شمائل المصطفى من خلال كتاب الشفا
للعلامة المحدث القاضي عياض
يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى (اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره.)
الفصل الأول
فيما جاء من ذلك مجيء المدح والثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : ((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 ))
– قال السمرقندي : و قرأ بعضهم : من أنفَسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
– قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ، أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفَُسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و يعلمون صدقه و أمانته ، فلا يتّهِمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة أو قرابة ، و هو عند ابن عباس و غيره معنى قوله تعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى : 23 ) و كونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة الفتح ، و هذه نهاية المدح ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
ومثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران : 164 )
و في الأية الأخرى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة : 2 ) و قوله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 151 )
*وروي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) التوبة 129- قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا نكاح .
– قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
*وعن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء : 219 )ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً .
– وقال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته موافقته ، فقال تعالى (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 ) و قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 107 )
– قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : حياتي خير لكم وموتي خير لكم و كما قال صلى الله عليه وسلم : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً .
– وقال السمر قندي : (رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و ر حمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
– قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
– وحكى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (التكوير 20 و21)
– وروي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى 🙁 (فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : 91) . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه وسلم .
*وقال الله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور : 35 )
– قال كعب ، و ابن جبير: المراد بالنور الثاني هنا محمد صلى الله عليه وسلم . و قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ )*أي نور محمد صلى الله عليه وسلم
– وقال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال : مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة المباركة .
و قوله ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
*وقد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ، فقال تعالى ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة : 15 )
-وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) ((الأحزاب:45 و 46))
و من هذا قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( 1 ) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ( 2 ) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ( 3 ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( 4 ) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( 5 ) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( 6 ) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ( 7 ) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( 8 )) ( سورة الشرح)
شرح : وسع . والمراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول :
لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان .
– قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان و الهداية ، ووسعه لوعي العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قِرانه مع اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
– وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و رسوله أعلم . قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي .
– قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك . و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
– وقال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
ومن ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى : ((قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ) .
( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد : 7 )، فجمع بينهما بواو العطف المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
– حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه ، وقرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله ثم شاء فلان .
– قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف الواو التي هي للإشتراك .
– ومثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .
– وذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .
– وقول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .
– وقد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 )، هل (يُصَلُّونَ) راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟ فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا الآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .
– وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته ، فقال تعالى :(مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 )
وقد قال تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 31 ) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران32)
– روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ) فقرن طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم الكتاب 🙁 اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ( 6 ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) الفاتحة- ، فقال أبو العالية ، والحسن البصري : الصراط المستقيم هو رسول اللهصلى الله عليه وسلم و خيار أهل بيته وأصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و صاحباه : أبو بكر و عمر رضي الله عنهما .
– وحكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق والله و نصح .
– وحكى الماوردي ذلك في تفسير (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ )عن عبد الرحمن بن زيد .
– وحكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : 256 )) ـ أنه محمد صلى الله عليه وسلم و قيل : الإسلام .
وقيل : شهادة التوحيد .
– وقال سهل في قوله تعالى : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (إبراهيم : 34 ) ـ قال : نعمته صلى الله عليه وسلم
*وقال تعالى 🙁 (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) (الزمر: 33 و34)
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم
– وقا ل بعضهم : وهو الذي صدق به .- وقرىء : صدق بالتخفيف -. وقال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون -وقيل أبو بكر . و قيل علي . وقيل غير هذا من الأقوال .
– وعن مجاهد ـ في قوله تعالى 🙁 أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد : 28 ) ـ قال : بمحمد صلى الله عليه وسلم و أصحابه .
الفصل الثاني
في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء والكرامة
*قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( 46 )الأحزاب .
– جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
– حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال : أجل ، و الله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن يعفو ويغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.
– وذكر مثله عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، وفي بعض طرقه ، عن ابن إسحاق : ولا صخِب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، و التقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلا م ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأسمي به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العلة، وأجمع به بعد الفرقة ، وأولف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس .
– وفي حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاجره بالمدينة ، أو قال : طيبة . أمته الحمادون لله على كل حال .
– وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )الأعراف 157-158 –
– وقد قال تعالى : ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران : 159)
– قال السمرقندي : ذكَّرهم الله مِنته أنه جعل رسولَه رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً ليِّن الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
– وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة : 143 )
– قال أبوالحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه وسلم ، و فضل أمته بهذه الآية ،
– وفي قوله في الآية الأخرى : (وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) سورة الحج 78 –
– وكذلك قوله تعالى : ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء : 41 )
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً . ومعنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم الرسول بالصدق .
– وقيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم؟ فيقولون : نعم . فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
– وقيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
– وقال الله تعالى : (َبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ )-يونس : 2
– قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، يشفع لهم .
– وعن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
– وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند ربهم .
– وقال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه وسلم .
– وقال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ، والسائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل الثالث
فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة والمبرة
من ذلك قوله تعالى : ((عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة : 43 )
– قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
– وقال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
– وحكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
– قال : ولو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب . و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
ومن إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي معاتب بهذه الآية ، و حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعـدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
– قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ، فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .
– و قال تعالى 🙁 (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الإسراء : 74 )
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد الزلات ، و عاتب نبياً صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه وخيف أن يركن إليه ، ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
– ومثله قوله تعالى : ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام : 33 ).
– قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) .
– وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له صلى الله عليه وسلم ، وإلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه قولاً وإعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) ( سورة الأنعام 33)
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل : 14 )
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام : 34 )
– فمن قرأ وإن (يُكْذِبثوك) بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب . وقيل : لا يحتجون على كذبك ، ولا يثبتونه .
و من قرأ ( يُكَذِّبُوك) بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذلك .
و مما ذكر من خصائصه وبر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم ، فقال تعالى : ( يا آدم )،( يا نوح )، (يا موسى )، (يا داود )، (يا عيسى )،( يا زكريا )، (يا يحيى )… و لم يخاطب هو إلا : (يأيها الرسول) ،( يأيها النبي)، (يأ يها المزمل )، (يأيها المدثر) .
الفصل الرابع
في قسمه تعالى في عظيم قدره
قال الله تعالى ( (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ( الحجر 72 ) اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم ، و أصله ضم العين ، من العُمر ، و لكنها فتحت لكثرة الإستعمال ومعناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .
و هذه نهاية التعظيم ، وغاية البر والتشريف .
– قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
-وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
-وقال تعالى ( يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) – ( يس.)
اختلف المفسرون في معنى (يس) على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه ويس ـ اسمان له .
– وحكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم
– عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً صلى الله عليه وسلم .
– وقال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
– وقال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
وعن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
وعن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) (يس .)
فإن قرر أنه بين أسمائه صلى الله عليه وسلم ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته : أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
– قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتاب إلا له ، و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : إنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد قال صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
وقال تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 )) -سورة البلد .
– قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
– وقيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
– والمراد بالبلد عند هؤلاء مكة .
– وقال الواسطي : أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حياً ، و ببركتك ميتاً ـ يعني المدينة .
والأول أصح ، لأن السورة مكية ، و ما بعده يصححه : قوله تعالى (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) البلد .
ونحوه قول ابن عطاء في تفسير قوله تعالى : ((وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) – التين : 3 قال : أمنها الله تعالى بمقامه فيها و كونه بها ، فإن كونه أمان حيث كان .
ثم قال : _( (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) -البلد : 3 ومن قال : أراد آدم فهو عام ، و من قال : هو ابراهيم و ما ولد ـ إن شاء الله ـ إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فتتضمن السورة القسم به صلى الله عليه وسلم في موضعين .
و قال تعالى : (الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)(البقرة :1- 2)
– قال ابن عباس : هذه الحروف أقسام أقسم الله تعالى بها . و عنه و عن غيره فيها غير ذلك.
