تتبع مسار حياة من تفاعل مع نفسه فتفاعل معه الكون بأسره، إنه مسار تغيير النفس فبل الإذن في تغيير الآخرين ، فكان النجاح، ونفعت تربية التغيير. فلا مكان لإنفعال وتسريع الأحداث. إنه مسار تغيير الشيخ التجاني رضي الله عنه. تكفي قراءة متأنية لتلاحظ الثبات والنصر والتأييد والتمكين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد الفاتح الخاتم وعلى آله
وَأَمَّا بِدَايَتُهُ رضي الله عنه فِي الطَّرِيقِ وَكَيْفِيَّةُ أَخْذِهِ إِيَّاهَا عَلَى التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، بَقِيَ عَلَى حَالِهِ مِنْ قِرَاءَةِ العِلْمِ وَتَدْرِيسِهِ، وَالْتِقَاطِ دُرَرِهِ وَتَدْوِينِهِ فِي بَلَدِهِ عَيْنِ مَاضِي. ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى نَاحِيَةِ المَغْرِبِ لِفَاسَ وَأَحْوَازِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ، سَمِعَ فِيهَا شَيْئاً مِنَ الحَدِيثِ، وَبَقِيَ يَجُولُ بِقَصْدِ الزِّيَارَةِ وَالبَحْثِ عَلَى أَهْلِ الخَيْرِ وَالصَّلاَحِ، وَالدِّينِ وَالفَلاَحِ، فَلَقِيَ رَجُلاً بِجَبَلِ الزَّبِيبِ مِنْ أَهْلِ الكَشْفِ، فَأَشَارَ لَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى رَجَعَ لِبَلَدِهِ سَرِيعاً، وَخَرَجَ قَاصِداً البَلَدَ الأَبْيَضَ فِي نَاحِيَةِ الصَّحْرَاءِ التِي بِهَا ضَرِيحُ الوَلِيِّ الكَبِيرِ وَالقُطْبِ الشَّهِيرِ سَيِّدِي عَبْدُ القَادِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ المُلَقَّبِ بِسَيِّدِي الشَّيْخِ، فَمَكَثَ هُنَالِكَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ لِلقِرَاءَةِ وَالعِبَادَةِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتِّلاَوَةِ، وَفِي هَذِهِ المُدَّةِ وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ عَيْنِ مَاضِي تَصْدِيقاً لِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ الوَلِيُّ المُتَقَدِّمُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ بِزَاوِيَةِ الشَّيْخِ المَذْكُورِ. ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى تِلِمْسَانَ، وَقَامَ بِهَا لِلزَّهَادَةِ وَالعِبَادَةِ، وَالتَّدْرِيسِ لِعِلْمِ الحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالإِفَادَةِ، حَتَّى أُلْهِمَ سَيِّدُنَا مَا أُلْهِمَ، وَوَقَرَ فِي صَدْرِهِ مَا وَقَرَ، وَظَهَرَ لَهُ مَا ظَهَرَ، مَعَ مَا أَهَّلَهُ اللهُ إِلَيْهِ بِسَابِقِ عِنَايَتِهِ، وَفَيْضِ كَرَامَتِهِ، نَفَضَ يَدَيْهِ مِمَّا لَدَيْهِ، وَتَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ العَلِيَّةُ بِاللهِ، وَالاِنْحِيَاشِ إِلَيْهِ وَالوُقُوفِ بِبَابِهِ وَالعُكُوفِ عَلَيْهِ، فَجَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ العَلاَئِقِ تَجْرِيداً، وَقَطَعَهَا عَنِ العَلاَئِقِ تَفْرِيداً، وَلَبِسَ مِنْ جَدِيدِ التَّوْبَةَ جِلْبَاباً، وَشَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الجِدِّ أَثْوَاباً، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ لِلْمَسِيرِ أَبْوَاباً، وَأَزَالَ عَنْهُ مَانِعاً وَحِجَاباً، فَأَكَبَّ عَلَى شَأنِهِ إِكْبَاباً، وَانْصَبَّ إِلَيْهِ انْصِبَاباً، وَانْحَاشَ بِكُلِّيَتِهِ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ عَلَيْهِ، وَنَبَذَ كُلَّ أَمْرٍ دُونَهُ مِنْ خَلْفٍ، أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ، فَانْجَمَعَ عَلَى اللهِ فِي حَالِهِ، وَجَدَّدَ فِي سَيْرِهِ وَتِرْحَالِهِ، وَسَلَبَ لَهُ الإِرَادَةَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ قِيَادَهُ، وَمَحَا فِي مُرَادِهِ مُرَادَهُ، فَلَزِمَ اللَّجْأَ وَالعُكُوفَ بِبَابِهِ، وَجَمَعَ فِيهِ كُلَّ بُغْيَةٍ وَمَرَامِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ وَإِعْمَالِ الفِكْرِ، وأَوَى إِلَى الخَلَوَاتِ وَالعِبَادَةِ وَالقُرُبَاتِ، فَلاَحَتْ عَلَيْهِ مَبَادِئُ الفَتْحِ وَبَوَارِقُهُ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ خَوَارِقُ العَادَاتِ فِي مَبَادِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ حَالُهُ يَقْوَى وَيَزْدَادُ، حَتَّى خَرَجَ عَنْ كُلِّ مَأْلُوفٍ وَمُعْتَادٍ، وَمُسْتَحْسَنٍ وَمُرَادٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَهْوَةٌ تَشْغَلُهُ عَنِ المُرَادِ، وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الخَلْقِ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ لِلْمَلِكِ الحَقِّ، وَتَوَجَّهَ تِلْقَاءَهُ، وَنَبَذَ السِّوَى وَرَاءَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَرْتَقِي بِهِمَّتِهِ، وَمَوْلاَهُ يَجْذِبُهُ لِحَضْرِتِهِ، وَيَحُفُّهُ بِعِنَايَتِهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ المَرَاتِبَ العَلِيَّةَ وَالمَقَامَاتِ السَّامِيَةَ، وَوَصَلَ إِلَى المُنْيَةِ وَالمُشْتَهَى ?وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ اَلْمُنتَهَى? .
وَمِنْ عَظِيمِ أَدَبِهِ، لِشُهُودِ فَضْلِ سَيِّدِهِ وَمَنِّهِ، أَنَّهُ لَمَّا اعْتَرَاهُ مِنَ الأَحْوَالِ مَا اعْتَرَاهُ، وَنَزَلَ بِهِ مَا اقْتَطَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ أَثَرُ الفَيَضَانِ، وَجَرَى مِنْهُ عَلَى المَنْطِقِ وَاللِّسَانِ، مَا أَشْرَقَ بِهِ بَاطِنُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالعِرْفَانِ، فَكَانَ يَفْتَتِنُ بِهِ كُلُّ مَنْ رَآهُ، لِمَا يُشَاهِدُ مِنْ طَلْعَتِهِ البَهِيَّةِ وَسَنَاهُ، فَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَعَقْلِهِ وَلُبِّهِ، وَلاَ يَجِدُ بُدّاً عِنْدَ خِطَابِهِ، مِنَ التَّأَدُّبِ إِلَى عَلِيِّ جَنَابِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِظُهُورِ ذَلِكَ مِنَ الإِخْوَانِ وَالأَصْحَابِ الذِينَ هُنَالِكَ، نَهَى وَزَجَرَ، وَشَرَدَ وَنَفَرَ، وَغَضِبَ غَضَباً شَدِيداً، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ شَرِيداً، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ الوُفُودُ لِلزِّيَارَةِ، وَالأَخْذِ عَنْهُ وَالإِفَادَةِ، فَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ الاِمْتِنَاعِ، وَيَقُولُ: كُلُّنَا وَاحِدٌ فِي الانْتِفَاعِ، فَلاَ فَضْلَ لأَحَدٍ عَلَى الآخَرِ فِي دَعْوَى المَشْيَخَةِ إِلاَّ سُوءُ الابْتِدَاعِ.
