يشغل مصطلح التصوف الكثرين، ويجلب إلى ساحته الدارسين والباحثين والمتتبعين بكل أصنافهم وألوانهم وميولاتهم واتجاهاتهم الفكرية والعقدية، محاولين كل من موقعه فك رموز قوته وفرض وجوده على الساحة، والقراء في كتاب وسطي هذا ، ويحاول عن طريق مقدم قراءته الأستاذ الفاضل محمد العراقي الحسني، يجلي المرآة، ويفكر الشفرات ويرسم التوجه الحق
“سلسلــــــة “علوم الدين للجميع (3)
“التصوف بين الإفراط والتفريط”
محمد العراقي الحسيني
الدار البيضاء – المغرب
رمضان 1430 – غشت 2009
بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله
أقدم هنا عرضا لكتاب أو بالأصح أوجه دعوة لقراءة كتاب أراه من أحسن ما ألف حول التصوف من المعاصرين يحمل عنوان “التصوف بين الإفراط والتفريط” لمؤلفه الدكتور عمر عبد الله كامل الذي طبعته دار ابن حزم اللبنانية طبعة أولى سنة 1422هـ الموافق 2001 م.
الكتاب هو من الحجم المتوسط [17 سم على 25 سم] يقع في 286 صفحة ويتكون من اثني عشر فصلا بالعناوين التالية :
1- الإنصاف / 2- التصوف بين مادحيه وقادحيه / 3- حاجتنا إلى التصوف النقي / 4- علم التصوف وأشهر أئمته / 5- أركان التصوف / 6- الكرامة والولاية / 7 – الإلهام بين الإفراط والتفريط / 8- نحو قراءة منهجية للتراث الصوفي الإسلامي / 9- تزكية النفس بين مشكلة الابتداع وفقـدان الأتباع / 10- أمـور اجتهادية بين الصوفية والسلفية / 11- أخطاء أساسية تخالف العقائد الإيمانية / 12- التحذير من أدعياء التصوف.
يتميز الكتاب بأمرين :
1- الأول هو سلوك مؤلفه منهج الوسط والاعتدال الذي يتجلى في الإنصاف والتقريب بين المفاهيم والآراء والمواقف. يعتمد التقريب لا التلفيق.
2- الثاني هو معرفة مؤلفه للتصوف معرفة متمكنة وليست سطحية مقتصرة على مجرد التعامل مع مصطلحات الصوفية.
الفكرة الأساس والمحور في هذا الكتاب يمكن عرضها كالتالي:
إن قراءة منصفة للتصوف الإسلامي لا يمكن إلا أن تعترف بدور التصوف في إنشاء علم الأخلاق وتزكية النفس، كما لا يسعها إلا أن تعترف بوجود انحرافات شابت الميدان الصوفي، منها ما هو يسير ومنها ما هو خطير طال أصول الدين وقواعده الأساسية.
وأعرض أهم ما ورد في هذا الكتاب من أفكار وهي ستة :
1- الفكرة الأولى: يعرف العالم الإسلامي في تاريخه إلى اليوم ثلاثة مواقف من التصوف بشقيه النظري والعلمي :
1- موقف المغالين في إنكاره الذين لا يرون فيه أي شيء جميل.
2- موقف المغالين في تقديسه وتقديس رجالاته وطقوسه الذين لا يرون فيه عيبا ولا نقصا.
3- موقف المعتدلين المنصفين الذين يأخذون منه ما وافق الشرع وينكرون منه ما خالف الشرع ويتوقفون فيما لم يتبين لهم.
وموقف الاعتدال والإنصاف نجده عند عدد من المنتسبين للتصوف كما نجده عند جملة من غير أهل التصوف. ويقدم مؤلف الكتاب أسماء ونصوص المعتدلين من غير المنتسبين كابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية وابن عبد الوهاب ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد إقبال من أئمة ودعاة السلفية والدكتور يوسف القرضاوي من المعاصرين.
