العلامة الوزير الفقيه المتفن لعلوم الظاهر والباطن، سوسي الأصل مراكشي الدار والمدفن، استوزره ملوك الدولة العلوية لعظيم مكانته، وسعة علمه في خطط الترسيل والقلم، صوفي زاهد تجاني سالك طريق شيخه في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
سيدي محمد بن أحمد بن محمد بن يونس بن مسعود أكنْسُوسْ، كما وقفت عليه في إجازة أجاز بها أبا علي الحسن السوسي التنمليزي. عُرف بأكنسوس مبدوءا بهمزة مفتوحة، وبكنسوس دونها منكرًا، وبالكنسوس بدونها أيضا معرفا، وبالكنسوسي منسوبا على طريقة النسبة في العربية، وتعني هذه الكلمة أنه من (إدَاوْأُكْنْسُوسْ) إحدى قبائل سوس العريقة. وينسب بالجعفري انتماء إلى جعفر بن أبي طالب، وهو قد كان في شك من صحة هذا النسب فتركه حينا، ثم عاد إليه للسبب الذي ذكره في الجيش ( 2: 150).
ولد عام 1211/1796 – 1797 بقبيلة تنمرت كما أخبر بذلك في إحدى رسائله. وتيتم من أبيه وهو صغير، وما أن أدرك وميز حتى غادر مسقط رأسه إلى الزاوية الناصرية حيث أخواله، فحفظ القرآن، واستظهر الأمهات، وشدا من أوليات العلوم، ثم شد الرحلة إلى فاس طالب علم عام 1229 وفيها اتخذ مسكنه بمدرسة الصفارين، واتفق له أن يسكن منها بيتا لصق البيت الذي كان يسكنه الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات، وانكب على التحصيل والاستفادة واصبا دائبا، فلم يمض عليه زهاء ثمان سنوات حتى أشير إليه بالأصابع، وعد من ذوي الفهم والتحصيل.
ذكر أكنسوس مشيخته في إجازة له بما نصه: “وقد اقتضى الحال أن أذكر جملة من مشايخنا الذين أخذنا عنهم مباشرة، ولازمناهم بالخدمة والمعاشرة، تبركا بذكرهم، ووفاء ببعض ما يجب من حقهم وشكرهم” وذكر شيوخه في العلم.
ويأتي في صدارة من أخذ عنه: السلطان العلوي سيدي محمد الرابع، ونجل المترجم سيدي عبد الله، وسيدي إدريس بن الطيب بن اليماني، والصوفي المشهور سيدي العربي ابن السائح. كما أخذ عن سيدي الحاج الحسين بن أحمد الإفراني، وسعيد العباسي الدراركي، وعبد الكريم التناني.
التقى أكنسوس بعامة أشياخ وطنه، ولازم الجلة منهم حتى استنفذ ما عندهم، ثم أمعن بعد ذلك، في القراءة الشخصية إمعانا استغرق فراغه، وهو كان منهوما بالقراءة مشغوفا بالكتب، يقتنيها، ويستنسخها، ويستعيرها، ويتردد على أصحاب المكتبات من أصدقائه ومعارفه ليشبع نهمه بالمعرفة، فاحتوى صدره لذلك، معارف جمة، وصارت له المشاركة الواسعة في مختلف العلوم والفنون، فذكر بين الفقهاء والفرضيين، وعد في الحيسوبيين والموقتين والمعدلين، وجعل في اللغويين والنحاة والبلاغيين، وكان أديبا ناقدا، وكاتبا شاعرا، وهو يعد مؤرخا أخباريا، وصاحب نوادر ومحاضرات.
وكان له نظر في المنطق وفي العلوم الروحانية من أوفاق وسر حرف وتصوف، ثم كان له شدو في الطبابة كما كانت له معرفة بالكمياء، وألف كتابا في الكمياء سنذكره عند التعريف بآثاره. وتناهت مشاركته إلى أن كان له بصر بالعدانة (صناعة استخراج المعادن) نستشهد على ذلك، برسالة وردت عليه من الحاجب موسى بن أحمد عن أمر سلطاني تطلب منه تقويم كتاب في المعادن فأجاب عنها جواب العارف البصير ( ع. ابن زيدان، إتحاف، 2: 463-465).
لا يماري أحد في أن أكنسوس منشئ مجيد، تشهد له بذلك آثاره الكتابية من رسائله الديوانية، والأخرى الإخوانية، وسائر ما كاتب به غيره، وهو كثير غزير، كما يشهد به نثره في تآليفه من الجيش، والجواب المسكت، والحلل الزنجفورية.
