ما أحوج العالم لثورة أخلاقية تعيد للإنسان حقوقه المسلوبة
الخميس 19 جمادى الأولى 1443هـ 23-12-2021م
669
ما أحوج العالم لثورة أخلاقية تعيد للإنسان حقوقه المسلوبة
*الحمد لله رب العالمين* والصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم الانبياء و المرسلين. * و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، * ونشهد أن سيدنا و نبينا و مولانا محمدا عبد الله و رسوله و مصطفاه من خلقه و خليله صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته، وعلى من حافظ على دينه واستمسك بهديه إلى يوم الدين .
* أما بعد، فياعباد الله، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70] إن هذه الآية تفيد تكريم الإنسان و تفضيله و أن حقوقه في الإسلام شملت المعنى الإنسانيِّ الواسع، فديننا قد أُعطاها لكل إنسان حقَّه ولم يقتصر في العطاء والاستحقاق و المراعاة على الإنسان المسلم، بل شملت كل إنسان ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا، وبغَضِّ النظر عن جنسه و عِرْقه و لونِه و لغته و دينه ومكانته الاجتماعية أو مستواه المعيشي، وهو ما قرره رسول الله عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع التي تُوفي بَعدَها بأقل مِن ثلاثة أشهُر ،حيث قال: (يا أيها الناس: إنربكم واحد، و إن أباكمواحد،ألا لا فضل لعربي على عجمي و لا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمرإلا بالتقوى “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فيبلغ الشاهد الغائب)فاجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في تطبيق وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم و مراعاة هذه الحقوق كما أُمروا بها، ولكن خلَف مِن بعدهم خلوفٌ أضاعوا الحقوق، ولم يلتزموا بأدائِها، إما عن عمْد، وإما عنْ جهْل، وحصل التفريط في حِفْظ الحقوق فاستفحل الخلَل، وعمَّ التشاحن في دُنيا الناس، وكثُرَت الضغينة في القلوب، و عمَّ الهجْر والقطيعة، فهجَر الابنُ أباه، والأخُ أخاه، وتبرمت الزوجةُ مِن زوجها تشكوه، ومَلَّ الزوج امرأتَه فكثُر الهجر، وشَكَا العاملُ صاحبَ العمل، واكتظتْ المحاكم بالمتقاضين المشتكين، وشهدت الشوارع انتفاضات غاضبة حاشدة في كثير من دول العالم، وأصبح نيل الحق أمنية لكل من ضاع حقه. وما أقسى أن يصبح الحقُّ المكفول شرعًا أو عرفًا للإنسان و يُفترض أن يناله دون جُهد منه أو عناء في طلبه متلاشيا في المجتمعات خصوصا المسلمة التي جاء الإسلام ليعتقها من الظلم و الظالمين، وجاء نبيها صلى الله عليه و سلم ليخرجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، نعم ما أقسى أن يغدوَ نيل الحق و تحصيله حلما كبيراً، يمنِّي به نفسه كل مظلوم كل يوم وليلة،بل قد يُضْحِي عند البعض حلمًا مستحيلَ التحقق، والأقسى من ذلك أن تصبح المطالبة به جريمةً من الجرائم، يعاقب مرتكبها،ومن أقبح الظلم ـ و الظلم ظلمات يوم القيامة ـ ظلم الإنسان نفسَهُ حينما يتصور أن حقوق العباد سواء كان عددهم كبيرا أو صغيرا مِلكٌ خالص له، فلا حق لهم إلا ما يمنحه أو يقرره هو، وفي الواقع الذي نعيشه نجد أمثلة شديدة القسوة في إهدار الحقوق والاعتداء عليها، إذ ليس من صورها أن لا يقع الظلم فيها إلا على شخص واحد، بل على نجده يطال عدة آلاف أو ملايين. ألم يقل سبحانه :﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[الإسراء: 33]،وألم يقل عز وجل:﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]. ومع ذلك يا أمة الإسلام نجد من أبسط الحقوق المهضومة في هذه الأيام: حقَّ الإنسان في الحياة، وحقَّه في الأمن، وحقَّه في صيانة النفس و العرض والمال، .ولا ننسى أن القتل نوعان: قتل حسي و قتل معنوي، و هذا الأخير أشد و أنكى، لأن فيه عذاب مستمر.فقد نجد حالات متعددة من الظلم المركب، يُظلم فيها الإنسان ويُمنع عنه حقه، ويُجبر على استجداءه والمطالبة به تسولًا، و قد يجبر أيضًا على التسبيح بحمد ظالمه، والتغني بعدله ورحمته. فاللهم تب علينا جميعا توبة نصوحا و ارفع مقتك و غضبك عنا، و انظر إلى أمة حبيبك صلى الله عليه و سلم بعين الرأفة و الحنان و اللطف و أصلح أحوال خاصتنا و عامتنا يا رب العالمين
نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم و كلام سيد الأولين والآخرين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين
الخطبة الثانية
* الحمد لله على نواله و إفضاله ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، و على آله ، وعلى جميع من تعلق بأذياله ، و نشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله و بعد
ولنعلم عباد الله أننا ما أحوجنا لثورة أخلاقية تعيد لنا حقوقنا المسلوبة، فقد جعل الله للمرأة حقًّا شرعيًّا في الترِكَةِ التي تركها موروثها، حق ثابت لها منذ خرجت حية من بطن أمها، ويظل هذا الحقُّ واجبًا لها مهما كانت حالتها: فقيرة أو غنية، بنتًا أو أمًّا أو أختًا،أو زوجة، ولا يجوز لأحد أن يحرمها من هذا إلا بموانعه الشرعية (من كفرٍ أو ردةٍ أو قتلٍ لمُورِّثها.)فقال تعالى: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]. ولكن كثيرا من النساء خصوصا اذا كن متزوجات يصبح حقهن في الإرث أمنية وحلما، لأن هناك من يضيِّع هذا الحق، لا سيما في بعض المجتمعات أو القبائل، حيث يمنعون المرأة – وخاصة المتزوجة – من الميراث، ويَأكُلون حقها فيه، بل يُنكِرون عليها مُطالَبتها به عن طريق القانون، ويدَّعون زُورًا وبُهتانًا أنها بهذا الفعل تضر بالأسرة وبوَشائج القُربَى! فتجدون بعض الناس يطمع في أن ينال منفردًا كلَّ الميراث، ولا يعطي الباقين حقوقهم، ولا يَصِلُهم منه إلا الفتاتُ الذي لن ينالوه حتى يُقِرُّوا جميعًا بأن الميراث ليس حقًّا لهم، بل هو حق خالص له وحده، وأنهم جميعًا طامعون في فيض كرمه بأن يمنحهم القدر الذي يريد، على أن يحمدوه في كل موطن، وأن يحدِّثوا الجميع عن كرم خلقه وحسن تلطفه بهم، فلن ينالوا شيئًا ، و من الحق المهضوم الذي أصبح عند البعض مجرد أمنية و حلما بعيد التحقق حق الآباء على الأبناء الذي جعله الله عظيما فقد ثنَّى بهما الله عز وجل بعدَ الأمر بعبادتِه وحْدَه واجتناب الشرك به سبحانه، فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، وهناك من يهجر والديه و يسيء إليهما في وقت هما أحوج إلى المساعدة و الرفق و العناية،فما أعظمَ هذا الحقَّ الذي فرط فيه الكثيرُ من الناس! وكثيرًا ما نسمع الشكوى من الوالدين والمطالبة بحقهما في البر من الأبناء، وتُحزننا دموعُهم التي تُراق مِن عيونهم، مِن تفريط أبنائهم. و بالمقابل نجد أبناء حلمهم الأكبر أن يتفقد الأب أحوالهم و يرعاهم بعطفه و حنانه ، لكن قلوبا قاسية من بعض الآباء تضيع حقوق الأبناء في المعاملة الطيبة و النفقة و التربية فقط لأنه ساءت علاقته بأمهم فيهجر الجميع و الله سائله عما استرعاه و ضيعه.
وهناك زوجات أكبر أمانيهن و حلمهن الذي تكاد تيأسن من حصوله ليس الحقوق المالية فقط فقد تكن مستغنيات ماديا، بل تشتكين ضياع حقهن من حُسن العشرة، عندما يحوِّل الزوج بيته إلى جحيم لا يطاق، ويجعل منه سجنًا لا يحتمل، أولا يعطي لزوجته ولا لأبنائه ما أوجبه الله عليه من النفقة والرعاية، ويتفرغ فقط لحياته الخارجية ويتركهم في الحرمان يتقلَّبون، أو تجده يعطيهم ولا يمنحهم ما يعطيه من النزر القليل -ماديًّا أو معنويًّا- إلا بذُلِّ السؤال ومرارة الحاجة، متخذا ظهريا قوله تعالى﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ، و كذلك هناك من لا يمنح الأجيرَ حقه ، و لا يعطيه إياه إلا بعد أن يعذبه كثيرا و يذله ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :(أعطوا الأجيرَ أجْره قبل أن يجف عَرَقـُه) (ابن ماجه).
فاللهم حسن أخلاقنا و ألهمنا رشدنا و لا تجعل لصاحب حق علينا تبعة يوم نلقاك . و استعينوا عباد الله على الاستجابة لأوامر الله و المبادرة إلى طاعته بالإكثار من الصلاة و التسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، و الهادي إلى صراطك المستقيم، و على آله حق قدره و مقداره العظيم، و ارض اللهم عن أصحاب رسولك، و خلفاء نبيك، القائمين معه و بعده على الوجه الذي أمر به و ارتضاه و استنه خصوصا الخلفاء الأربعة، و العشرة المبشرين بالجنة والأنصار منهم و المهاجرين، و عن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، و عن أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، اللهم انفعنا يا مولانا بمحبتهم، و انظمنا يا مولانا في سلك ودادهم و لا تخالف بنا عن نهجهم القويم وسنتهم.
(ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)