه من خلقه و خليله، ف صلى الله عليه وسلم من نبي أمين، ناصح حليم وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .* أما بعد، عباد الله: موضوع خطبتنا اليوم أن نصحح فكرا مغلوطا،و فهما خاطئا،عن مسألة في غاية من الأهمية في حياتنا قد تطبعها بالشقاءِ بدلَ السعادة، و بالاضطرابِ بدلَ الاطمئنان، و بالتوجس بدل حسن الظن و الارتياح، فما هي يا ترى هذه المسألة؟ إنها بعض المعتقدات التي لا تزال حتى يومنا هذا مثار جدل كبير، إما لجهة واقعيتها أو لجهة شرعيتها، و من أمثلة ذلك البارزة قضية “العين أو ما يعرف “بـالإصابة بالعين”.
فما هو المراد بالعين؟ وما هو الموقف العلمي والإسلامي منها؟
مما لا نشك فيه معاشر المسلمين أنّ ديننا جاء ليحرر العقول من تأثير الخرافات و الأساطير، وسائر أنواع الأباطيل، ولذلك أعلن رفضه لكل المعتقدات أو الممارسات التي لا تمت إلى المنطق والعلم بصلة: من سحر و كهانة و شعوذة وما إلى ذلك، و وقف موقف التأييد والتشجيع والحماية لكل بحث علمي هادف، فما تعريف العين و ما علاقتها بالحسد:
“العين” ـ بناءً على واقعيتها ـ هي عبارةٌ عن نظرِ المرء باستحسانٍ مَشُوبٍ بحسدٍ وخُبثٍ بحيثُ يحصلُ من العائن الحاسد للمنظور إليه المحسود ـ إنساناً كان أو حيواناً أو شيئاً آخر من الأشياء ـ ضررٌ أو عطب، والإصابة بالعين ـ على فرض صحتها لا تطرد ـ أي لا نجدها تحصل و تؤثر في كل الناس ـ، ( يقال فلان تؤثر فيه العين كثيرا خلاف غيره كما يقال فلان معيان أي يؤثر بعينه) وإنما تحصل الإصابة من العين من بعض ذوي النفوس الخبيثة التي يتملكها الحسد ويسيطر عليها الشعور بالنقص، و قد تؤثر العين بصورة عفوية غير إرادية بمعنى أن العائن نفسه لا يُدرك ولا يشعرُ بما يترتبُ على نظرته من إضرار بالآخرين، ولذا قد يضُر بعضَ مُحبِّيه و محبوبيه. كما أنها قد تؤثر بصورة إرادية متعمدة، هذه هي الثقافة السائدة.
ـ ولكن ما هي النسبة بين الحسد والعين؟ إن الحسد هو عبارة عن انفعال نفسي يتمنى صاحبُه زوالَ النِّعمة عن المحسود، سواء رغِبَ الحاسد في انتقال النعمة إليه أم لا . وهذا الانفعال الذي يتحكم بالحاسد بسبب عُقَده النفسية وخُبث سريرته ربما بقي حبيساً لديه، وفي حدود الأماني وهذا هو الحسد، وربما خرج عن حيز الأمل إلى حيِّز الفعلِ وإلحاقِ الضرر بالغير، إما عن طريق اليد أو اللسان أو العين ـ إن ثبت أن للعين قدرة على التأثير ـ والحالة الأخيرة فقط هي التي تسمى بالعين، وبذلك يتضح أن النسبة بين الحسد والعين هي العموم والخصوص المطلق باصطلاح المناطقة، أي أن كل عائن حاسد وليس كل حاسد عائن.
