هذه حقيقـــــــــــة طريقة أحمد التجاني
– إلى اليوم مازال النقاش محتدما حول الطرق الصوفية والزوايا ومن ضمنها التجانية التي لا تسلم من الاتهامات بتشجيع البدع والخرافات، على ماذا يستند من ينكرون على التجانيين طريقتهم؟
هناك نوعان من الرد رد إجمالي ورد تفصيلي، فأما الإجمالي فهو اعتقادنا نحن معاشر العقلاء -بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والعقدية- بأن الخلاف في المبتدئات والأفكار شيء ضروري في الكون، وكل العقلاء متفقون على هذا المبدأ، ويؤكد هذا قول سيدنا عبد الله ابن مسعود من كون اختلاف أمة رسول الله رحمة، وهو خلاف لا يضرنا ولا يزعجنا وحتى المنكرون ممن تشددوا على هذه الطريقة المباركة نشفق عليهم، من جهة أنهم أنكروا ما لا يتبصروا كنكر العميان للشمس، ونعذرهم من جهة أخرى لأن إنكارهم في الغالب مؤصل عن جهل ولنقل إنه دفاع منهم عما يرونه حقا.
أما عن الجواب التفصيلي فأقول إن تاريخ الإنكار لم يخص الطريقة التجانية لوحدها، بل كان على التصوف وأهله منذ أن ظهرت كلمة التصوف في الكون، وطائفة المنكرين مبتدأها في الإنكار شيئان، هما الخلاف في اللفظ والخلاف في المعتقد، أما الخلاف في اللفظ فقد أنكروا التصوف اسما وحققوه مسمى، فهم يقولون لا نحب أن نسميه تصوفا لأنها كلمة زائدة لم يعرفها الإسلام بل نسميه زهدا أو إحسانا أو سلوكا، وفي هذا نقول إننا متفقون فليسموه ما يشاؤون طالما نحن متفقون في المقصد والغاية، لكن الإشكال لم ينته لأننا نقول إنه خلاف لفظي لا محال، وهو يقولون إنه خلاف لفظي يتفرع عنه خلاف في المعتقد، ولذلك يتسرعون في الإنكار والتكفير والتفسيق والتبديع.
أما الإنكار في المعتقد مبني على طريقة فهمهم وطريقة فهمنا، فأما طريقة فهم المنكرين ظاهرية، وحجتهم أن ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم لا نفعله، وهو من حيث النظر معقول لكنه من حيث الممارسة والتطبيق قبيح مردود، ودليلنا أن علم الأصول مبني على خمسة مباحث وهي الكليات التي راعها الإسلام، وأحكام الشريعة كلها مبنية على هذه الأحكام الخمسة، أي أنه إما أن يكون الفعل أو القول أو العمل واجبا أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا، وهذا ما اتفقت عليه كلمة الأصوليين وإن اختلفت مذاهبهم وطوائفهم.. والسؤال هنا هل قال أحد العالمين السابقين أو اللاحقين أن الترك حكم يرجع إليه في الاستنباط أي أيُّ شيء تركه رسول الأمة ولم يفعله؟ فهل هناك أي حكم ينبني على شيء لم يفعله الرسول فلا يجوز فعله؟ أبدا لم يقل به أحد، فإذن من حيث النظر الأصولي وآليات الاستنباط فهذا مردود عندنا وعندهم لكنهم لا يبصرون، علما أنهم يقولون إن الترك ليس حكما شرعيا، ويصرون على استعماله في الإنكار على الصوفية الذين يجتمعون على الذكر جهرا، ويذكرون بأسماء وأعداد معلومة، ما هو دليلهم؟ قولهم لم يفعلها رسول الله، هل ترك الرسول للشيء يدل على تحريمه؟ أبدا ولهذا فهم يقعدون في نظرياتهم شيئا ويمارسون شيئا آخر، ونحن ليست عندنا هذه الفجوة وهذا الانفصال، وقاعدة الأصوليين أن الترك ليس محرما، وفعله عندنا ليس محرما.
– من الأمور التي ينكرها الكثيرون قول التجانيين بلقاء الشيخ سيدي أحمد التجاني بالرسول يقظة؟
في المعتقدات أيضا سأذكر تناقض المخالف، إذ المنكر يجعل الغيب أصلا في الإيمان ومن أنكر جزءا من الغيب فقط أنكر الإسلام كله، وهنا أسأل المنكرين هل تسمحون لعقلكم أن يٌقحم في الإيمان والتصديق بالغيب؟ أم أنكم تخلعون نعل عقلكم عند هذا الباب؟ سيقولون ليس للعقل دخل في أمور الغيب لأنها فوق أطوار حدود إدراك العقول..