فَلَمَّا حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَتَحَلَّى ظَاهِراً وَبَاطِناً بِالحُلَلِ الجَلِيلَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ مُتَمَنَّاهُ بَيْنَ الأَنَامِ، إِلاَّ الحَجُّ لِبَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، سَمَتْ هِمَّتُهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَتَحْصِيلِ إِرَبِهِ، وَكَانَ دَائِماً يَرْصُدُ إِبَّانَهُ وَوَقْتَهُ وَأَوَانَهُ، إِلَى أَنْ أَتَى فَقَامَ عَلَى سَاقِ الجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، وَنَهَضَتْ بِهِ هِمَّتُهُ لِلْمَسِيرِ، فَأَخَذَ ? فِي التَّأَهُّبِ وَالرَّحِيلِ، وَخَلَّفَ العَشَائِرَ وَالقَبِيلَ، فَمَا قَرَّ لَهُ إِذْ ذَاكَ قَرَارٌ إِلَى أَنْ حَجَّ وَزَارَ، وَتَرَدَّدَ بَيْنَ الدِّيَارِ، وَاسْتَلَمَ بَيْنَ الأَمَاكِنِ وَالآثَارِ، فَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مَدِينَةِ تِلِمْسَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ.
وَأَمَّا مُجَاهَدَتُهُ رضي الله عنه فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَئِمَّةِ العَصْرِ وَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ حَالِ الشَّبِيبَةِ، أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَمِمَّنْ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَمِمَّنْ هُدِيَ وَاجْتُبِيَ إِلَى صِرَاطِ اللهِ. فَهُوَ رضي الله عنه مِنَ المُجْتَهِدِينَ فِي الدِّينِ، وَالخَائِفِينَ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ، مُحَافِظاً عَلَى التَّقْوَى وَالوَرَعِ، بَاذِلاً مَجْهُودَهُ فِي ذَلِكَ، قَابِضاً عِنَانَ الخَوْضِ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِ، سَالِكاً أَشْرَفَ المَسَالِكِ، إِلاَّ أَنَّهُ بَعْدَمَا شَبَّ وَتَرَعْرَعَ، وَتَضَاعَفَ نُورُ قَلْبِهِ، وَجَاءَهُ الفَتْحُ المُبِينُ مِنْ رَبِّهِ وَارْتَفَعَ، وَقَادَهُ التَّوْفِيقُ الرَّبَّانِيُّ إِلَى البَحْثِ عَنِ السِّرِّ الإِلَهِيِّ الصَّمْدَانِي، فَاشْتَغَلَ بِمُطَالَعَةِ كُتُبِ القَوْمِ، وَبِالاِنْكِبَابِ عَلَيْهَا، والتَّدْرِيسِ لِلعُلُومِ وَالإِفَادَةِ بِهَا، حَتَّى انْقَطَعَ إِلَى اللهِ، وَتَاقَتْ هِمَّتُهُ بِاللهِ، فَرَفَضَ جَمِيعَ العَلاَئِقِ، وَنَبَذَ مِنْ وَرَائِهِ أَنْوَاعَ العَوَائِقِ، فَزَادَهُ ذَلِكَ نُوراً عَلَى نُورٍ، وَارْتَقَى بِشُهُودِهِ لِرُتْبَةِ أَرْبَابِ الصُّدُورِ، فَقَدْ أَتَى رضي الله عنه البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَأَخَذَ الطَّرِيقَةَ عَنْ أَرْبَابِهَا، فَاسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ الوِرَاثَةَ وَالإِمَامَةَ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي عَصْرِهِ أَحَدٌ أَمَامَهُ. كَمَا قِيلَ:
فَأَصْبَحَ عَيْنَ الوَقْتِ وَالقَوْلُ قَوْلُهُ
وَلاَ أَحَدٌ فِي النَّاسِ يَبْلُغُ قَدْرَهُ
أَخَذَ رضي الله عنه فِي الجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، وَالاعْتِزَالِ عَنِ الخَلْقِ وَالفِرَارِ مِنْهُمْ، وَاشْتَغَلَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ حُقُوقِ رَبِّهِ، وَمَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالوَرَعِ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ لِلزِّيَارَةِ، فَلاَ يَجِدُونَ فِيهِ مُتَّسَعاً لِكَثْرَةِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ القَبْضِ، وَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ لِيُقَبِّلَ يَدَهُ يَغْضَبُ، وَيَأْبَى ذَلِكَ، وَكَانَ رضي الله عنه يَكْرَهُ كَثْرَةَ الكَلاَمِ، شَدِيدَ التَّحَفُّظِ مِنَ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالخَوْضِ فِيمَا لاَ يَعْنِي.