كما يستشهد المؤلف ببعض المنتسبين للتصوف الذين تميزوا بموقفهم الوسط من المعاصرين أمثال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
2- الفكرة الثانية : الإنصاف يقتضي أن نميز داخل الميدان الصوفي بين ثلاثة أنواع من التصوف في تمام التباين والتباعد. والإنصاف يقتضي منا أيضا أن لا نتخذ منها جميعا نفس الموقف ولو أنها بمجموعها تندرج تحت اسم واحد جامع هو التصوف. هذه الأنواع الثلاثة هي :
1- التصوف النقي السني الرباني: الذي أيده ودافع عليه وشهد لرجاله بالخيرية جمهور الأمة بما فيها كبار دعاة السلفية.
2- التصوف الفلسفي الباطني: الذي أشرب تعاليم الباطنية الإسماعيلية ودس فيه إلحادهم ومقالاتهم الشنيعة في الدين.
3- التصوف المنحرف المزور: تصوف الدخلاء والأدعياء الذين اتخذوا التصوف حرفة وتوارثوا فيما بينهم بدعا وشعارات زائفة.
وإن التمييز بين هذه المكونات الثلاثة المحسوبة على التصوف هو الذي يجعلنا نحدد موقفا واضحا منها ويجعلنا لا نخجل من الانتساب إلى التصوف ونعني به التصوف السني النقي الرباني.
3- الفكرة الثالثة : التمييز بين الأنواع الثلاثة للتصوف يمكننا من قراءة موضوعية وصحيحة لتراثنا الصوفي الإسلامي: التراث النقي السني. قراءتنا هذه تمكننا من إدراك الحقائق التالية :
* الحقيقة الأولى : إن التصوف الإسلامي نبت ونشأ نشأة طبيعية في الحياة الإسلامية. فالإسلام في أصوله دين يعتمد على التوازن بين الروح والمادة. ثم إن الفتوحات الإسلامية والالتقاء بحضارات مختلفة أفرزت أشخاصا ومجموعات اختصت بالإقبال على العبادة وعلى الزهد فيما فتح على الناس من الدنيا فلقبوا بالصوفية. فإرجاع التصوف إلى مصادر بوذية ومسيحية ويهودية لدى المنصفين غير صحيح ويعتبر خطأ تاريخيا فاحشا.
يقول رشيد رضا في الرد على من زعم أن التصوف من أعظم الأسباب التي أدت إلى جهل المسلمين بدينهم وبعدهم عن التوحيد الخالص “إن قولهم هذا فيه غلو. لأن التصوف قد ظهر في القرون الأولى للإسلام وكان له تأثير كبير على المسلمين، وكان الهدف منه تهذيب الأخلاق وترويض النفس بأعمال الدين حتى تتعرف إلى أسراره وحكمه”.
* الحقيقة الثانية : إن الصوفي السني هو الذي تتميز شخصيته بثلاث جوانب :
– الجانب الأول: الجانب الأخلاقي. الصوفي السني متخلق بأخلاق الإسلام. والأخلاق تشمل أدب الإنسان مع ربه وأدبه مع الخلق وأدبه مع نفسه.
– الجانب الثاني : الجانب العلمي. فالصوفي السني يحرص على العلوم الشرعية والعقلية والروحية. الأمر الذي جعل الإمام الجنيد يقول “من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدى به”.
– الجانب الثالث : الجانب العملي. فالصوفي السني شخص متحرك في الحياة متصل بالناس. كان إبراهيم ابن أدهم يعلم أتباعه بقوله “عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال والنفقة على العيال”.
* الحقيقة الثالثة : الاعتراف بالدور التاريخي للتصوف الإسلامي:
1- في مجال العلم والتعليم: إن أسماء رجالات وأئمة التصوف الذين ثبتت لهم المشاركة العلمية في الفقه والقراءات والأصول والحديث وغيرها من العلوم الإسلامية كثيرة تجمعها كتب التراجم.