– وقال سهل ابن عبد الله التستري : الألف هو الله تعالى . واللام جبريل و الميم محمد صلى الله عليه وسلم .
– وحكى هذا القول السمرقندي ، و لم ينسبه إلى سهل ، و جعل معناه : الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه ، و على الوجه الأول يحتمل القسم أن هذا الكتاب حق لا ريب فيه ، ثم فيه من فضيلة قِران اسمه باسمه نحو ما تقدم .
– وقال ابن عطاء ـ في قوله تعالى (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)-قـ : 1- أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب و المشاهدة و لم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله .
وقيل : هو اسم للقرآن . و قيل : هو اسم لله تعالى . و قيل : جبل محيط بالأرض . و قيل غير هذا .
وقال جعفر بن محمد ـ في تفسير : والنجم إذا هوى : إنه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال : النجم قلب محمد صلى الله عليه وسلم : انشرح من الأنوار .
– وقال : انقطع عن غير الله .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى(وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) -الْفَجْرِ: محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه منه تفجر الإيمان .
الفصل الخامس
فصاحة لسانه ، و بلاغة قوله صلى الله عليه وسلم
وأما فصاحة اللسان ، وبلاغة القول ، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لايجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإجاز مقطع ، ونـصاعة لـفظ . وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلف أوتي جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ،حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه و تفسير قوله .ومن تأمل حديثه و سيره علم ذلك وتحققه ، وليس كلامه مع قريش والأنصار ، وأهل الحجاز ونجْد ككلامه مع ذي المشعار الهمداني ، وطِهفة الهندي ، وقطن بن حارثة العليمي ، والأ شعث بن قيس ، ووائل بن حجر الكندي ، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن . وانظر كتابه إلى همدان : = إن لكم فراعها ووِهاطها وعزازها ، تأكلون علافها وترعون عفاءها ، لنا من دفئهم وصرامهم ماسلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل ، والفارض والداجن ، والكبش الحوري ، و عليهم فيها الصالغ و القرح .
-وقوله لنهد :اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها ، وابعث راعيها في الدثر ، وافجر له الثمد ، وبارك له في لمال والولد من أقام الصلاة كان مسلماً ، ومن آتى الزكاة كان محسناً ، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً ، لكم يابني نهد و دائع الشرك ، و وضائع الملك ، لا تُلْطِط في الزكاة ، ولا تُلحِد في الحياة ، و لا تـتـثاقلْ عن الصلاة . وكتب لهم : في الوظيفة الفريضة : و لكم الفارض و الفريش ، وذو العنان الركوب ، والفلو الضبيس ، لايمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم ، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الرماق ، وتأكلوا الرباق ، من أقر فله الوفاء بالعهد والذمة ، ومن أبي فعليه الربوة .
– ومن كتابه لوائل بن حجر . إلى الأقيال العباهلة ، و الأوراع المشابيب . وفيه : في التيعة شاة ، لا مُقوَّرة الألياط ولا ضِناك ، وأنطوا الثَّيجة ، وفي السيوب الخمس . ومن زنى مِمْ بكر فاصعَقوه مائة ، واستَوفِضوه عاماً ، ومن زنى مِمْ ثيِّب فضرِّجوه باللأضاميم ، ولا تَوْصيم في الدين ولا عمَّة في فرائض الله ، و كل مسكر حرام . ووائل بن حجر يترفل على الأقيال .أين هذا من كتابة لأنس في الصدقة المشهور لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد ، و بلاغتهم على هذا النمط ، وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، و ليحدث الناس بما يعلمون .
– وكقوله في حديث عطية السعدي : = فإن اليد العليا هي المنطية و اليد السفلى هي المنطاة قال : فكلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا .
– و قوله في حديث العامري حين سأله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : =هل عنك =أي سل عمَّا شئت ، و هي لغة بني عامر .