عباد الله: إن تجذر الاعتقاد بالعين: اعتقاد قديم وواسع الانتشار، فقد عرفته مختلف الشعوب، فآمن به الفينيقيون والفراعنة واتخذوا للوقاية من العين الأحْجِبَة والتعاويذ والخَرز الأزرق، كذلك آمنت به الشعوب الأوروبية لا سيما الإيطاليين، فقد ذُكر أنّ البابا بيوس التاسع كان يصيب بالعين وأنه تسبب في قتل مئات الأشخاص بسبب نظرهِ إليهم طويلاً، ونحوُه ما يُحكى عن ملك اسبانيا ألفونس الثالث عشر، والاعتقادُ بالعين منتشرٌ أيضا لدى الشعوب والقبائل الإفريقية، وأما لدى القبائل العربية فإن الاعتقاد بإصابة العين متجذر ويعود إلى العصر الجاهلي، حيث اعتقد العرب أنّ عيون بعض الناس “لا تنتج إلاّ شراً” وهي لا تكاد تكون في خير مطلقاً، ولذلك تجنبوا العائن وابتعدوا عنه، وقد تفننوا في ابتداع وسائل الوقاية من العين فاستعملوا الخرز والتعاويذ والرقى، والتمائم من قبيل تعليق كعب الأرانب أو منقار الغراب على أنفسهم، كما اتقوا العين الصائبة بوضع الوشم على الخدين والذقن، ومن الأمثال العربية المتعلقة بإصابة العين قولهم: “إن العين تدني الرجال إلى أكفانها والإبل إلى أوضامها” والأوضام جمع وضم وهو يوضع عليه اللحم من خشب أو غيره .
وفي عصرنا لا زلنا نلاحظ أن الاعتقاد بالعين منتشرٌ في مختلف الأوساط ولدى كافة الشعوب على اختلاف أديانها، نعم قد تتدنى نسبة المعتقدين بالعين في أوساط المتعلمين ومرتادي الجامعات وذوي الاختصاصات العلمية. والحسد ذكر في القرآن عدة مرات بشكل مجازى ليعبر عن شرور نفسية وليس عن قوى خفية خلاف ما يعتقده الناس، و مع ذلك يحفل ثراتنا الشعبى بموروث ونصوص دينية تحذر من شر الحسود، بل وتخلق أساطير حول الحاسد الذي إذا ما نظر إلى نعمة زالت من يد صاحبها، فيتحول الحسد مع مرور الوقت إلى هاجس يدفع الإنسان إلى إخفاء آثار نعم الله وعطاياه، بل والكذب أحيانًا وإدعاء غير الحقيقة حتى لا تصيبه عيون الحاسدين ونظراتهم الخارقة، دون أن يلتفت أحدٌ إلى أن الحسد بهذا المفهوم يتناقض مع الإيمان بالقضاء والقدر الذي جاء به القرآن و السنة وهو الأمر الذي يطرح عدة أسئلة حول معنى الحسد؟ وهل يتعارض الحسد مع القدر؟ هل الحسد و العين حقيقة أم إن ذلك أحد خرافات العقل العربي؟ هل أخطأ علماء تفسير القرآن حين ربطوا شر الحسد بوقوع الأذى على المحسود؟ هل هناك تفسيرات أو أقوال أخرى تزيل هذا اللبس بين الحسد والقدر؟
أيها الناس:الحسد كما هو موجود في القرآن هو مُجرد تمنِّي زوال النعمة عن الآخرين، ولكنه يبقى حَسَداً لا قيمة له إلا إذا انتقل من مرحلة التمني إلى مرحلة التنفيذ، أي أن يشرع الحاسد في تحقيق رغباته ومطامعه بيده، ما عدا ذلك فالحسد إنما هو شعور سلبي ونارٌ تأكل صدور الحاسدين ولكنها في الحقيقة لا سُلطان لها على الغير بالمُطلق.النصوص القرآنية التي تعرضت لقصة الحسد أنه لا يكون شراً إلا حين وقوعه، فحين يقول الله عز وجل (ومن شر حاسدٍ إذا حسد) نفهم مباشرةً أن الحاسد لا سلطان له إلا إذا حَسَد. وإلا لقال الله عز وجل(ومن شر حسد الحاسد) بمعنى أن رغبة وتمني زوال النعمة لدى الحاسد هو مجرد شعور بحاجة إلى تطبيق بدلالة (إذا) مضيفًا وفى الحديث الشريف(لو شيءٌ سبقَ القدر لسبقته العين)، و لكنها لا تسبقه. ففي القرآن حين حَسَد إبليس سيدنا آدم وتمنى زوال نعمة الله عليه لم يكن لإبليس سُلطة على آدم إلا حين قام بتتبعه وإغوائه، فانتقل الحسد هنا من باب التمني والرغبة إلى باب العمل، ولو كانت للعين سُلطة تأثير – ولو بطاقة محدودة سلبية- لكان حسد إبليس لآدم كافياً لتحقيق رغبات إبليس ومطامعه، كذلك حين حسد ابنُ آدم أخاه على تقبل قُربانه ، هل كان للحسد مفعول إلا حين انتقل هذا الحسد من باب التمني إلى باب القتل؟!