وَأَمَّا مُجَاهَدَتُهُ فِي الصِّيَامِ، فَكَانَ يَصُومُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَيَسْرُدُ الصِّيَامَ الأَيَّامَ المُتَطَاوِلَةَ لَدَيْهِ، وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ فَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ السِّنِينَ الكَثِيرَةَ، وَلاَ زَالَ إِلَى الآنَ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ رَاحَةٌ إِلاَّ فِيهِ، فَهُوَ مُسْتَرَاحُ العَابِدِينَ، إِذْ فِيهِ يَجِدُونَ قُلُوبَهُمْ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالمُنَاجَاةِ، وَإِسْبَالِ العَبَرَاتِ فِي مِحْرَابِ التِّلاَوَاتِ، وَهُوَ يَعْلَمُ وَيَتَحَقَّقُ رضي الله عنه، أَنَّ أَوْقَاتَهُ عُمُرُهُ، وَعُمُرَهُ رَأْسُ مَالِهِ، وَعَلَيْهِ تِجَارَتُهُ، وَبِهِ يَصِلُ إِلَى نَعِيمِ الأَبَدِ، وَيَرَى أَنْفَاسَهُ جَوَاهِرَ لاَ قِيمَةَ لَهَا، فَشَحَّ بِهَا أَنْ تَمْضِي فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، فَاشْتَغَلَ بِالمُبَادَرَةِ.
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً
حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ المَسْبُوقِ
وَاسْتِدَامَةُ الطَّاعَاتِ، وَبَذْلُ المَجْهُودِ فِيمَا لاَ يَصْدُرُ إِلاَّ مِمَّنْ أُقِيمَ فِي شُهُودِ بَارِيهَا وَمُنْشِيهَا، فَالذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِخِدْمَتِهِ، وَنَوَّرَ بَوَاطِنَهُمْ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَبَادَرُوا قَبْلَ الفَوْتِ، وَسَارَعُوا إِلَى مَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ سَيِّدُهُمْ، فَهُمْ مُلاَزِمُونَ مُسْتَسْلِمُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ فَضْلَةٌ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، عَلِمُوا أَنَّهُمْ بِمَرْأَى مِنْ سَيِّدِهِمْ، فَشَدُّوا الحَيَازِمَ، وَاشْتَغَلُوا بِمَا هُوَ لاَزِمٌ.
وَأَقُولُ إِنَّهُ رضي الله عنه مِنَ الذِينَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ كُلُّ اللَّيَالِيَ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِذْ هُوَ رضي الله عنه، مِنَ القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ، النَّاظِرِينَ لِلشَّرِيعَةِ بِنُورِ اللهِ، الذِينَ لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَمَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ فِيمَنْ تَوَلاّهُ اللهُ وَاصْطَفَاهُ، وَحَلاَّهُ بِنُعُوتِهِ وَاجْتَبَاهُ، وَخَصَّصَهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَارْتَضَاهُ؟! فَالمَدْحُ يَقْصُرُ دُونَهُ، إذْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يَصِفَهُ اللِّسَانُ، أَوْ يُعَبِّرَ عَنْ حَقِيقَتِهِ الفِكْرُ وَالجَنَانُ، وَمَا الأَمْرُ إِلاَّ كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَمَنْ لِي بِحَصْرِ البَحْرِ وَالبَحْرُ زَاخِرُ
وَمَنْ لِي بِإِحْصَاءِ الحَصَا وَالكَوَاكِبِ