2- في مجال إصلاح الحياة ونقد المجتمع عند فساد الأحوال ونصح الحكام. إن الأسماء كثيرة منها الحسن البصري والسري السقطي والجنيد والفضيل بن عياض وذو النون المصري الذي يهدى إليه طعام وهو في السجن فيمتنع عن الأكل قائلا : “طعام أتاني على مائدة ظالم فلا آكله”.
3- مجال نشر الإسلام: لا أحد ينكر ما قامت به الطرق الصوفية في نشر الإسلام في إفريقيا وفي الهند وفي آسيا عموما.
الفكرة الرابعة: قراءتنا للتصوف الباطني الإلحادي تدفعنا لاستنكار جملة من المعتقدات الباطلة والتصرفات المناقضة للدين :
1- اعتبار الذوق والوجدان أو الإلهام أو الكشف مقياسا في معرفة الحسن والقبيح وتمييز الصواب من الخطأ حتى غلا بعض الصوفية “الباطنيين” في ادعاء العصمة لما جاء عن طريق الكشف والإلهام.
2- التفرقة بين الشريعة والحقيقة وادعاء أن الحقيقة قد تناقض الشريعة. وانتقاص العالم المتمسك بالشريعة وجعل التفاضل بين العباد على أساس علوم الحقيقة لا على أساس التقوى أي الأعمال والأخلاق. والتحلل من العبادة.
3- تحقير أمور الدنيا بعدم العمل والجهد في طلب الرزق والعيش بالدين على حساب دنيا الغير عيشة الملوك وأهل الترف. والإيهام بأن الفتح الدنيوي من غير دين عناية وإكرام من الله.
4- غلبة النزعة الجبرية والسلبية واعتقاد أن الإنسان مسير لا مخير. وأن لا فائدة في مقاومة الفساد ومحاربة الباطل وأهله. فلا ينكر منكر ولا يغير.
5- إلغاء شخصية المريد إلغاء تاما بحيث يفنى في إرادة شيخه وإرشاده. فلا يناقشه فضلا عن أن يعترض عليه. ويعتقد في شخص شيخه من المعتقدات ما هو خاص بالله عز وجل من الرزق والعلم الإحاطي والتصرف الكلي والجزئي في الكون وفي الخلق.
6- الإقرار بأخطاء أساسية تخالف العقيدة الصحيحة :
• القول بنجاة إبليس يوم القيامة
• القول بتساوي المطيع والمسيء أمام الحق عز وجل
• القول بان أهل النار يتلذذون فيها
• القول بخروج الكافرين من النار
• القول بنجاة فرعون
• القول بوحدة الوجود) أي وحدة الخالق والمخلوق(
• القول بسقوط التكليف عن الواصلين والمتولهين وأهل الذوق
• القول بذم علم الظاهر )أي علوم الشريعة(
• القول بتعارض الكشف والإلهام مع الكتاب والسنة والأخذ بالكشف والإلهام حين التعارض
4- الفكرة الخامسة : قراءتنا للتصوف المنحرف المزور تدفعنا للتمييز في مادة و أركان التصوف بين ما هو مشروع مقبول وبين ما هو ممنوع مردود.
1- فهناك الذكر المشروع وهناك الذكر الممنوع
2- وهناك الأحوال المشروعة وهناك الأحوال والشطحات الممنوعة
3- وهناك الشيخ الذي تطلب صحبته وهناك الشيخ الذي تمنع رفقته
4- وهناك خرق العادة المشروع ويسمى كرامة وهناك خرق العادة الممنوع المردود ويسمى شعوذة وتدجيلا
5- وهناك الكتب والحكايات والنصوص الصوفية التي تقرب العبد من ربه وهناك أخرى تضل صاحبها وتفسد عقيدته
ومن التصرفات غير المشروعة التي ادخلها أدعياء التصوف والتي حذر منها الصوفية أنفسهم وفي مقدمتهم الإمام الغزالي رحمه الله :
1- حب الظهور. فالشيخ من هؤلاء قد لا يمشي إلا في حفل هائل من الخلق جمعهم بأساليبه وحيله. ويجعل على بابه الحجاب يأمرون الداخل بكيفية الجلوس والكلام بين يدي الشيخ ويقدرون له وقتا معينا لا يزيد عليه. وله بطانات وحاشيات من بعض المضطرين وذوي الحاجات. تؤلف لهم الروايات وتنشر عنهم كواذب الكرامات ويؤثرون في نفوس الجماهير بالأوهام والترهات ويدخلون على نفوسهم بما يسميه علماء النفس بالإيحاء والاستهواء.