على هذا فمبتدأ أمر طريقتنا هو الحدث العظيم باجتماع سيدنا أحمد التجاني بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة، وهي كلها مسلمة على هذه المسألة، وكل ما أخبر به الرسول شيخنا نعتبره أمرا ينبغي التسليم له والامتثال إليه، والنواة التي إذا صلحت صلح ما بعدها وإذا فسدت فسد ما يليها هي هذا الاجتماع، وأسأل المنكرين عن وجه إنكارهم لهذه الحقيقة هل بالشرع أم بالعقل؟
والإنكار إما أن يكون بالشرع أو بالعقل أو بهما معا، فإذا كان بالشرع فهل ثبت شيء يمنع اجتماع النبي يقظة في عالم الأرواح، يطوفون الدنيا ويقرؤون المصنفات والكتب والأسانيد ولا يجدون فيها شيئا من هذا ولو بسند ضعيف، فإذن الشرع بريء من إنكار قدرة الاجتماع بالرسول (صلعم).. ولهذا تجدهم ينكرونه بالعقول وأول شيء قولهم إن النبي لما مات انقطع كل شيء، وعن هذا نجيبهم أيضا، بقولنا انقطع من ماذا؟ هل من الانتفاع بالنبي أم من الوحي الذي كان يتنزل عليه؟ نحن نتفق معهم في قولنا أن لقاء سيدنا الشيخ بالنبي ليس وحيا ولا يوحى للتجاني ولا لغيره من الأولياء، وهي قضية لسنا مضطرين لأن يذكروننا بها، ولم ندَّع أبدا أن الذي أوتي سيدنا الشيخ عند لقائه بالنبي هو من الوحي أو من زيادة التشريع.. ولهذا فالنقطة الضيقة التي بقيت هي الانتفاع من النبي بعد موته وهو ما ينكرونه.. وفي هذا قالوا إن الانتفاع بالرسول منتف بعد وفاته ونحن نقول إن مقدمتهم باطلة لأننا لا نعتقد وفاته بالدليل الشرعي وأول دليل يبطل ويهدم قاعدة الإنكار ولا ينبغي لمسلم موحد أن يعتقد بذلك، لأنه صرح بأنه لا يموت، في قوله (صلعم): «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» والحديث صحيح في كتاب للإمام البيهقي سماه «حياة الأنبياء»، وإذا كان هذا شرفا للأنبياء فكيف يكون بأشرف المرسلين فهو حي من باب أولى.. وهم يقولون لا بدليل قول الله عز وجل في القرآن: «إنك ميت وإنهم ميتون» (سورة الزمر)، وعن هذا أقول إن ميتة البشرية لحقته كما لحقت الشهداء الأحياء في قبورهم مصداقا لقوله تعالى « وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران)، فإذا كان هذا مقام الشهداء وهو أقل منزلة من مقام الأنبياء، أفلا يكون رسول الله كذلك، ولهذا فخرافة موت النبي وانقطاع الانتفاع به خطأ، وينبغي أن يرجعوا إلى الله ويتوبوا عن إنكارهم للحديث والقرآن الذي يتضمن مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.
العقل لا ينكر الاجتماع بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما لا ينكره الشرع، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا: وما يثبت –إن سلمنا عقلا وشرعا بإمكانية الاجتماع بالنبي- أن هذا حصل بالفعل مع سيدي أحمد التجاني؟ الجواب عندنا نعتمد فيه قاعدة قياس سليمة ومقبولة ونتساءل عن مبرر جزمهم بأن الأنبياء مبعوثون من الله؟ هذه القاعدة هي التي يجب استصحابها للتسليم لأولياء الله ممن اجتمعوا بالنبي (صلعم).. والقاعدة هي لما رأى الأنبياء في أقوامهم أمناء صادقين ذوي أخلاق عالية سلم الناس لهم بالنبوة من هذه الجهة وأظهر الله على أيديهم المعجزات التي تؤيدهم في ذلك وصاروا أنبياء يكفر من أنكر عليهم، وادعى غيرهم النبوة ولم يأتوا بهذه الأدلة، فلم يتبعهم أحد لغياب ما يدل على صدق نبوتهم من أخلاق وطباع وكرامات، وهذا ما حدث مع سيدي أحمد التجاني الذي تحدث عن اجتماعه بالنبي يقظة فنظر الناس في حاله قبل دعواه فلم يثبت