وَمَنْ كَمُلَتْ أَوْصَافُهُ، وَحَسُنَتْ أَفْعَالُهُ، وَعَظُمَ إِنْصَافُهُ، اسْتَوْحَشَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ، وَلَمْ يُشَاهِدْ فِي المَمْلَكَةِ إِلاَّ إِيَّاهُ، وَأَنْشَدُوا:
وَعَنْ مَذْهَبِي فِي الحُبِّ مَا لِيَ مَذْهَبٌ
وَإِنْ مِلْتُ عَنْهُ يَوْماً فَارَقْتُ مِلَّتِي
وَإِنْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ
عَلَى خَاطِرِي سَهْواً قَضَيْتُ بِرِدَّتِي
وَعَلَى هَذَا حَوَّمَ العَارِفُونَ رضي الله عنهم، وَانْتَهَزُوا فِيهِ الفُرْصَةَ، وَبَذَلُوا فِي ذَلِكَ مُهْجَهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا حِصَّةً. عَرَفُوا مَا طَلَبُوا، فَهَانَ عَلَيْهِمْ مَا تَرَكُوا، وَمَنْ طَلَبَ الحَسْنَاءَ لَمْ يُغْلِهِ مَهْرُهَا، وَلَقَدْ أَبْلَغَ فِي النَّصِيحَةِ مَنْ أَنْذَرَ وَحَذَّرَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “أَيُّهَا النَّاسُ بَسِيطُ الأَمَلِ مُتَقَدِّمٌ حُلُولَ الأَجَلِ. وَالمَعَادُ مِضْمَارُ العَمَلِ، فَمُغْتَبِطٌ بِمَا اجْتَنَبَ غَانِمٌ، وَمُبْتَئِسٌ بِمَا فَاتَهُ مِنَ العَمَلِ نَادِمٌ. أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ وَاليَأْسَ غِنىً، وَالقَنَاعَةَ رَاحَةٌ، وَالعُزْلَةَ عِبَادَةٌ، وَالعَمَلَ كَنْزٌ، وَالدُّنْيَا مَعْدِنٌ، وَاللهِ مَا يَسُرُّنِي مَا مَضَى مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ بِأَهْدَابِ بُرْدِي هَذَا، وَلَمَا بَقِيَ مِنْهَا أَشْبَهُ بِمَا مَضَى مِنَ المَاءِ بِالمَاءِ، وَكُلٌّ إِلَى نَفَاد وَشِيكٍ، وَزَوَالٍ قَرِيبٍ، فَبَادِرُوا وَأَنْتُمْ فِي مَهَلِ الأَنْفَاسِ، وَجِدَّةِ الأَحْلاَسِ، قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِالكَظَمِ، وَلاَ يُغْنِي النَّدَمُ”. وَعَنْ عَطَاءٍ بْنِ يَزِيدٍ اللَّيْثِي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِي، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “حَلُّوا أَنْفُسَكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَأَلْبِسُوهَا قِنَاعَ المَخَافَةِ. وَاجْعَلُوا آخِرَتَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ. وَسَعْيَكُمْ لِمُسْتَقَرِّكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَنْ قَلِيلٍ رَاحِلُونَ. وَإِلَى اللهِ صَائِرُونَ. وَلاَ يُغْنِي عَنْكُمْ هُنَالِكَ إِلاَّ صَالِحُ عَمَلٍ قَدَّمْتُمُوهُ. أَوْ حُسْنُ ثَوَابٍ حُزْتُمُوهُ. إِنَّكُمْ إِنَّمَا تَقْدَمُونَ عَلَى مَا قَدَّمْتُمْ. وَتُجَازَوْنَ عَلَى مَا أَسْلَفْتُمْ. وَلاَ تَخْدَعَنَّكُمْ زَخَارِفُ دُنْيَا دَنِيَّةٍ. عَنْ مَرَاتِبِ جَنَّاتٍ عَلِيَّةٍ فَكَانَ قَدْ كُشِفَ القِنَاعُ. وَارْتَفَعَ الارْتِيَابُ. وَلاَقَى كُلُّ امْرِئٍ مُسْتَقَرَّهُ، وَعَرَفَ مَثْوَاهُ وَمَقِيلَهُ”.
انْتَهَى الغَرَضُ … نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ آمِينَ.
جواهر المعاني وبلوغ الأماني
لسيدي علي حرازم