بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الفاتح الخاتم
وعلى آله وصحبهأجمعين
التصوف بين المحققين والمدعين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه .
ما ظهرت حقيقة قط في الوجود الا قوبلت بدعوى تماثلها و أدخل عليها ما ليس منها، أو ظهر من يكذبها .
فالصوفية المحققون السالكون منهاج السلف المتقدمين قد قَلّوا جدّاً،حتى كأن علومهم ماتت وبَليت وصارت رَميماً،وطُرقهم قد طمست،وأذواقهم قد إندرست،ولم يبق على منهاجهم إلا القليل.وفي كل عصر يقال: قد ذهب التصوف وذهب أهله،لما يرون ما إنكبّ عليه الجاهلون وما إستجلبه المدّعون.
قال الجنيد: “علمنا هذا الذي نتكلم فيه قد طُويَ بساطه منذ عشرين سنة،وإنما نتكلم في حواشيه”.وكان أيضاً يقول: “قد كنت أجالس قوماً سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي،وما بُليتُ بالإنكار قط،كنت أتقبّلها وأحبها من غير أن أعرفها”.وكان أيضاً يقول: “كنا نتجارى مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما نعرفها في وقتنا هذا،ولا سألني عنها أحد،وهذا باب كأنه أغلق ورُدم”.
وقال أبو طالب المكي في (قوت القلوب): “قال بعض علمائنا: أنا أعرف للمتقدمين سبعين علماً كانوا يتحاورونها ويتعارفونها في هذا العلم،لم يبق منها اليوم علماً واحداً.قال: وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من (الأباطيل والغُرور والدعاوي) قد ظهرت وسُميت علوماً.ثمّ قال: وكان إمامنا سهل يقول: بعد سنة (300) لا يَحلّ أن يُتكلّم بعلمنا هذا.يعني لقلة أهله،لأنه يحدّث قوم يستمعون الخلف ويتزيّنون بالكلام،(تكون مَواجيدهم لباسهم،ومعبودهم بطونهم،وحليتهم كلامهم) .
وقال الأستاذ القشيري في صدر رسالته: “إعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة إنقرض أكثرهم،ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم..”،وفي معناه قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم= وارى نساء الحيّ غير نسائها .
قال إبن عربي الحاتمي: “قال هذا في زمانه حيث أدرك من تزيّا بزيّ القوم وخالفهم في باطنه،وأما اليوم فلا خيام ولا نساء”..
وقال ابو نصر الطوسي في كتابه “اللمع” :واعلم ان في زمننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة وقد كثر ايضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون اليها والمجيبون عنها وعن مسائلها وكل واحد منهم يضيف إليه كتابا قد زخرفه وكلاما ألفه وليس بمستحسنن منهم ذلك لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل واشاروا الى هذه الاشارات ونطقوا بهذه الحكم انما تكلموا بعد قطع العلائق واماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنزلات والوجد والاحتراق …فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل انتهى.
قال الامام الهجويري في كتابه كشف المحجوب :اعلم ان هذا العلم قد اندرس في الحقيقة في زمننا هذا حيث انشغل الخلق بأهوائهم …وقد اوجدنا الله تعالى في زمان سمَّى اهله الهوى شريعة وطلب الجاه والرياسة عزا وعلما ورياء الخلق خشية والنفاق زهدا …الى ان قال حتى احتجب أرباب المعاني عنهم وصارت الغلبة لهم “انتهى.
وما اجمل ما قال الشيخ ابوبكر الواسطي:ابتلينا بزمان ليس فيه اداب الاسلام ولا اخلاق الجاهلية ولا احكام ذوي المرؤة “
وقال ابوبكر الكلابادي في كتابه التعرف الى مذهب اهل التصوف: يقول عن التصوف ذهب المعنى وبقي الإسم وغابت الحقيقة وحصل الرسم وادعاه من لا يعرفه وتحلى به من لم يصف وأنكره بفعله من أقر به بلسانه …فصار الجهال علماء والعلماء اذلاء اهـ.
وكذلك قال أبو مدين في رائيته:
واعلم بأن طريق القوم دارسة=وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى
و قال سيدي علي الجمل: “من تونس إلى واد نون،لا تجد من يتكلم في هذا العلم إلا رجل أو رجلين”،كناية عن قلّة وجود المحققين.ولا يدلّ هذا على إنقطاعهم،ففي كل زمان رجال يرحم الله بهم عباده،فالعدد المعلوم لا ينقطع حتى ينقطع الدين..وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ولا بنقص أمدادهم،ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع إختفائهم مع وجود بقائهم..فأولياء الله عرائس،ولا يرى العرائس المجرمون..