– وأما كلامه المعتاد ، و فصاحته المعلومة ، وجوامع كلمه ، وحكمة المأثورة ـ فقد ألف الناس فيها الدواوين و جمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ، وفيها ما لا يُوازَى فصاحة ، و لا يُبارى بلاغة ، كقوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، و يسعى بذِمَّتهم أدناهم ، و هم يدٌ على من سواهم .
– وقوله : الناس كأسنان المشط .
– وقوله :المرء مع من أحب .
– وقوله :لا خير في صحبة من لايرى لك ما ترى له .
– وقوله: الناس معادن .
– وقوله : ما هلك امروء عرف قدره .
– وقوله :المستشار مؤتمن ، وهو بالخير ما لم يتكلم .
– وقوله: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم .
– وقوله : أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين .
– وقوله: إن أحبَّكم إلي وأقربكم مني مجالسا يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون و يؤلفون .
– وقوله : لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، و يبخل بما لا يغنيه .
-وقوله : ذو الوجهين لا يكون عند الله و جيهاً .
ونهيه عن قيل و قال ، و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ، و منع وهات ، وعقوق الأمهات ، ووأد البنات
وقوله : اتق الله حيثما كنت ، و أتبع السيئة الحسنة تمحُها ، و خالق الناس بخلق حسن .
– وقوله : و خير الأمور أوسطها .
– وقوله : أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما .
– وقوله : الظلم ظلمات يوم القيامة .
– وقوله في بعض دعائه : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، و تجمع بها أمري ، و تلم بها شعثي ، وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها علمي ، وتلهمني بها رشدي ، وترد بها ألفتي ، وتعصمني بها من كل سوء .
اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ، ونزل الشهداء ، وعيش السعداء ، والنصر على الأعداء …
إلى ما روته الكافة عن الكافة عن مقاماته ، ومحاضراته ، وخطبه ، وأدعيته ، ومخاطباته ، وعهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقاً لا يقدر . وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها ، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالبه عليها ،
– كقوله : حمي الوطيس .
– وقوله: مات حتف أنفه
_ وقوله :لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
_ وقوله :السعيد من و عظ بغيره . . .
في أخواته مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ، و يذهب به الفكر في أداني حكمها .
– وقد قال له أصحابه : ما رأينا الذي هو أفصح منك . فقال : و ما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين .
_ وقال مرة أخرى : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش و نشأت في بني سعد.
فجُمع له بذلك صلى الله عليه وسلم قوة عارضة البادية و جزالتها ، و نصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري .
_ وقالت أم معبد في وصفها له :
حلو المنطق ، فضل لا نزر و لا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن . و كان جَهير الصوت ، حسن النغمة صلى الله عليه وسلم .
الفصل السادس
شرف نسبه ، و كرم بلده و منشئه صلى الله عليه وسلم
وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشئه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ، ولا بيان مشكل ولا خفي منه ، فإنه نخبة من بني هاشم ، وسلالة قريش وصميمها ، وأشرف العرب ، وأعزهم نفراً من قبل أبيه و أمه ، و من أهل مكة من أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده .
-حدثنا قاضي القضاة حسين بن محمد الصدفي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف ، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد ، حدثنا أبو محمد السرخسي ، وابن إسحاق ، وأبو الهيثم : قالوا : -حدثنا محمد بن يوسف ، قال حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه .
-وعن العباس ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم ، من خير قرنهم ، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، و خيرهم بيتاً
-وعن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم .
قال الترمذي : و هذا حديث صحيح .
– وفي حديث عن ابن عمر ، رواه الطبري أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اختار خلقه ، فاختار منهم بني آدم ، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب ، ثم اختار العرب فاختار منهم قريشاً ، ثم اختار قريشاً فاختار منهم بني هاشم ، ثم اختار بني هاشم فاختارني منهم ، فلم أزل خياراً من خيار ، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغض العرب فببغضي أبغضهم .
– وعن ابن عباس : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح ذلك النور ، وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح ، وقذف بي في صلب ابراهيم ، ثم لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط . ويشهد لصحة هذا الخبر شعر العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم المشهور .