الطريقة التجانية من أكثر الطرق الصوفية انتشارا في العالم، ففي نيجريا وحدها “55” مليون تجاني، بل إن البعض يقدر عدد أتباع هذه الطريقة بـ : “450” مليون نسمة وهو ثلث عدد المسلمين في العالم..
إعداد الأستاذ السيّد : الحاج مكّي عبد الله التجاني – عالم من جمهورية تشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ، وبعد :
المقدّمة
إذا أردنا الحديث عن ثمرة جهود الطريقة التجانية في التربية الروحية والإجتماعية ، وأثرها في تماسك كافّة شرائح المجتمع ، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه رجال الطريقة في الفكر الإسلامي بعد انتشارها في أنحاء مختلفة من بقاع العالم ، يجدر بنا الرجوع كثيرا إلى الوراء والحديث عن حقيقة التصوّف الإسلامي ، الذي تعتبر الطريقة التجانية جزء لا يتجزّأ منه ، فما هي إلاّ من عناصره المكوّنة له .
إذن فما هو التصوّف الإسلامي ؟ ومتى بدأ ؟ ومن هم الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى له ؟
يقول أبو بكر الكتّاني المتوفّى سنة 223 هـ في تعريف التصوّف : ” التصوّف خُلُقٌ ، فمن زاد عليه في الخلق فقد زاد عليه في الصفاء ” . ويقول أبو الحسن النوري : ” ليس التصوّف رسما ولا علما ، ولكنّه خلق ” . ثمّ يعلّل ذلك بقوله : ” لأنّه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة ، ولو كان علما لحصل بالتعليم ، ولكنه تخلّق بأخلاق الله ، ولن تستطيع أن تُقبِل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم ” . ويقول أبو الحسن أيضا : ” التصوّف الحرّية والكرم ، وترك التكلّف ، والسخاء ” . وسُئل الشبليّ عن التصوّف ، فقال : ” بدؤه معرفة الله ، ونهايته توحيده ” . والتعريف الجامع هو قول أبي بكر الكتّاني : ” التصوّف صفاء ومشاهدة ” .
ولقد بدأ التصوّف مع الإسلام مباشرة ، وذلك لأنّه خُلُق كريم ، واتّجاهٌ إلى الله في اليسير من الأمور والعظيم منها ، وهذا هو الإسلام .
ومن أوائل الصوفية ، بعد الصحابة والتابعين ، إبراهيم بن أدهم ، والفضيل بن عياض ، وذو النون المصري ، والحارث بن أسد المحاسبيّ رضي الله عنهم أجمعين .
التسمية
وأمّا بالنسبة للتسمية التي كثر حولها الخلاف ، فنكتفي بما قاله الإمام الشاطبيّ ناقلا عن أبي القاسم القشيري ، في كتاب الإعتصام ج(1) ، ص(89) ، ما يلي : ” أنّهم إنّما اختصّوا باسم التصوّف انفرادا به عن أهل البدع ، فذكر أنّ المسلمين بع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُسَمّ أفاضلهم في عصرهم باسم عَلَمٍ سوى الصحبة ، إذ لا فضيلة فوقها . ثمّ سُمّي من يليهم التابعين ، ثمّ اختلف الناس ، وتباينت المراتب ، فقيل لخواصّ الناس ممّن لهم شدّة عناية في الدين الزهّاد والعبّاد . قال ثمّ ظهرت البدع ، وادّعى كلّ فريق أنّ فيهم زهّادا وعبّادا ، فانفرد خواصّ أهل السنّة ، المراعون أنفاسهم مع الله ، والحافظون قلوبهم من الغفلة ، باسم التصوّف ” .
شهادة علماء الإسلام للتصوّف
وهذه شهادة علماء الأمّة الإسلامية لمنهج التصوّف والصوفية . ونبدأهم بالأئمّة الأربعة رضي الله تعالى عنهم . فقد نقل الفقيه الحنفي الحصكفي ، صاحب الدرّ المختار ، أنّ أبا عليّ الدقّاق رضي الله عنه قال : أنا أخذتُ هذه الطريقة من أبي القاسم النصرآباذي ، وقال أبو القاسم : أنا أخذتها من الشبلي ، وهو من السريّ السقطي ، وهو من معروف الكرخي ، وهو من داوود الطائي ، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه . وكلٌّ منهم أثنى عليه وأقرّ بفضله . ثمّ قال صاحب الدرّ معلّقا : فيا عجبا لك يا أخي ، ألم يكن لك إسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار ؟ أكانوا متّهَمين في هذا الإقرار والإفتخار ؟ وهُمْ أئمّة هذه الطريقة ، وأرباب الشريعة والحقيقة ، ومن بعدهم في هذا الأمر فَلَهُم تبع ، وكلّ ما خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع . وذلك في كتاب الدرّ المختار ج(1) ، ص(43) ، وعليه حاشية ابن عابدين .
وقال الإمام مالك رضي الله عنه : ” مَن تفقّه ولم يتصوّف فقد تفسّق ، ومن تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقّق ” وذلك في كتاب الشفا للقاضي عياض ، شرح ملاّ علي القارئ ، ج(5) ، ص(408) ، وذكرها أيضا في كتابه ” عين العلم وزين الحلم ” ، ج(1) ، ص(33) ، ونقلها كذلك العلاّمة العدوي على شرح الإمام أبي الحسن في الفقه المالكي ، ج(2) ، ص(195) .
وجاء عن الإمام الشافعي قوله : ” حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث ، ترك التكلّف ، وعِشرة الخَلْقِ باللطف ، والإقتداء بطريق أهل التصوّف ” ، وذلك في كتاب ” كشف الخفاء ومُزيل الإلباس في ما اشتهر من الأحاديث عن ألْسِنَةِ الناس ” للعجلوني ، ج(1) ، ص(341) .