قال الشيخ احمد بن عجيبة في كتابه الفتوحات الالهية في شرح المباحث الاصلية : علم التصوف ومعانيه وأذواقه قد ذهب بذهاب أهله،وإندرس وخَفي،وما بَقي إلا رسوم وعلامات في كتبهم تدلّ على سيرهم وأخلاقهم….وهذه الرسوم هي ما كانوا عليه من المجاهدة والمكابدة والمشاهدة،وما إتصفوا به من محاسن الأخلاق ومكارم الشيَم،وما شاهدوه من الكرامات والخوارق،وما نطقوا به من جواهر الحكم،وما إستخرجته أفكارهم من يواقيت العلوم ومخازن الفهوم.فهذه الأمور قد دُوّنت في الكتب،فلما ماتوا بقيت في أيدي الناس هي التي يتبعها الناس ويسلكون على طريقها….غير أن (السرّ) هو ما كان في بواطنهم،وما إشتملت عليه قلوبهم وأسرارهم،فلا يُؤخذ إلا منهم في حال حياتهم.فلو كان التصوف يؤخذ من الكتب لإختصّ به أرباب الأموال والعلماء أهل الظاهر،ولكن التصوف إنما هو أذواق،لا يُؤخذ إلا من أهل الأذواق…و طريق الصوفية (الذوقية) عويصة التّحرير،لأن العالم إن عبّر عنها بعبارة اللسان فاته الذوق والوجدان،وإن أشار إليها بالتلويح لا يفهمها أهل التصريح،فصعُب أمرها على كل حال،إلا على من أسعده الله بصحبة الرجال أهل الهمّة والتربية والحال،فيعبرون عنها بالمقال،ثمّ يُنهضون إليها بالذوق والحال.واما من لم يصحب الرجال،فلا يطمع أن ينالها بالمقال،لأنها أسرار الله يُبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة، وهي من الأسرار التي لم يُطلع عليها إلا الخواص،فإذا سمعها العوام أنكروها،ومن جهل شيئاً عاداه.
ومن الافكار الاساسية والمحورية التي انتجها سياق كثرة المدعين للمشيخة :فكرة ( ارتفاع التربية بالاصطلاح) التي دار حولها نقاش كبير بين مؤيد ومفند ،وهذه الفكرة قال بها الشيخ ابو العباس الحضرمي و نقلها الشيخ زروق في خاتمة كتابه (قواعد التصوف) قال الحضرمي : ارتفعت التربية بالاصطلاح ولم يبق الا الإفادة بالهمة والحال ، وانتقد هذه الفكرة الشيخ ابن عجيبة فهو يرى ان حكم الشيخ زروق حول انقراض” الإصطلاح ” يُفَسَّر بكثرة المدعين للمشيخة في عهده وأنه لا يجوز تعميم هذا الحكم حول انقراض شيوخ التربية المخلصين ،وأن شيوخ التربية الحقيقيون الغالب عليهم هو الخفاء لايظفر بهم الا من اسعده الله و يضيف أن دائرة الولاية لاتنقطع ابدا ..والبلوغ الى مقام القطبانية لا يكون ابدا من غير تربية يقول: تربية الهمة والحال دون اصطلاح المقال لا يترقى صاحبها من مقام الى مقام ولا من حال الى حال …فشيخ التربية لا ينقطع أبدا عن تربية الهمة والحال والمقال والاصطلاح ….ثم يقول معلقا على كلام الحضرمي : ‘” لم يقصد الحضرمي انقطاعها الى الابد انما أراد أن في زمانه مدعين كُثر فحذر اهل زمانه منهم واستدل ابن عجيبة بوجود شيوخ التربية بعد الحضرمي وذكر منهم الشيخ عبد الله الغزواني ،والشيخ يوسف التليدي واخرون …وكذا شيخه مولاي العربي الدرقاوي.
اما بالنسبة لفكرة التربية “بالنظر والهمة” وتدعى ايضا” طريقة التبرك والتلقين”
فتتلخص تعاليمها في تلاوة الأوراد والأذكار والأحزاب وتلاوة القرءان ،والصلاة على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اناء الليل واطراف النهار مع اتباع السنة والتنفل بالصوم، والتهجد بالليل ،والشيخ يرقي المريد بمجاهدته من مقام الى مقام.أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى ءاله وصحبه.
رشيد موعشي
المعهد الفاطمي المحمدي