هذا هو المقصود بأن الحسد لا يكون شراً بالآخر إلا إذا دخل مرحلة التنفيذ، سوى ذلك فهو طاقة مُعطلة تؤذى صاحبها وحسب.فالاعتقاد بالمفهوم الشائع للحسد يصيب المنظومة الكونية بالخلل الكبير، لا يستطيع أحد فيه أن يضبط إيقاع الكون، فكلما اجتهدت وصنعت منافعَ للناس جاء لينقض اجتهادك وعملك من كان في قلبه حسد، والحُجة موجودة عند أصحاب هذا التفكير أن هذا حسد ومذكور في القرآن، والحقيقة أن فهم الحسد – الوارد ذكره في القرآن – فهمٌ مغلوط لأنه ناجم عن تصورات اجتماعية وثقافية مغلوطة متخلفة تنتقل بالتقليد، لا بالتفكير، حتى من قبل أن يأتي الإسلام برسالته، فأبعدنا عن الفهم الصحيح للدين وعن رؤية القرآن العالمية للكون وللبشر. نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم و كلام سيد الأولين والآخرين . سبحان ربك رب العزة عما يصفون، و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
* الحمد لله على نواله و إفضاله ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على
سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، و على آله ، وعلى جميع من تعلق بأذياله ، و نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله و بعد ، عباد الله:
إن الإيمان بوجود الحسد أو العين من عقيدة المسلم، فقد جاء ذلك في نصوص الوحي من القرآن والسنة.قال الله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا {النساء: 54 وقال تعالى حكاية عن نبيه يعقوب عليه السلام: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67.قال أهل التفسير خاف عليهم من العين.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: العين حق. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.وعلى هذا، فالإيمان بوجود الحسد أو العين لا يعتبرُ شركاً ولا حراماً، بل هو من صميم العقيدة، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يهتم بذلك أو يخاف منه دائماً حتى يكون شغله الشاغل، فيكون مدخلاً للشيطان يوسوس له به أو يخوفه منه دائماً.فكل شيء بقضاء الله وقدره، وعلى المسلم أن يتعوذ بالله تعالى ويتحصن به من كل شر أو مكروه يخافه .فإذا حضره من يخشى منه الحسد أو العين، فاليقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، فما تعوذ أحد بأفضل من المعوذتين.
و استعينوا على أموركم كلها بالإكثار من الصلاة و التسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، و الهادي إلى صراطك المستقيم، و على آله حق قدره و مقداره العظيم، و ارض اللهم عن أصحاب رسولك، و خلفاء نبيك، القائمين معه و بعده على الوجه الذي أمر به و ارتضاه و استنه خصوصا الخلفاء الأربعة، و العشرة المبشرين بالجنة والأنصار منهم و المهاجرين، و عن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، و عن أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، اللهم انفعنا يا مولانا بمحبتهم، و انظمنا يا مولانا في سلك ودادهم و لا تخالف بنا عن نهجهم القويم وسنتهم.
(ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)
( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان
ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين، و الحمد لله رب العالمين)
الخطبة من إنشاء عبد ربه الفقير إلى رحمته :” ذ سعيد منقار بنيس”
خطيب بمسجد ” الرضوان ” لافيليت ” عين البرجة الدار البيضاء
أستاذ العلوم الشرعية بالمدرسة القرآنية التابعة لمؤسسة مسجد الحسن الثاني
مفتش منسق جهوي للتعليم الثانوي مادة التربية الاسلامية ـ متقاعدـ
البريد الالكتروني mankarbennissaid@gmail.com