لكل علم مفاتيحه التي لا يدريها إلا أهل الاختصاص ،الذين يتوجب علينا طلب التوضيح منهم طبقا للمنهج الرباني الذي يحث على التوجه لأهل الذكر بالسؤال لإزالة الإشكال. وسيدي ادريس العراقي صاحب الرسالة الشافية في جزئها الأول يقدم إجابة شافية لمن ألقى السمع وكان قلبه سليما .
بيان بعض مراتب الأولياء تفصيلا:
العلم أن النهاية في الولاية ولو بلغت ما عسى أن تبلغ إليه لا تلحق أبدا بالنبوءة فلو أن وليا من أولياء الله تقدم إلى العين التي يأخذ منها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لاحترق من حينه كما قاله الإمام الشعراني في المبحث الثاني والأربعين من كتابه اليواقيت والجواهر.
وغاية الأمر أن الأولياء يتعبدون بشريعة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يفعلوا هلكوا وانقطع عنهم الإمداد، فلا يمكنهم أن يستقلوا بالأخذ عن الله تعالى أبدا، وإن جميع الأنبياء والرسل وسائر الأولياء مستمدون من مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأفضل الأولياء المحمديين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الصحابة رضوان الله عليهم، وأفضل الجميع من الصحابة وغيرهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويليه عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضوان الله عن جميعهم. كما دل ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مما لا يكاد يحصى ويكفي من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم “لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده عز وجل لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه”، ولله در الإمام البوصيري إذ يقول في همزيته:
وكلهم في أحكامه ذو اجتهـ
ـاد وصواب كلهم أكفاء
رضي الله عنهم ورضوا عنه فأنى يخطو إليهم خطأ. وقال شيخنا العارف الأكبر القطب الكامل الأشهر أبو العباس مولانا أحمد التجاني رضي الله عنه كما في الفصل الثاني من الباب الرابع من كتاب جواهر المعاني بعدما تكلم على فضل صلاة الفاتح لما أغلق، وفضل أهلها ما نصه: “ولكن كل واحد من الصحابة الذين بلغوا الدين مكتوب في صحيفته جميع أعمال من بعده من وقته إلى آخر هذه الأمة، فإذا فهم هذا ففضل الصحابة لا مطمع فيه لمن بعدهم ولو كان من أهل الفضل المذكور في هذا الباب لمرتبة الصحبة”، قال ثم ضرب رضي الله عنه مثلا لعمل الصحابة مع غيرهم فقال: “عملنا مع عملهم كمشي النملة مع سرعة طيران القطاة”، ولقد صدق رضي الله عنه فيما مثل به لأنهم رضي الله عنهم حازوا قصب السبق بصحبة سيد الوجود صلى الله عليه وسلم. (أنظر تمامه إن شئت).
وقال في آخر الفصل الثالث من الباب الرابع ما نصه: “وسألته رضي الله عنه عن تفضيل الصحابي الذي لم يفتتح عليه وعن القطب من غير الصحابة” فأجاب رضي الله عنه بقوله: اختلف الناس في تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عله إلى أن قال: والراجح تفضيل الصحابي على القطب بشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله اصطفى أصحابي على سائر العالمين سوى النبيئين والمرسلين”، أنظر تمامه.
وإذا علمت هذا فاعلم أن أهل الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم كلهم أولياء الله عز وجل لقوله تعالى: ” اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ” البقرة 257، ولكن قربهم من الحق جل علاه على قدر معرفتهم به لقوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به”، الحديث، والمحبة في عين الولاية في حضرات القدس والرعاية، لقوله سبحانه “اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ” الشورة 13 وعلى قدر معرفته بربه يرتقي في طبقات الولاية الخاصة بعد الولاية العامة على اختلاف مشاربها وتباين مراتبها.
ثم أنهم باعتبار الألقاب وغيرها على قسمين:
– القسم الأول من له في الولاية لقب خاص من أهل الأحوال والمعارج التي يعرجون فيها وهؤلاء لهم عدد خاص في كل عصر.
– القسم الثاني من ليس لهم عدد يحصرهم بل يزيدون تارة وينقصون تارة أخرى وليست لهم ألقاب خاصة بحيث لا يتميزون إلا بها.
فأما القسم الأول فأجل مراتبه الخاصة كما قاله الإمام الشعراني في المبحث الخامس والأربعين من كتابه اليواقيت والجواهر مرتبة القطب، ثم مرتبة الفرد المحمدي ثم الأمامين ثم الأوتاد ثم الأبدال انتهى. وهناك بعد هذه المراتب الخمس مرتبة الأولياء الرجبيين ثم البدلاء وهم النقباء وفيهم نوعان كما يأتي، ثم النقباء ثم الحواريين ثم مفاتيح الكنوز وهكذا مما هو معلوم لدى أربابه.