ونقل العلاّمة محمد السفاريني الحنبلي ، عن إبراهيم بن عبد الله القلانسي ، أنّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال عن الصوفية : ” لا أعلم أقواما أفضل منهم ، قيل : إنّهم يستمعون ويتواجدون ، قال : دعوهم يفرحوا مع الله ساعة ” ، وهذا في كتاب ” غذاء الألباب شرح منظومة الآداب ، ج(1) ، ص(120) .
فهذه أقوال الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم في بيان فضل التصوّف ، ومنزلة السادة الصوفية في الإسلام .
فإذا كانت هذه هي آراء علماء هذه الأمّة وخيرة رجالها . فإنْ حَكَمْنَا على التصوّف من خلال واقع سلوك الكثير من المنتسبين إلى التصوّف فسيكون حكمنا عليه بأنّه غير صالح للتطبيق ، ونكون قد ظلمناه بهذا الحكم لأنّ واقع سلوك هؤلاء الكثيرين يخالف واقع حقيقة التصوّف . فكَمَا أنّ انحراف البعض عن الإسلام لا يستدعي الحكم بعدم صلاحية الإسلام ، فكذلك انحراف البعض عن الصوفية لا يبرّر الحكم بعدم صلاحية التصوّف . فالعبرة بصلاحية المنهج ، أمّا التطبيق فيخضع لمؤثّرات بيئية مختلفة ، ولاعتبارات واقعية تسهم سلبا أو إيجابا في اتّساع رقعة التطبيق أو ضيقها .
وبما أنّ التصوّف يمثّل الجانب الأخلاقي في الإسلام ، فإنّ الإلتزام به أشقّ على النفس من الإلتزام بسائر تعاليم الإسلام الأخرى ، وباعتبار أنّ ترويض النفس على الأخلاق الفاضلة يستدعي مجاهدة أهوائها وشهواتها ، وهذا سرّ عزوف الكثيرين من سلوك طريق التصوّف ، وتعثّر بعض السالكين لطريقه .
إنّ التصوّف الإسلامي في حقيقته وجوهره منهج تربوي من صميم الإسلام يستهدف تزكية النفس ، وتطهيرها من رذائلها الخلقية ، وتزويدها بالفضائل الإسلامية ، امتثالا لقول الحقّ تبارك وتعالى : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (1)
الفصل الأوّل
الإنتشار العالمي للطريقة التجانية ، وثمرة جهودها في التربية الروحية والإجتماعية .
عمل علماء الطريقة التجانية على غرس القيم والأخلاق والآداب الإسلامية الفاضلة في نفوس مريديهم ، وبذلك استطاعوا أن يبنوا مجتمعا تسود فيه روح الفضيلة والمودّة والمحبّة ، وغيرها من صفات حميدة ساعدتْ في تماسك المجتمع ، وتثبيت دعائم التكافل الإجتماعي فيه ، فتأثّر بهم من حولهم من الناس فالتحقوا بركبهم ، وهذا الأمر ساعد كثيرا على نشر هذه الطريقة في أنحاء مختلفة من بقاع العالم ، وأكثر المناطق انتشارا فيها هي إفريقيا ثمّ تليها آسيا .
وقد اتّصفت الطريقة التجانية واشتهرت بأنّها طريقة العلم والعلماء ، حتّى أنّ أحد ألَدِّ أعدائها وصفها بذلك . وقد أورد ذلك الشيخ عمر مسعود التجاني حفظه الله ضمن أمور جعلت الطريقة التجانية تشتهر بذلك ، فقال : ” إنّ خصوم الطريقة التجانية والمنكرين عليها مُقِرُّونَ لها بأنّ شيوخها علماء من عليّة القوم ، ويكفينا ذلك أنّ الهلالي ، وهو عدوّ التجانيين اللدود وخصمهم الشديد الخصومة لهم ، يقول عنهم : رأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين ’ قسمٌ ينتمي إليه العلماء وعليّة القوم ، وقسمٌ ينتمي إليه السوقة وعامّة الناس . ثمّ قال : والطريقة التجانية والدرقاوية والكتانية ، وإن كان أهلها في بلادنا قليلا ، تؤلّف القسم الأوّل ” .
ويصف الشيخ عبد الحليم محمود ، مفتي جمهورية مصر العربية ، التجانية بأنّها من طرق أهل التزكية ، تزكية النفس ، الذين تخصّصوا لتصفية القلوب من المعاصي الباطنة ، وهم الذين يسمّيهم العلماء المحقّقون ( الصوفية ) . ثمّ استطرد قائلا : وإذا كان من العلماء من تخصّصوا لدراسة العقائد ، وردّ شُبَهِ الملحدين والمشكّكين ، ومنهم من تخصّص في دراسة السنّة ورجالها لتمييز الصحيح من غيره من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ منهم من تخصّص في تزكية النفوس وتربية الهِمَمِ ، وتطهير القلوب من الأدران والأرجاس ، سيْرا في طريق التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى بحسب الطاقة الإنسانية ، وَهُمُ الصوفية ، ومنهم التجانيون .
وبهذا ظلّ الشيخ سيّدي أحمد بن محمد التجاني ، مؤسّس هذه الطريقة ، رضي الله عنه ، طول حياته يربّي أتباعه على تزكية النفس ، والرقيّ بها إلى عالم المُثُل ، ويحضّ أصحابه على التمسّك بمبادئ الشرع الحنيف ، إلى أن لاقى ربّه بنفس راضية مرْضية ، ثمّ عمل على نهجه خلفاؤه وأتباعه من بعده ، فرَبُّوا بذلك أجيالا قادوا مسيرة هذه الأمّة . وما أروع تلك النصائح التي أوصى بها الشيخ رضي الله عنه خلفاءه ومقدّميه ، وإنّها لأكبر دليل على بصماته الواضحة في منهجه في التربية الروحية والإجتماعية .