عنه لا من قريب ولا من بعيد شيء من خوارم المروءة فضلا عن شيء من المفسقات أو الكذب، وبعد دعوته لم يثبت أنه يدعي الأمر سعيا إلى المال أو الجاه أو السلطان، بل كان يريد الدعوة إلى الله، ادعى ما ادعى ونام على الحصير وأكل الخبز البالي، ولم يتميز عن أصحابه وكان صاحب دعوة لله. وأخلاقه وصفاته وصدقه الذي عرف به من قبل ومن بعد دليل على أنه لا يمكن لمثل هذا أن يدعي أمرا عظيما كالاجتماع بالنبي والكذب عليه، وهو الذي لم يعرف عنه الكذب في أمور الدنيا التافهة. ومما يثبت صدق الشيخ ما أيده به تعالى من كرامات ظهرت في زمانه وهي شهيرة حكى عنها حتى الذين لم يدخلوا طريقته وشهدوا بصدقها، وأجَلّ كراماته والتي هي سد لباب الإنكار إلا من متعصب مغلق القلب هي هذه الطريقة التي انتشرت في هذا الوقت القصير جدا والتي أخذها وتسلمها وسلم لها وجهاء الناس في بلاد الإسلام قاطبة، اعتقدها العلماء أولا واعتقدها الأمراء والخلفاء والسلاطين، واعتقدها الخاص والعام، وخرج الناس من طرقهم راغبين فيها واجتهدوا للدخول تحت ظلال أهلها، والكل يعلم أن الله أدخل الإسلام بعد اثني عشر قرنا إلى بلاد إفريقيا بالتجانية، فهم من هذه الجهة من مقام الصحابة رضي الله عنهم الذين أدخل الله بهم الإسلام إلى شرق أسيا وجنوب شرقها وغيرها من البلاد، والله خبأ هذه الأرض الطيبة كل هذه القرون حتى جاء سيدنا أحمد التجاني وأتباعه فكانوا سببا في إسلام ملايين الناس ممن كانوا يعبدون الأوثان والأشجار والحجر، فهداهم الله لصلاة الفاتح، أليس هذه أجل كرامة تدل على صدق صاحبها؟ فهل لصاحب ادعاء كاذب أن يدخل الله بكلمته الإسلام إلى بقاع كثيرة عبر المعمور؟ لا يستقيم هذا لا عقلا ولا شرعا ولا منطقا..
– توصف التجانية بأنها طريقة منغلقة على نفسها، وهناك اليوم توجه لأن تهتم زواياها بعدد من المجالات المجتمعية وتمارس أدوار جديدة..
هذا تصور غير سليم وهو من نفحات المنكرين أيضا، ومما يفرح به هؤلاء، ونحن لا ندعي الكمال المطلق، لكن لا ننكر أن هناك بعض الفتور في مناطق وأزمنة معينة، لكن ينبغي أن أصحح لكل مثقف منصف فكرة أن الزاوية منغلقة على نفسها ولا يُعرف إلا المريد والشيخ والأوراد والأذكار فهي فكرة خاطئة جدا، لو يقرأ الناس تاريخ هذه الطريقة أولا في الدفاع عن حوزة الإسلام في المغرب والجزائر وتونس، وكتب التاريخ هي المرجع الذي نحتكم إليه، ففي نيجريا كان المجاهدون تجانيين، وفي مالي ومصر أيضا وفي كثير من الأقطار..
أما عن ضرورة أن تساير الزاوية عصرها، فلدينا قاعدة كلية في التصوف، تقول إن «الصوفي ابن زمانه» ومعناها أن صوفي هذا الزمان يلبس ما يشاء، لكنه لا يختلف عن صوفي القرن الثالث والرابع والخامس بأنه ذاكر لله، وتجاني هذا الزمان قد يكون في أعلى مناصب الدولة أو الشركات في شتى المجالات لكنه مختلف في صورته عن صوفي زمن سيدي أحمد التجاني، في لباسه ولغته وتسريحة شعره، لكنه يحمل سبحة مقسمة إلى أقسام معلومة دلالة على أن ما يجمع التجانيين هو الوظيفة والورد، وهو المعتقد في الله وفي سيدنا رسول الله وسيدنا أحمد التجاني وباقي الأولياء، لكننا في زماننا لدينا وظائف معينة، ومن أمر سيدنا الشيخ رضي الله عنه أن نكون مع الناس وبينهم وأن نحب الخير للناس وأن نسعى لإيصاله إليهم ويشمل خير نشر العلم النافع وتجاني اليوم ملزم أن يكون حاضرا في كل مجالات البناء لهذه الأمة وأن يكون نموذجا يحتذى في تطبيق السنة..
عدنان زهار
باحث في العلوم الشرعية