1) فأما القطب فهو موضع نظر الحق سبحانه من العالم في كل زمان نظرة خاصة، ويسمى بقطب الأقطاب وبالغوث وبالفرد الجامع، ولا يكون في كل عصر إلا فرد واحد وهو الخليفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لحفظ العالم بالنيابة عنه صلى الهد عليه وسلم فله هذه الأسماء الثلاثة قال لسان الطريقة العارف بالله أبو عبد الله سيدي محمد الكنسوسي رضي الله عنه في المطلب الثالث من كتابه الحلل الزنجفورية المطبوع بتونس صفحة 419 المبحث الأول من المطلب الثالث قولهم هل الفرد الجامع هو القطب؟
الجواب: “نعم هو القطب أي قطب الأقطاب وهو الغوث فهذه الأسماء الثلاثة لمسمى واحد”، انظر تمامه فقد بين وجوه تسميته بالفرد الجامع وأعلى مقام، القطبانية الختمية والكتمية وسيأتي بيان أوصاف الجميع في المبحث الثالث من المقدمة بحول الله تعالى وقوته.
2) وأما الإمامان فقال شيخنا العلامة أبو العباس سيدي أحمد سكيرج قدس الله سره في كتابه الروض المنيف: “ودون مرتبة القطب الجامع مرتبة الأئمة رضي الله عنهم، ولا يزيد عددهم على اثنين في كل زمان، ومنهما خلف الخطب الذي يكون في زمانهما، فإذا مات فإنه يخلفه أحدهما ولا يكون إلا ذكرا ولا تحل الأنثى منهما في هذا المنصب الجليل لأن الأنثى لا قدم لها في القطبانية، ولا قدرة لها على حمل السر المنوط بهذا المقام” انتهى. باختصار.
وقد أجاد الكلام عليهما بتوسع الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي رضي الله عنه في رسالته المسماة منزل القطب، وحاصله باختصار هو أن الإمام الذي على يسار القطب يسمى الإمام الأكمل وهو الذي يخلف القطب بعد موته فإذا انتقل إلى القطبية أو مات يخلفه الإمام الآخر.
وهذا الإمام يسمى عبد الرب ( وهو الإمام الأول) وله معرفة سر الأسرار وله التدبير الإلهي وله في العدد أسرار إلهية لا يعرفها غيره، ويختص بعلم الصنعة المعشوقة ويعلم خواص الأحجار وهي عنده مكتمة وله في المحاربات والمكايد أمر عجيب وهو على النصف من عمره من العالم وعلى النصف مع القطب أو الحق المخلوق على السواء إلى أن ينتقل إلى القطبية أو يموت، وله خمسة أسرار:
الأول الثبات به يعلم حقائق الأمور وبه يدبر ويفصل ويولد ويزمز ويعبر على سر الرموزات وفك المطلسات وأصول الأشياء الظاهرة والباطنة والحقيقية وله خرق السبعينة وله إقامة الجدار وليس له قتل الغلام من حاله وكشفه فإن قتله يوما ما فعن إذن القطب.
الثاني سر التمليك به يرحم الضعفاء وينجي الغرقى ويكسب المعدوم ويقوي الضعيف ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق ويجود على من أساء ويغفو عن الجرائم ويصفح ويقيل العثرات ويجمع بين المتعاشقين والوالدة وولدها وهو يطوي الطريق على القاصدين لما اشتاقوا إليه.
الثالث سر السيادة وبه يفتخر ويبدي حقيقته ويقول أنا سيد ولد آدم وإني أنا الله لا إله إلا أنا وسبحاني وما في الجبة إلا الله.
الرابع سر الصلاح وبه يحمل الناس على ما فيه صلاحهم ونجاتهم من المكاره ويجنبهم عن ما فيه هلاكهم وفسادهم من الملذوذات وبهذا السر يحول بين الولد ووالدته وبين المتعاشقين لأن هذا السر يعطيه بحقيقته أن الأشياء القلبية لم يخلق بعضها لبعض ولا يغيرها إلا الله فهو يردها إلى مقام التفريد إلى الله وهو الذي أريدت له وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
الخامس سر التغذية وبه ينزل المطر ويدر الضرع ويطيب الزرع وتحث الشهوات وتنضج الفواكه وتعذب المياه تكون القوة تسري في أهل المجاهدات والمحاصرات حتى يواصلوا الأيام الكثيرة من غير مشقة والسنين العديدة من غير التفات ولا ضرر انتهى.
الإمام الثاني الذي على يمين القطب وهو الغمام الروحاني وهو صاحب حال لا صاحب مقام، مشتغل بنفسه من جهة مالكه متمكن القدم في الروحانية له علم الأسماء وليس له من علم الأرض خبر للملأ الأعلى، به تعشق وله تشوق أكثر من الإمام السابق واسمه عبد الملك، وله سران:
الأول سر العبودية وبه هو يسبح الليل والنهار ولا يفتر فالتحق بالعباد المكرمين غير أن المقام فيه أمر سفلي.
الثاني سر السيادة وتقدم الكلام عليه انتهى.