وهكذا استطاعوا تأسيس دولة إسلامية تجانية في غرب إفريقيا عملت على مقاومة الإستعمار الفرنسي ، والتصدّي له بكلّ أنواع سُبُل المقاومة ، حتّى قالعنها بعض المؤرّخين ، وهو يذكر دور التجانية في نشر الإسلام : لولا قضاء فرنسا على سلطنة التجانية كادت إفريقيا كلّها أن تكون مسلمة .
كما وصفها الكاتب والمؤرّخ التشادي الشهير الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي بقوله : ” وإذا ألْقيْنا نظرة شاملة على حركة الحاج عمر نجد أنّها نجحتْ في تقوية الوحدة بين المسلمين في غرب إفريقيا ، وأنّها أقامت دولة إسلامية أكثر مركزية من دولة سكتو ، أو دولة الشيخ أحمدو لوبو في ماسينا . وقد تكوّنت هذه الدولة في منطقة عرفت الإسلام في وقت مبكّر . وكان الحاج عمر ينادي بالتربية الروحية عن طريق ممارسة أوراد الطريقة التجانية ، وهي أحدث من الطريقة القادرية التي انتهجها كلٌّ من الشيخين عثمان بن فودي وأحمدو لوبو ”
ويتّضح لنا من خلال ذلك المنهج الذي رسمه الشيخ سيّدي أحمد التجاني أنّ الطريقة التجانية قد بذلتْ جهودا مقدّرة في تنمية الجانب الروحي للفرد المسلم ، كما اهتمّتْ بالجوانب الإجتماعية في المجتمعات التي انتشرت في أوساطها ، إذ أنّ المَعْنِيّ الذي يمثّل جانبا هامّا في حياة الإنسان هو الجانب المعنوي ، وخاصّة الأخلاقي ، والذي يجعل الإنسان وفق ما حباه الله من فطرة أن ينمو بذاته ، ويضبط سلوكه ، ويرتفع بقدر نفسه ، ويعلو على المادّيات الحسيّة المتمثّلة في مساوئ الشهوات وما يصاحبها من ماديات . كما يتطلّع إلى الجانب المضيء في بنائه الشخصي ، وهو الجانب الروحي ، والذي أشارت إليه الآيات القرآنية الكريمة عندما أوضحتْ سواسية الخلق ، وأنّهم من نفس واحدة ، وأنّ الإنسان الفرد له قيمته ، والجماعة الإنسانية لها كيانها ووجودها أيضا .
فالإسلام لا ينادي بالفردية ، بل يدعو إلى التماسك والتعاون ، وأن تكون المسافة الإجتماعية بين الأفراد في علاقاتهم متقاربة وليست متباعدة . كما ينادي بنبذ العصبية ، فلا فرق بين أبيض أو أسوَد ، ولا فرق بين جماعة أو جماعة أخرى إلاّ بالتقوى .
وأقرب ما يكون التجانيون من تطبيق المنهج الروحي والإجتماعي الذي جاء به الإسلام واتّبَعَتْه طريقتُهم ، هو عند اجتماعهم لأداء أورادهم ، ويتجلّى ذلك في تلاوة الوظيفة ، وذِكْرِ الكلمة المشرّفة ( لا إله إلاّ الله ) من عصر يوم الجمعة ، حيث تتغّذى أرواحهم بنور الله أثناء الذكر ، فتصفو قلوبهم وينجلي صدؤها وتزداد نورا ، وبذلك تكون متهيّئة لقبول كلّ ما جاء به الإسلام من خصال طيّبة تسهم في بناء مجتمع متكافل تسود فيه روح المودّة والمحبّة والرضا والعفو . كما تكون بعيدة كلّ البعد عمّا يعكّر صفاء المودّة والمحبّة بينهم . وبذلك يكونون قد أسّسوا مجتمعا صالحا متماسكا يتصدّى لكلّ من يريد تفكيك خلاياه وتدميرها ، عملا بقوله تعالى : وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (2) ، وقوله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا . (3)
الفصل الثاني
الطريقة التجانية وأثرها في تماسك المجتمع
ليس للتجانيين سوى لَمّ الشمل ، وجمع كلمة المسلمين ، وربط وحدتهم وقوّتهم ، ويتبلور ذلك في تمسّكهم بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وقيمة الوقت ، ونصب ميزان الشرع ، وتعليم العلم ، وعدم التفريق بين المسلمين بتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو تبديعٍ ، كما يفعل خصوم التصوّف وأعدائه ، وما يُقال عنهم من تكفير مَنْ ترك التجانية ، فهو كلام ساقط ، رَدَّهُ غيرُ واحد من علماء هذه الطريقة وغيرهم . بيد أنّ رجال التجانية ، كغيرهم من رجال الصوفية ، يأسفون كلّ الأسف على من يخرج من طريقهم ، وذلك أنّهم يروْن – وهو حقّ – أنّ هذه الطرق هي معارج إلى الله ، وذِكرٌ وتسبيحٌ ، وتعاهد بالتزام الطاعة ، وتقرّبٌ إلى الله بشتّى الوسائل الشرعية الصحيحة . ومَن أخذ طريقة ثمّ ترَكها يكون إذن تاركا لطاعة قد تعهّد بالتزامها ، وبايع الشيخ على الطاعة لله ورسوله . وشخصٌ كهذا يكون قد نقض ما عاهد الله عليه على يد الشيخ ، فهو لم يوفّ بعهده ، وهو إذن عاصٍ ، وعليه أن يتوب توبة خالصة . وكلّ هذا ليس خاصّا بالطريقة التجانية ، وإنّما هو عامّ بالنسبة إلى كلّ الطرق الصوفية . وأكبر دليل على ما يقوم التجانيون به تجاه وحدة الأمّة الإسلامية وربط نسيجها ، هو تلك المساجد ، والزوايا ، والكتاتيب ، التي قاموا بتأسيسها سواء داخل المجتمعات التي تنتشر فيها طريقتهم أو خارجها ، والتي يجتمع فيها المسلمون لتفقّد أحوالهم ، وحلّ خلافاتهم ومشكلاتهم التي تنشب بينهم .