2- إقامة المواسم والموالد باختلاط الرجال والنساء وإنفاق الأموال على مزيد من الأنوار والمواكب “الكرنفالية” والرقص والشعوذة والبدع والإسراف في أسباب المفاخرة بغير سبب شرعي.
3- الرقص في الذكر والاهتزاز يمنة ويسرة بلا وقار ولا أدب خصوصا إذا صاحبته الطبول والمزامير وتحريف أسماء الله بتمطيطها أو تقصيرها أو قطعها.
4- النذور للأولياء وللصالحين والذبائح لهم. ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم “ملعون من ذبح لغير الله”. و”من ذبح لغير الله فقد أشرك”.
5- الرقية غير الشرعية بالأسماء المجهولة غير العربية باعتقاد تأثيرها أو بتمائم. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد “من علق تميمة فلا تمم الله له”. و”من علق تميمة فقد أشرك”. ويلحق بهذا ما يفعله “المعزمون” مستحضرو الشياطين من الكلمات والألفاظ المصطنعة والبخور المنفرة والعبودية للجن.
6- أعمال النصب والاحتيال. فقد استطاع كثير من الناس السيطرة على عقول العامة وأشباههم. فأباحوا لهم تقديسهم والسجود أمامهم والتذلل إليهم ودعائهم في النائبات لاعتقادهم أن الكون بأيدي هؤلاء الشيوخ وأن قضاء الله معلق على تصرفهم.
6- الفكرة السادسة والأخيرة : قراءتنا المنصفة للتصوف تجعلنا نقر بأمور اجتهادية لم يحسم فيها بالإجماع. فللسلفية رأيهم وللصوفية رأيهم. ومادام الأمر محل اجتهاد فليس فريق أولى بالحق من الآخر. نذكر من هذه الأمور:
1- ذكر الله في حلقات في أوقات معينة على نحو معين
2- ذكر الله بالاسم المفرد “الله”
3- قراءة الأحزاب والأوراد والأدعية المأثورة أو المنظومة
4- استحضار الرابطة الروحية مع الشيخ المربي
5- الكشف والإلهام والرؤيا الصالحة والفراسة
6- اصطلاحات الصوفية كالوقت والمقام والحال والقبض والبسط…الخ
7- الأحوال والمشاعر الوجدانية كالمحبة والاستغراق والفناء…الخ
9- الالتزام بعهود المشايخ
هذه نهاية جولتي مع كتاب “التصوف بين الإفراط والتفريط” وأرجو أن أكون قد وفقت عرضه بنزاهة.
وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأمته.
(1)- هذا البحث ألقيته في مجمع للطريقة التجانية سنة 2006.
الباحث
محمد العراقي الحسيني
مواليد 1958 م
دبلوم الدراسات العليا في اقتصاد المقاولات وإجازة في الدراسات الإسلامية.
عمل أستاذا في المعاهد العليا الحرة للتجارة”. عمل في الميدان البنكي والصناعي لمدة 25 سنة. ويعمل حاليا مديرا “للتدقيق الداخلي” و”مراقبة التسيير” و”تدبير الجودة” بشركة صناعية.
باحث في “علوم التسيير” و”علوم الدين”. أصدر كتابين في “التدقيق الداخلي” بالفرنسية و”فقه صوم رمضان” بالعربية. له مجموعة من البحوث تحت الطبع