ومن نماذج نثره الذي يثبت اقتداره على الكتابة البليغة المصنعة مقامته الطويلة النفس، وكم له من أمثالها في الصنعة البديعة بين ما كتبه من الرسائل والفصول، وذلك ما يجعله طبقة عالية بين كتاب عصره مشارقة ومغاربة، ممن ظل يكتب على النمط القديم ولا يلتفت إلى دعوة التجديد في الكتابة التي بدأ صوتها يرتفع في ذلك الحين.
ولا ينكر عارف بالشعر أن سيدي أكنسوس يمتلك، موهبة شعرية قديرة، وفي الجيش منه زهاء ألف قافية، ثم ينظم ما تجيش به نفسه، وعساه أن يكون أغزر وأكثر فالمتوقع أن يكون شعره كبير المقدار.
أما التاريخ فلا مقال لأحد في أن أكنسوس كان ملما به، يعلل أحداثه، ويستنتج منها كأي مؤرخ حاذق بصير كما يرى ذلك في مواضع عديدة من جيشه. وعليه فمن الغبن أن يتنقص منه بعضهم كمؤرخ لفترة خاصة من تاريخ وطنه عايش أحداثها، وشارك في صنعها، وخلف من ورائه مرجعا معولا عليه فيها. ومن البخس أيضا أن يعيب عليه آخرون أنه كتب تاريخه بأسلوب جزل رصين فيه صنعة وتنميق.
كان الشفوف الذي ظهر به أكنسوس في الوسط الثقافي قد تأدى إلى المولى سليمان فاستدناه منه، ثم استكتبه، ثم زادت حظوته لديه فاستوزره عام 1235 والدولة يومئذ تعيش أزمات بالغة الشدة، فكان يعهد إليه بالمهمات الصعاب فيضطلع بها في حسن تأت وكمال كفاية.
ولم يطل عهد أكنسوس في الوزارة إذ أدرك المولى سليمان أجله عام 1238 فخلفه من بعده ابن أخيه المولى عبد الرحمان بعهد منه إليه. وبإثر ما بويع المولى عبد الرحمان قدم عليه أكنسوس فأذن له في الدخول عليه، وانبسط له، وسائله في أشياء من أمور الدولة.
اهتم الكاتبون عن العلامة أكنسوس بأنه كان وزيرا، وتحدثوا عنه مؤرخا، واعتدوا به شاعرا مجيدا، وكاتبا قديرا، وصنفوه في الأدباء، وذكروه بالباع الطويل في علوم اللسان العربي، وعدوه في الفرضيين والحيسوبيين والمعدليين، ولكن أكثرهم سكت عنه كصوفي كان له أثر بالغ في الدعوة إلى الله بين الخاصة والعامة، والدؤوب على إرشاد الناس زهاء خمسين سنة أو تزيد، لم يَستحسِر في ذلك ولم يمسه فيه نصب ولا لغوب.
كان العلامة أكنسوس من أتباع الناصرية سيرا على أثر أسلافه الذين كانوا قد دخلوا فيها من عهد شيخها محمد بن ناصر، فلما ارتحل لفاس طالب علم وجد التجانية تملأ دنيا فاس. وما إن انتمى العلامة أكنسوس إلى التجانية حتى صار من أحسن الدعاة إليها، ومن أقوى أنصارها المنافحين عنها، وهي إنما انتشرت في السوس بمساعيه الحميدة وعمله الدائب في الدعوة إليها، والتمهيد لها.
ومن جده في ترسيخ التجانية وتثبيت أقدامها أن أسس لها بحي المواسين من مراكش سنة 1262 هـ زاوية ذات بهجة كانت متربى المريدين، ومجمع الذاكرين، ومحجة الزائرين، فلما توفاه الله تولى أمرها ابنه سيدي العربي، ومن بعده حفيده سيدي يوسف، ويقوم بشأنها اليوم نجل حفيده سيدي أحمد بن يوسف أحد شيوخ العلم والتربية بمراكش نسأل الله في أجله وأمتع به.