وما أكثر التعاليم التي وضعها الشيخ سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه في الحثّ على وحدة المسلمين ، وها هي كتبهم مليئة بذلك لمن أراد أن يستفيد منها . ويكفي الطريقة التجانية فخرا وقوفها ضدّ الحركة القاديانية التي تغلغلت داخل صفوف المسلمين ، ومقاومتها للتبشير والتنصير . فقد ذَكَرَ الشيخ عمر مسعود التجاني نماذج ممّن وقفوا ضدّ الفكر القادياني ، وذلك في ردّه على مقال نُشِر في جريدة الشرق الأوسط منسوب إلى الشيخ علي الطنطاوي يحمل فيه على التجانية وأتباعها ، ومن جملة ما جاء فيه : ” إنّ موقعها – يعني التجانية – من الفرنسيين في الشمال الإفريقي مثل موقع القاديانية في الهند من البريطانيين ” . ومن هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ عمر مسعود : الشيخ محمد الحافظ التجاني شيخ التجانية بمصر ، وصديقه الشيخ علي الدقر ، وتلميذ الشيخ بدر الدين الحسين . وكان هو وصديقه الشيخ علي الدقر رحمهما الله الرَّجُلَيْن اللذيْن بجهودهما رجع أناس كثيرون للإسلام وكانو قد خرجوا منه ، وتمّ إيقاف مدّ تكفيري رهيب في المنطقة مدعوم بأموال خارجية ، وتنظيمات تبشيرية نصرانية . ولولا جهود هذين الرجلين لكان الأمر انحرافا هائلا في العقيدة ، ولكن الله حفظ الإسلام بحفظه وتأييده لأئمّة الدين ، والدعاة إلى الهدى . وقد نشر زعماء القاديانية في مصر بيانا في سنة 1953 م أعلنوا فيه للعالم خروجهم من ملّة القاديانية ، وكلّ ذلك نتج عن نشاط السادة التجانية ، وجهودهم الدائمة المركّزة في القضاء على ملّة القاديانية التي أفسدت العقول ، ونقلت الناس من الإيمان إلى الكفر .
وانظر إلى جهود الحاج عمر بن سعيد الفوتي رضي الله عنه في لمِّ شمل المسلمين لمواجهة النصارى الغازين . فقد ذكر عبد الرحمن عمر الماحي بأنّ هدف الحاج عمر عندما اتّجه إلى منطقة فوتا تورو لم يكن غزو المنطقة ، بل كان يسعى للحصول على تأييد العلماء هناك من أجل نشر الإسلام ، وتصحيح العقيدة من الشوائب التي علقت بها في المجتمع الإفريقي ، وقد أيّده عدد كبير من العلماء والأجاويد والسلاطين المسلمين . واتّسمت حركة الحاج عمر بمواجهة النصارى ، حيث جاهدت قوّاته بشجاعة في كلّ المعارك التي خاضتْها ضدّ القوّات الفرنسية المدرّبة على أحدث الأسلحة ، وعلى الرغم من قلّة تسليح رجاله إلاّ أنّهم كبّدوا الفرنسيين الخسائر في الأرواح والمعدّات . وهذا ما أجبر الفرنسيين على التفاوض . ولا يمكن أن يتحقّق النصر والمقاومة ما لم يكن المجتمع متماسكا متعاونا ، لأنّ الإستعمار ما جاء إلاّ من أجل تفكيك وحدة المسلمين ، وتمزيقهم ، ونشر الكراهية بينهم .
الفصل الثالث
مساهمة التجانيين في الفكر الإسلامي
المجتمع العالمي بشقّيْه يعلم أنّ للصوفية الفضل العظيم في نشر الدعوة الإسلامية في كثير من البلدان الإفريقية والأسيوية ، وذلك بالمرابطة في سبيل الله ، وبذل الأنفس رخيصة في سبيل وحدة المسلمين .
والطريقة التجانية صاحبت المواقف الصعبة في تاريخ التصوّف الإسلامي ، وخير شاهد على ذلك أنّ الأكثرية المسيحية في العالم الأوروبي والأمريكي يعتنقون الإسلام على يد رجال التصوّف ومنهم التجانيون .
لقد أدّى علماء الطريقة الأجلاّء دورا هامّا في نشر الإسلام ودعمه ، وذلك عن طريق الوعظ والإرشاد ، وبناء المراكز الدينية والمساجد والزوايا ، ومن أبرز علماء الطريقة ، وخلفائها الذين ساهموا في هذا المجال ، العارف الربّاني ، والحكيم الصمداني ، الشريف النوراني ، سيّدي الحاج بن عمر حفيد القطب الأكبر شيخنا سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه . فقد قام برحلة واسعة النطاق استغرقت ثلاث سنوات مبتدئا من غرب إفريقيا وجنوبها إلى الشرق الأوسط ، داعياً وواعظاً ومرشداً . فقد اعتنق الإسلام على يديه الآلاف من الملوك والوثنيين ، ودخل في الطريقة التجانية الملوك والسلاطين والعلماء الأعلام .
