حث الشيخ على عدم الأمن من مكر الله
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ كُلُّهَا مَشْرُوطاً فِي نَيْلِهَا، عَدَمُ الأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالإِصْرَارِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ اتِّكَالاً عَلَى مَا سُمِعَ مِنْ فَضْلِهَا، أَشَارَ النَّاظِمُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رضي الله عنه فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:
تَحْذِيرٌ
أَيْ هَذَا تَحْذِيرٌ وَتَخْوِيفٌ وَإِنْذَارٌ، لِمَنْ سَمِعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَضَائِلِ ثُمَّ رَكَنَ بِسَبَبِهِ إِلَى أَمْنِ الْمَكْرِ، وَأَخْلَدَ إِلَى التَّمَادِي عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْمُخَالَفَةِ بِطَرِيقِ الإِصْرَارِ، وَالاِنْهِمَاكِ وَالاِغْتِرَارِ.
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
“رَأَى“: بِمَعْنَى عَلِمَ. وَ”حُظِلَ“. هُنَا: مُنِعَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ. وَ”يَسُبُّ“: مِنْ سَبَّهُ يَسُبُّهُ إِذَا شَتَمَهُ وَوَقَعَ فِيهِ بِلِسَانِهِ. وَ”الشَّقَا“: ضِدُّ السَّعَادَةِ. وَ”قَمِنٌ“: حَقِيقٌ. وَبَاقِي الأَلْفَاظِ وَاضِحٌ.
يَقُولُ: إِنَّ مَنْ سَمِعَ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ السَّنِيَةِ الفَخَارِ، ثُمَّ اتَّكَلَ عَلَى ذَلِكَ وَانْهَمَكَ فِي ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَةِ وَالتَّمَادِي عَلَى الإِصْرَارِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُلْبِسُ قَلْبَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ بُغْضَ هَذَا الإِمَامِ الأَعْظَمِ، حَتَّى يَقَعَ فِي جَانِبِهِ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَجَّلُ عَلَيْهِ بِالشَّقَاءِ وَالخِذْلاَنِ، فَيَبُوءُ بِالْهَلاَكِ وَالْخُسْرَانِ، وَالاِرْتِكَامِ فِي مَهْوَاةِ الْكُفْرَانِ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ لأَمْنِهِ مَكْرَ الْمَوْلَى الْجَبَّارِ ذِي البَطْشِ الشِّدِيدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ، وَالأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مَعَ مَالَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْجَاهِ الْخَطِيرِ، لَمْ يَأْمَنُوا مَكْرَ رَبِّهِمُ الْقَدِيرِ.
وَعَقَدَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ مَا فِي [جَوَاهِرِ الْمَعَانِي] وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ سَيِّدِنَا رضي الله عنه عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ لأَصْحَابِهِ، وَالإِرْشَادِ لَهُمْ: “أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ سَيِّدَ الْوُجُودِ صلى الله عليه وسلم ضَمِنَ لَنَا أَنَّ مَنْ سَبَّنَا وَدَامَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتُبْ لاَ يَمُوتُ إِلاَّ كَافِراً. وَأَقُولُ لِلإِخْوَانِ: إِنَّ مَنْ أَخَذَ وِرْدَنَا، وَسَمِعَ مَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِلاَ حِسَابٍ وَلاَ عِقَابٍ، وَأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةٌ، فَطَرَحَ نَفْسَهُ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَاتَّخَذَ ذَلِكَ حِبَالَةً إِلَى الأَمَانِ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ فِي مَعَاصِيهِ، أَلْبَسَ اللهُ قَلْبَهُ بُغْضَنَا حَتَى يَسُبَّنَا، فَإِذَا سَبَّنَا أَمَاتَهُ اللهُ كَافِراً. فَاحْذَرُوا مِنْ مَعَاصِي اللهِ وَمِنْ عُقُوبَتِهِ. وَمَنْ قَضَى اللهُ عَلَيْهِ مِنْكُمْ بِذَنْبٍ –وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَعْصُومٍ– فَلاَ يَقْرَبَنَّهُ إِلاَّ وَهُوَ بَاكِيَ الْقَلْبِ، خَائِفاً مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالسَّلاَمُ” اهـ.
وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ رضي الله عنه “بَاكِيَ الْقَلْبِ” إلخ قَوْلُ الْقَائِلِ:
اللهُ يَعْلَمُ مَا إِثْمٌ هَمَمْتُ بِهِ
|
|
إِلاَّ وَنَغَّصَهُ خَوْفِي مِنَ النَّارِ |
وَأَنَّ نَفْسِيَ مَا هَمَّتْ بِمَعْصِيَّةٍ
|
|
إِلاَّ وَقَلْبِي عَلَيْهَا عَائِبٌ زَارِي
|
وَقَوْلُ النَّاظِمِ “فَالأَنْبِيَا عَلَى عُلاَ رُتَبِهِمْ” الْبَيْتُ أَتَى بِهِ تَأْكِيداً لِمَا قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، عَلَى مَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ كَمَالِ الْعِصْمَةِ وَعُلُوِّ الرُّتَبِ بَيْنَ الأَنَامِ، لَحِقَهُمُ الْخَوْفُ مِنَ الرَّبِّ الَكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَلَمْ يَأْمَنُوا مَكْرَهُ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، فَمَا بَالُكَ بِمَنْ عَدَاهُمْ.
وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى نَحْوِ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْكِلِيمِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلاَ ]فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى[1][ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَقْتِ الرِّسَالَةِ ]وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ[2][ حَيْثُ لَحِقَهُ الْخَوْفُ مَعَ كَمَالِ عِصْمَتِهِ بَعْدَ مَا سَمِعَ فِي وَقْتِ الرِّسَالَةِ مَا سَمِعَ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِعَدَمِ أَمْنِهِ مَكْرَ اللهِ تَعَالَى فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ.
وَمِثْلُ هَذَا مَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، فَإٍنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَعَدَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّصْرَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَالظَّفَرَ بِهِمْ، وَأَرَاهُ مَصَارِعَهُمْ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا رَآهَا تُصَوَّبَ مِنْ كَثِيبِ الرَّمْلِ آتِيَةٌ لِبَدْرٍ قَالَ: »اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلاَئِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي» ثُمَّ لَمَّا سَوَّى الصُّفُوفَ للْقِتَالِ، انْعَزَلَ نَاحِيَةً وَحْدَهُ فِي الْعَرِيشِ يَسْتَغِيثُ بِاللهِ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ يَحْرُسُهُ وَيَقُولُ: “دَعْ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ فَإِنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ بِهِ”، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لاَ يُقْلِعُ عَنِ الْمُنَاشَدَةِ وَالاِسْتِغَاثَةِ.
إِلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الآيُ الْقُرْآنِيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى الذِي لَمْ يَكُنْ يُزَايِلُهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ. وَذَلِكَ لأَنَّ خَوْفَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ y مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ أَمْنِهِمْ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ كَمَالِ فَضِيلَتِهِمْ، وَثُبُوتِ خُصُوصِيَّتِهِمُ التِّي لَمْ يَسْبِقْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، مَا عَدَا الأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كِبَارِ التَّابِعِينَ، مَعَ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةِ مُتَابَعَتِهِمْ، وَكَثْرَةِ مُجَاهَدَتِهِمُ التِّي اخْتُصُّوا بِهَا عَمَّنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّحْقِيقُ هَوَ أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَمْنَعُ الدَّهْشَةَ وَخَوْفَ الصَّدْمَةِ، كَمَا سَيَقَعُ لِلأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَوْمَ الْقِيَّامَةِ، وَالْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ كَانُوا يَخَافُونَ سُوءَ الْعَاقِبَةِ لاِحْتِمَالاَتٍ. وَانْظُرْ: “نَسِيمَ الرِّيَاضِ[3]“.
وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ لَأَفْضَى بِنَا إِلَى التَّطْوِيلِ، وَخَرَجَ بِنَا عَنِ الْمَقْصُودِ. وَانْظُرْ [صَحِيحَ الإِمَامِ الْبُخَارِي] فِي: “بَابِ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ” إلخ مِنْ كِتَابِ الإِيمَانِ، مَعَ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضاً فَفِيهِ كِفَايَةٌ، وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
وَقَدْ كَانَ سَيُّدُنَا رضي الله عنه كَثِيراً مَا يُحَذِّرُ أَصْحَابَهُ مِنْهُ وَيَتْلُو فِي كُلِّ مَرَّةٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: ]فَلاَ يَامَنُ مَكْرَ اَللهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ[4][، وَخُصُوصاً إِذَا ذَكَرَ مَا لَهُ وَلأَصْحَابِهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ عَلَى وَجْهِ التَّبْشِيرِ لَهُمْ وَالتَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ. فَإِنَّهُ[5] مَا ذَكَرَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: “هَذَا إِنْ سَلِمْنَا مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى“. هَذَا دَأْبُهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ رضي الله عنه . وَكَانَ كَثِيراً مَا يَقُولُ مُتَبَرِّئاً مِنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ أَمَاناً مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَلأَصْحَابِهِ: “مَا عْنِدَنَا إِلاَّ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى وَشَفَاعَةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم “.
ثُمَّ لَمَّا أَنْهَى النَّاظِمُ الْكَلاَمَ فِي التَّعْرِيفِ بِالشَّيْخِ رضي الله عنه ، وَبَيَانِ سَنَدِ هَذَا الْوِرْدِ الشَّرِيفِ، وَمَا لآخِذِهِ مِنَ الْفَضْلِ، وَكَانَ الْوِرْدُ إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الشَّيْخِ رضي الله عنه أَوْ عَمَّنْ وَصَلَهُ الإِذْنُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهُ، مِنْ طَرِيقِ الصِّحَّةِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الأَهْلِيَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي ذَلِكَ، أَتْبَعَ النَّاظِمُ مَا تَقَدَّمَ بِبَيَانِ صِفَةِ الْمُقَدَّمِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الإِعْطَاءِ،
بغية المستفيد
العلامة سيدي العربي بن السائح
[1] ـ طه: 67
[2] ـ القصص: 35
[3] ـ نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض / أحمد محمد عمر الخفاجي المصري شهاب الدين
[4] ـ الأعراف: 99
[5] ـ وفي الأصل: “مهمى”.