كان المترجم ذا نزعة صوفية جعلته على استقامة مثالية وألزمته كلمة التقوى، وألقت عليه سمت الصالحين، وجنبته إنحرافات الساسة وباطلهم، مع أنه خاض في شؤون وقته خوضا لا يكاد يسلم معه لمن خاض مثله عرض ولا دين إلا بوقاية من الله الذي يعصم من الأسواء. والشيخ الكنسوسي بعيد الغور دراك أريب، مع نقاء طوية وصفاء سريرة، وهو جَدِلٌ قوي العارضة ناصع الحجة، وهو عف الكلمة، لا يجهر بالسوء ابتداء ولا يجاري فيه البادئ به، ولكن يجادل بالتي هي أحسن، ويجامل المسيء، ويتلطف به ويتودد إليه، أخذا منه بآداب الإسلام. ونهج مربيه الروحي شيخ الطريقة التجانية سيدي أحمد رضي الله عنه، فكان يمثل العالم المسلم الذي يحكم الشريعة في أمور الدنيا ولا يحكم الدنيا في أمور الشريعة دون أن يكون ضيق الأفق أو جامدا يحجر من الأمور ما يتسع له الدين. وقد عاش عمره الطويل ممتعا بالسلامة، إلا أنه أصيب في كريمتيه في أخرة من حياته فتقبل الآفة بعد طول السلامة صابرا محتسبا.
توفي يوم الثلاثاء 29 من المحرم عام 1294/14 فبراير سنة 1877، وجعل مدفنه بمقبرة السهيلي وعلى مقربة من ضريحه خارج باب الرب أحد أبوب مراكش القديمة في الجنوب الشرقي منها، وكان يوم دفنه يوما مشهودا.
مؤلفاته:
ترك أكنسوس، آثارا كثيرة، منها:
– الأجوبة التونسية،
– وتأليف في علم الكمياء،
– وتحقيق القاموس المحيط،
– وتصحيح الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم،
– والجواب المسكت، كتبه دفاعا عن الطريقة التجانية وردا على الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار البكاي فيما قاله بشأنها وشأن شيخا. طبع بالمطبعة التونسية الرسمية عام 1307هـ في زهاء 40 صفحة من قطع الوسط ثم طبع ثانية بالجزائر سنة 1913،
– والجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي، كتبه بإشارة من السلطان المولى محمد بن عبد الرحمن وبتأكيد من وزيره أبي الثناء محمد الطيب بن اليماني. يوجد الجيش مخطوطا في عدة مكتبات عامة وخاصة. وطبع على الحجر بفاس بتصحيح عبد الكريم بن العربي بنيس عام 1336هـ، وحققه حفيده العلامة سيدي أحمد أكنسوس، وطبع وطبعه ولده سيدي يوسف سنة 1994.
– وحسام الانتصار في وزارة بني عشرين الأنصار،
– والحلل الزنجفورية في أجوبة الأسئلة الطيفورية، طبعت الحلل الزنجفورية بالمطبعة التونسية الرسمية سنة 1312 هـ في زهاء 60ص. من القطع الوسط.
– وخمائل الورد والنسرين في بيت أبناء عشرين،
– والديوان،
– والرسائل،
– ورسائله إلى الوزير محمد العربي الجامعي في مجموع خاص.
– وشرح على قصيدة الزياني في مسألة قطع الفتوى بفاس ونواحيها.
– وطرر على الكتب، وكناش، ذكره أحمد سكيرج في الربع الأول في رفع النقاب (ص. 171)،
– والمقامة الكنسوسية، وهي مقامة طويلة النفس تتألف من 475 قرينة تتخللها أشعار عدة أبياتها 84 بيتا.
مصادر البحث:
ل. شيخو، الآداب العربية في القرن التاسع عشر، 1924، 2: 23-24، أ. الناصري، الاستقصا،
ع. ابن زيدان،
إتحاف،
م. ابن الموفق،
السعادة، ع. ابن إبراهيم،
الإعلام، 7،
ع. كَنون،
ذكريات مشاهير المغرب (العدد 4)،
ع. المشرفي، الحسام المشرفي، مخطوط، م. السرغيني،
حديقة الأزهار في ذكر معتمدي من الأخيار، مخطوط،
أ. سكيرج، رفع النقاب بعد كشف الحجاب عمن تلاقى مع التجاني من الأصحاب، ط. تطوان، (الربع الثاني)،
أ. الشنقيطي، روض شمائل أهل الحديقة في التعريف بأكابر أهل الطريقة، مخطوط،
م. غريط، فواصل الجمان، ع. الرندة، الكتاب، ط. فاس، 1922، ل. بروفنسال،
مؤرخو الشرفاء،
م. السائح،
المنتخبات العبقرية، ط. الرباط،1920،
م. المختار السوسي، المعسول،
م. الأخضر،
الحياة الأدبية.
معلمة المغرب، ج 2، ص 632
بتصرف