وقام من بعده بجولة كبرى في الأقطار الإفريقية إلى الشرق الأوسط سيّدي محمد الصغير حفيد القطب سيّدي الحاج علي التماسيني ، الشريف الحسني ، رضي الله عنه ، لنشر الدعوة الإسلامية ، واعتنق الإسلامَ على يديه خلقٌ كثير ، كما أخذ الطريقة على يديه عدد كبير .
ومنهم أيضا العارف بالله سيّدي محمد الحافظ التجاني ، الشريف الحسيني ، رضي الله عنه ، حيث قام برحلات واسعة في الأقطار الشرقية والغربية للدعوة إلى الله ، والدفاع عن الدين الإسلامي ، مواجها التشويهات والإفتراءات التي ينسبها المبشّرون المسيحيون والمستشرقون . كما دافع أيضا عن التصوّف بصفة عامّة ، والطريقة التجانية بصفة خاصّة . وقد تُرجِمت رسائله بعدّة لغات منها الإنجليزية والألمانية وغيرها ، فكان سببا لدخول الكثير من الكفّار في الإسلام ، وقد أبلى عمره في ذلك إلى أن توفّي رحمه الله . وقد خلّف مؤلّفات ومخطوطات عديدة في مجال التفسير ، والحديث ، والتصوّف الإسلامي ، وغيرها .
كما أنّ هناك علماء أجلاّء في القطر السنغالي ساهموا في الفكر الإسلامي ، نذكر منهم شيخ الإسلام سيّدي مالك سي رضي الله عنه ، فقد كان داعيا إلى الإسلام وتعاليمه ، وإلى الطريقة التجانية والدفاع عنها إلى أن توفّي رحمه الله ورضي عنه .
ومنهم العالم العلاّمة ، القدوة الكبير ، شيخ الإسلام ، العارف بالله تعالى ، سيّدي الشيخ الحاج إبراهيم نياس الكولخي التجاني رضي الله عنه . فقد تجوّل في معظم الأقطار شرقا وغربا للدعوة إلى الإسلام وتعاليمه ، وإلى الطريقة التجانية والدفاع عنها ، وأسلم على يديه العديد من الكفّار والمشركين ، وسلك على يديه الطريقة عدد لا يكاد يحصى .
وهناك أيضا علماء أجلاّء من مشائخ الطريقة التجانية بالقطر السوداني أفنوا حياتهم في نشر الإسلام والمساهمة في الفكر الإسلامي ، نذكر منهم العلاّمة الجليل ، صاحب الفضيلة العارف بالله ، سيّدي الشيخ مرزوق بن الحسن التجاني رضي الله عنه . كان من كبار العلماء المدافعين عن حرمات أولياء الله تعالى ، وإحياء السنّة المطهّرة ، وهو الذي أسّس المعهد التجانيبأمّ درمان لدراسة القرآن وعلومه ، والحديث وعلومه .
ومنهم العالم العلاّمة ، شيخ الإسلام ، العارف بالله تعالى ، سيّدي محمد البدوي التجاني رضي الله عنه ، وهو أوّل من تولّى مشيخة الإسلام بالقطر السوداني ، وكان داعيا إلى الله وإلى الإسلام وتعاليمه ، وإلى الطريقة التجانية والدفاع عنها إلى أن توفّي رحمه الله تعالى .
ومنهم صاحب الفضيلة ن العلاّمة الجليل ، العارف بالله ، سيّدي الشيخ أبو القاسم هاشم التجاني رضي الله عنه ، وهو الذي تسبّب في إنشاء المعهد العلمي بالجامع الكبير بأمّ درمان ، وهو أوّل معهد علمي أُسِّسَ في السودان عام 1912 م . وقد تخرّج منه معظم العلماء بالقطر السوداني والدول المجاورة ، وأوّل دفعة حملة الشهادة العالمية سنة 1924 م . وكان داعيا إلى الله ، وإلى الإسلام وتعاليمه ، والطريقة التجانية ، إلى أن توفّي إلى رحمة الله .
ومنهم العالم سيّدي محمد سعد بن عبد الله الرباطابي التجاني ، والعلاّمة سيّدي محمد مجذوب مدثر التجاني عميد كليّة الشريعة والعلوم الإجتماعية بجامعة أمّ درمان الإسلامية ، ورئيس هيئة الإفتاء بالسودان ، ومقدّم الزاوية الكبرى بأمّ درمان .
هذا وإنّ الطريقة التجانية دخلت إلى تشاد في النصف الأوّل من القرن الثالث عشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، الموافق لـ 1820 م ، فانتشرت في هذا القطر التشادي على يد كبار العلماء الأجلاّء المشهورين بالولاية والصلاح والبركة . وقد ساهمو مساهمة كبيرة في الدعوة إلى الله ، ونشر الإسلام وتعاليمه ، وإرساء دعائم الطريقة التجانية في معظم البلاد . فقد قاموا ببناء المساجد والزوايا والمراكز الدينية ، حيث تدرس فيها جميع العلوم الدينية ، وقد تخرّج من هذه المراكز علماء أجلاّء حملوا لواء الدعوة من بعدهم إلى الآن . وقد خلّف هؤلاء العلماء عدّة مخطوطات دُوِّنتْ فيها كثير من العلوم الدينية من تفاسير وحديث وفقه وعقيدة .
ويجدر بنا أن نذكر من هؤلاء العلماء ، العالم الجليل في علميّ المعقول والمنقول ، سيّدي الإمام حبيب بن نعمة رضي الله عنه ، المولود في قرية من قرى أبشة ، وتعلّم فيها القرآن ومبادئ العلم ، ثمّ رحل إلى بلاد المغرب لطلب العلم الشريف ، فأخذ ما قسم الله له من العلم من المشائخ الراسخين ، وأخذ الطريقة التجانية والإذن في تلقينها لمن طلبها ، عن الشيخ سيّدي عمر الفوتي ، ثمّ عاد إلى تشاد وصار يدرّس العلم ، وينشر الطريقة ، ويرشد الناس في أمور الدين ، وعُيِّنَ إماما وخطيبا للمسجد العتيق في مدينة أبشا ، وله كرامات كثيرة ، وكان من أهل الكشف ، وقد توفّي بمدينة أبشة ، وهي العاصمة الثانية لمملكة العبّاسيين ، ودُفِنَ بالجامع العتيق .
ومنهم المقدّم المبجّل الشيخ سيّدي أحمد الحبو رضي الله عنه . وُلِدَ في قرية من القرى الواقعة غرب أبشا ونشأ بها ، وقرأ القرآن ، ثمّ هاجر إلى بلاد المغرب لطلب العلم ، واجتمع بكثير من العلماء العاملين بعلمهم واستفاد منهم علوما ومعارفا . فقد أخذ الطريقة التجانية والتقديم فيها عن الشيخ سيّدي مولود فال ، ثمّ عاد إلى تشاد واستقرّ بقريته يدرّس العلم ، وينشر الطريقة ، إلى أن توفّي رحمه الله .
ومنهم المقدّم الأجلّ ، العارف بالله سيّدي يعقوب أبو كويسة التجاني ، المولود بقرية ترجم ، وهي تقع غرب مدينة أبشة ، ونشأ فيها وقرأ القرآن على يد والده إدريس ، وأخذ عنه مبادئ العلم ، ثمّ هاجر إلى بلاد المغرب لطلب العلوم الشرعية ، فأخذ ما قسم الله له منها ، وأخذ الطريقة والتقديم على الشيخ سعد الفيلالي ، ثمّ رجع إلى قطره تشاد ، وأقام بقريته يدرّس العلم وينشر الطريقة ، وله مناقب كثيرة .
ومنهم المفتح العارف سيدي الوالي بن إدريس صاحب الجامع رضي الله عنه وهو شيخ المعهد العلمي بالجامع العتيق بأبشة ، وهو شقيق الشيخ يعقوب أبو كويسة . ولد بقرية ترجم قرب أبشة ، وقرأ القرآن ومبادئ العلم على يد والده ، وهاجر إلى مصر فالتحق بالأزهر الشريف ، فدرس على الشيخ الياجوري مدة منتظما في الأزهر حتى تخرج منه ، وأخذ الطريقة التجانية والتقديم عن الشيخ سعد العلاني ، ثم عاد إلى تشاد وصار يدرس العلم وينشر الطريقة ، وقد تخرج على يديه حق العلماء في القطر التشادي في عهده ، وقد تولى مشيخة المعهد العلمي بالجامع العتيق بأبشة في عهد السلطان يوسف بن محمد شريف الذي تولى المملكة من 1874 إلى 1899 م . وكان الشيخ الوالي مشهورا بالصلاح والولاية والبركة . توفي رحمه الله ودفن بالجامع العتيق وقبره مشهور يقصده الزوار .
ومنهم المقدم الجليل سيدي الشريف عبد العزيز أبو غرة . ولد رضي الله عنه بقرية أم فجة ، وهي تقع شرق شمال أم دم وجنوب أبشة . قرأ القرآن الكريم ، هاجر لطلب العلم ثم حج بيت الله الحرام ، وزار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأخذ الطريقة والتقديم عن سيدي محمد الزبير رضي الله عنه ، وعاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه حيث أقام حلقات العلم ، وانتشرت الطريقة على يديه في القرى والبوادي والأمصار ، فكان داعية عظيما ومرشدا ، إلى أن توفي رحمه الله ودفن في قريته أم فجة ، وقبره مشهور يزار .
ويمكن أن نجمل مساهمات التجانيين في الفكر الإسلامي فيما يلي :
1. المؤلفات
يُعدّ التجانيون في طليعة العلماء الذين أخذوا من كلّ فنّ بسهم وافر ، ويشهد التاريخ بمؤلفات لهم كثيرة ، ووسائل علمية في مختلف فروع المعارف الإسلامية ، كالفقه والتفسير ، والسيرة واللغة والأدب والميراث ، والمصطلح وفقه الطريقة . فمعظم هذه المؤلفات مطبوعة ، وبعضها مخطوط . وإن تمسّكت الطريقة بالجانب الروحي ، إلاّ أنّها سهّلت الطريق للعلماء في حفظ دستور الأمّة باللسان والقلم ، وحثّت على خدمة الأمّة تعليما وتثقيفا .
2. نشر الإسلام
لعب التجانيون دورا كبيرا في نشر الإسلام ومبادئه بعد عهد الصحابة والتابعين ، وكان لهم نشاط ميمون في الدعوة إلى الله ، وذلك أنّهم يدعون الناس إلى دين الله بواسطة القدوة الطيّبة ، والأسوة الحسنة . وممّا سهّل لهم الدعوة وانخراط العامّة إليهم ، اعتناؤهم بالجوانب الروحية والأخلاقية ، والوجدانية ، التي هي مطلب كلّ مسلم . وكذلك ممّا سهّل لهم نشر الدعوة والدين ، وضوح العقيدة وتبسيط العلوم على حسب المقدرات الخاصّة بالأفراد . فكبار الحفّاظ والقرّاء والأدباء في البلاد الإسلامية من الصوفية ، ولا سيّما التجانيين . وكنموذج لنشر الدعوة الإسلامية الشريف سيّدي الحاج بن عمر رضي الله عنه ، فقد قام برحلة واسعة النطاق استغرقت سنوات للدعوة لدينالله .
3. محاربة المستعمر
حارب الأفارقة الاستعمار بهدي الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، وسقط على أيدي التجانيين دعاة التبشير من المسيحيين .
4. الجهاد
لعب التجانيون دورا كبيرا في محاربة الوثنيين وإعلان الجهاد ضدّهم بقيادة الشيخ سيّدي الحاج عمر الفوتي الذي كوّن جيشا حارب به الوثنيين وهزمهم شرّ هزيمة ، وخلق للتجانية سلطة إسلامية عظيمة وسط بلاد الزنوج ، وجاء بعده من عمل على توسيع فتوحاته ، ومقاومة الاستعمار الفرنسي حتى صار وجود هذه السلطة التجانية وسط السودان خطرا عظيما على الاستعمار . وقد أشار بعض المؤرّخين إلى أنّ إفريقيا كادت تكون كلّها إسلامية لولا قضاء فرنسا على سلطة التجانية ، كما أنّ أوروبا كادت تكون كلّها إسلامية لولا انتصار شارل هارتل على العرب في موقعة بواتييه .
5. الاحتفال بذكرى مولد النبيّ عليه الصلاة والسلام
يحتفل التجانيون بذكرى المولد النبويّ مثل باقي الطرق الصوفية ، واحتفال السادة التجانية يقدم على استعراض حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسنّته ودعوته ، بإلْقاء المحاضرات ، والعظات ، والأحاديث ، والخطب ، وعقد اجتماعات في المساجد والجمعيات والأندية للاستماع لكلّ ما يتعلّق بالإسلام ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ، وتجنيد الأجهزة الإعلامية ، والجرائد اليومية ، والمجلاّت والدوريات ، في بلاد المسلمين لخدمة هذه الشعيرة السنوية العالمية . فمساهمة الطريقة في هذا الجانب واضحة .
6. بناء المدارس والمعاهد الدينية والزوايا
قامت الطريقة التجانية بمساهمات عديدة في مجال التعليم والتربية ، فأنشأ التجانيون في بلاد الإسلام معاهد دينية قوامها الطريق إلى الله ، وعشرات الآلاف من الزوايا معمورة بالصلوات والذكر وقراءة القرآن ، وحافلة بشعائر الدين ، ولا تعرف الكلل ولا الملل ، والدعوة إلى الله دون وقف ولا حبس ، يتجنّد فيها الأئمّة والمؤذّنون والعلماء مجانا لعمارتها ليلا ونهارا بالعلم والهدى والمعرفة . ومن تلك المعاهد في البلاد الإسلامية ما كان في موريطانيا وتشاد ونيجيريا والسنغال وغانا وغيرها من البلاد ، تعتبر نموذجا للمدارس التجانية . فقلّما نجد خليفة أو مقدّما منتسبا إلى حضرة الشيخ سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه إلاّ وقد أنشأ مدرسة لتعليم القواعد الإسلامية واللغة العربية ، حتى أنّ منهم من له معاهد لتعليم اللغتين العربية والإنجليزية بجانب العلوم الإسلامية .
7. المؤتمرات والندوات الدولية
ساهم التجانيون في إلقاء المحاضرات في الاجتماعات والمؤتمرات والندوات الدينية في أنحاء العالم الإسلامي . وكلّ يعمل في وطنه على تطبيق ما توصلوا إليه من توصيات خرج بها المؤتمرون خدمة للدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة .
8. الإجهار بذكر الله (جماعة) يوميّا
وذلك لجعل المجتمع الإسلامي ذاكر الله في كلّ وقت ، وتمسّكا بالقدوة الحسنة للناظر ، وبعثا للروح الجمالية في المجتمع ، وعملا بقوله تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (4) .
9. إحياء ليلة الإسراء والمعراج
وذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ، وفضائله وخصوصياته على سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام .
10. الإصلاح
التجانيون يساهمون في إصلاح المجتمع بالأفكار الإسلامية السديدة المفيدة في الكتاب والسنّة ، فيسعون في إصلاح ذات البين ، والتحذير من التحاسد والتباغض ، وحضّ المجتمع على التحابب والتوادد والتزاور ، وحثّهم على احترام المقدّسات ، وجميع أفراد المجتمع وقضاء حوائجه . فالطريقة التجانية عبر تاريخها الطويل وضعت لَبِنَات حيّة قام عليها المجتمع الإسلامي ، وذلك لاحترام الطريقة القواعد الشرعية الخاصّة ووضعها أمام المجتمع بصورة طيّبة حسنة ، منهجها القدوة والأسوة الحسنة ، وهذا سهّل لها الطريق والانتشار في إفريقيا وجنوب الصحراء . فكلّ فقه إسلامي أساسه الكتاب والسنّة . وضعت الطريقة التجانية يدها على كلّ جوانبه سعيا لإظهاره والعمل به .
الخاتمة
نستخلص من خلال هذا البحث الوجيز ، الذي تناول المحور الثالث من محاور الملتقى العالمي للإخوان التيجانيين ، أنّ الطريقة التجانية لعبت دورا كبيرا في تربية الجانب الروحي والاجتماعي في أوساط المجتمعات التي انتشرت بينها أدّت إلى تماسكها ووحدتها وربط نسيجها ممّا ساهم مساهمة فاعلة في الفكر الإسلامي ، ويتلخّص ذلك في ما يلي :
أوّلا : العمل بالكتاب والسنّة :
الطريقة التجانية منهجها الكتاب والسنّة اإبتداء ، وغايتها الكتاب والسنّة انتهاء . قال صاحبها سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه : ( إذا بلغكم عنّي شيء فزنوه بميزان الشرع ، فإن وافق فاعملوا به وإن خالف فاتركوه ) . وقال سيدي محمد الحافظ التجاني : ” والأصل الذي أسّس شيخنا طريقته عليه الحفاظ على الشرع الشريف علما وعملا واعتقادا ، وترك المحرّمات كلّها ” . وقال سيّدي محمد الحافظ أيضا : ” الطريقة التجانية طريقة من طرق الهدى المشيّدة على الكتاب والسنّة ، والبعد عن البدع الدخيلة في الإسلام ، وخلاصتها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، مع إقامة الحجّة لله تعالى على الخلق ، والقيام بالواجبات ، والإنتهاء عن المحرّمات ، والتقرّب إلى الله بالنوافل والخير بقدر الاستطاعة ، والتخلّق بالأخلاق الكريمة ، واتّباع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في الظاهر والباطن ، والمحافظة على الطهارة الظاهرة والباطنة ، طهارة البدن والخلق ” . ومن انتسب إلى الطريقة وخالف ذلك فليس منها في شيء ، فأثر الطريقة في بناء المجتمع الذي تنشر فيه هو صورة حتمية ظاهرة في أفراده ، وهو الأخذ بعنان الكتاب والسنّه وبتعاليم الطريقة ، وذلك أنّها كاشفة وموضّحة لسداد الشرع . فالمجتمع الخالي من مبادئ الإحسان تارك للكتاب والسنّة ، فالطريقة نور المجتمع وتماسكه.
ثانيا ـ الوقت عند المريد التجاني :
الوقت هو الحياة ، فأكبر نعمة يمنحها الله سبحانه وتعالى لعبيده هي الوقت . فوقت التجانيين معمّر بذكر الله تعالى وقراءة القرآن ، والتحدّث في التعاليم الإسلامية الحميدة ، والاتّصال بربّ العباد في كلّ حين ووقت ، وذكره في الخلوات والمساجد والزوايا . فالمجتمع ينظر للطريقة بأنّها الأسوة الحسنة التي أخذ عنها قيمة الوقت فكان سرّ تماسكه . فالوقت كلّه باقيات صالحات ، وقراءة القرآن وتلاوته ودراسته ، والتأمل في آيات الله . فالطريقة هي المدرسة التطبيقية لقيمة الوقت في المجتمعات .
ثالثا : الشرع ميزان الطريقة التجانية :
فالذي يبرهن على مكانة الطريقة في قلوب المجتمعات ، والالتفاف حولها قلبا وقالبا ، هو التمسّك بالكتاب والسنّة المتمثّل في قول سيّدي أحمد بن محمد التجاني رضي الله عنه حيث قال : ( إذا اسمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه ) . فهي قولة لم تَدَع مجالا فقهيّا ولا عقديّا إلاّ ودخلت فيه . فخلق للمجتمعات التمسّك بأقواله و أفعاله لأنّه إسوة حسنة ، ومظهر إسلامي أوحد ، فجالت المجتمعات حوله آخذة منهاجها من توجيهاته السديدة ، وتعليماته المفيدة ، ونُكَتِهِ الجليلة ، فكان المجتمع السليم ، وكان التماسك الرحيم .
رابعا : العلم هدى التجانية
نشر الإسلام ، وتوحيد المجتمعات وتماسكها ، وتأسيس المعاهد والزوايا لا يكون إلاّ بالعلم والمعرفة . فهذا سرّ بقاء الطريقة التجانية وخلودها . فمنهج العلم والعمل به واضح في منهج الشيخ التجاني رضي الله عنه حيث ألزم أتباعه التعلّم والتبحّر إلى الله ورسوله ، عملٌ لا يأتي إلاّ من عالم عارف بالله ، فكانت الطريقة ، وكان تماسك المجتمع ولله الحمد .
خامسا : الطريقة التجانية ونشر الفضيلة :
ممّا لا مجال للحديث فيه أنّ الطريقة التجانية نشرت الإسلام ، ونشرُ الإسلام نشرٌ للفضيلة ، ونشرٌ للّغة العربية . فنشرُ الفضيلة يكمن في :
1. مجالس الذكر
وفي الصحيحين عنه صلّى الله عليه وسلّم : « إن لله تعالى ملائكة سيّارة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلمّوا إلى حاجتكم فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء ، فيقول الحقّ سبحانه وتعالى أشهدكم إنّي قد غفرت لهم . فيقول ملك من الملائكة يا ربّ فيهم فلان الخطّاء إنّما مرّ فجلس معهم . قال فيقول الله تبارك وتعالى هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم » . فالطريقة في كلّ يوم تبعث في نفوس المجتمع الخير ، وتزيل عنهم صدأ الذنوب بسبب الاجتماع للذكْر ، وهي روح التماسك ووحدة المجتمع في كلّ وقت وحين . وقال الله تعالى : أذكروني أذكركم (5) فالذكر يجلب الرزق وييسّره ، ويُرضي الربّ ، ويفتح باب المغفرة ، ويورّث العبد إجلالا لربّه ، به تحيا القلوب ، وهو نور الأرواح وضياؤها .
2. التوبة
قال تعالى : فاجتباه ربه فجعله من الصالحين (6) وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار (7) ، ومهما كان الذنب عظيما فعفو الله أعظم ، ورحمته سبقت غضبه ووسعت كلّ شيء . فالطريقة التجانية داعية إلى الرجوع والإنابة إلى الله في السرّ والعلن ، فكان منهجها الدعوة إلى الله وإرجاع المذنبين إلى ساحة الحضرة الإلهية . ومن الفضائل التي نشرتها الطريقة التجانية ، وظهر أثرها واضحا في المجتمعات الإسلامية ، قوله تعالى : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك (8) ، وروي في صحيح مسلم عن عمر وسفيان بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام كلمة لا أسأل أحدا غيرك ، قال قل آمنت بالله ثم استقم » . فالاستقامة مرحلة هامّة من مراحل السير إلى الله عزّ وجلّ ، والسموّ بالعقل والروح ، فبعد أن كان العبد يعبد الله خوفا من عقابه وطمعا في جنّته ، يصير يعبده حبّا وامتثالا لأمره ، ولا يهمّه ما ترتّب على تلك العبادة من جزاء .