الخطبمقالات

معضلة الدَّيْن في التشريع تحسينا و تقبيحا

 (خطبة الجمعة في موضوع ):

[معضلة الدَّيْن في التشريع تحسينا و تقبيحا]

*الحمد لله رب العالمين مُسْبِغِ النِّعم الحافظِ من البلايا و النِّقم* والصلاة     و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم الانبياء و المرسلين*و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،* ونشهد أن سيدنا و نبينا و مولانا محمدا عبد الله و رسوله  و مصطفاه من خلقه و خليله صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته، وعلى من حافظ على دينه واستمسك بهديه   إلى يوم الدين . أما بعد،

* عباد الله،نريد أن نساهم اليوم في التوعية و معالجة معضلة كبيرة أحاطت بذِمَم الناس و أرهقتهم في هذا الزمان كما لم يحْصُلْ في أي زمن مضى، إنها معضلة الديون التي أذلت الأفراد و الجماعات بل الدول نفسَها، لكن سنقتصر على ما يخص الأفراد لأن الموضوع متشعب جدا، ألا فاعلموا يا عباد الله أن موضوع الدَّيْن يحتاج إلى فقهٍ عميق، و فهمٍ دقيقٍ قبلَ السُّقوط في فخاخه، و معاناة مشاكله، فالله تعالى شرعَ الدَّيْن في كتابه إنما بضوابطَ  مُحْكَمة حفظاً لسلامة الذمم و ضمانا للوفاء، فقال سبحانه:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ، كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚفَلْيَكْتُبْ، وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ  وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ، وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (28)البقرة.لكن الإسلام لا يُحَبِّذ الإقتراضَ، بل يشجع على الإنفاق على قدر الكسب لئلا يتعودَ المسلمُ الإنفاقَ بدون زمام، فيقعَ في الإسراف و التبذير     و يخرج من ساحة العقل الرزين إلى السَّفَه، ودعا سبحانه إلى الاقتصاد     و مقاومة شهوة الاقتناء و إغراء السلع، فقال عن عباد الرحمن مادحاً سلوكهم القويم:[وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا] (67) الفرقان، و قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولده عبد الله لما رآه توقف مرتين في السوق وغاب عنه بسبب اقتنائه بعض ما اشتهاه مرتين:(سبحان الله أكُلّـَمَا اشتهيتَ شيئاً اشتريته؟).

أيها المؤمنون: لقد تسرب إلينا داءٌ  خطير من الأمم الكافرة ألا وهو حبُّ كثرة التسوق و لو بدون حاجة، و حبُّ الاقتناء لما ليس بضروري ولو بالدَّيْن، فصرنا نرى كثيرا من الكبار و الشباب و النساء و الرجال يُغرقون أنفسهم في ديون كثيرة يلزمهم همّ سدادِها بالليل و النهار، فتراهم يأكلون بالدَّيْن و يلبسون بالدين ويتزينون بالدين ويؤثثون منازلهم بالدين والمجال عريض لاستعراض الأمثلة وكلكُم يعرفـُها، و يقتنون كل شيء سواء احتاجوه أو لم يحتاجوه بالدين، و لكن المشكلة الكبيرة أنهم يقعون في مُهلكات لا يعرفونها، أو لا يُقَدِّرون خطرَها في دينهم و دنياهم، فالمستدينُ يلزمُه هم السدادُ إذا لم يكن يضبط أموره، و يقع في نزاعاتٍ شتَّى تفسِدُ عليه صفو حياته وتمنعه الخشوعَ في عبادته،فتجد للشخص ـ ذكرًا أو أنثى ـ حساباتٍ طويلة مع ديونه للبقال أو غيره قد تدفعهُ إلى إنكارها أو التهربِ منها أو المماطلة في سدادها،لأنه استدان بما لا يقدر عليه، و تجد الشخص يستدين من عدة أبناك بحسابات مختلفة وقد يزور الوثائق فيقع في المحاسبة و الإفلاس، و تجد الشخص لا يترك صديقاً أو جاراً أو أي معرفة من معارفه إلا و استدان منه دون سداد حتى يشتهر بذلك و تسوء سمعته بين الناس و يصير يتهرب من لقاء كل معارفه، أو يلجأ إلى تغيير محل سكناه، و يعيش ضنكا من العيش وعذاباً في الضمير، و بلبلة في الفكر قد تتهدم بسببه أسرتُه، و يتشتتُ شملُهُ و العياذ بالله، و قد يدخل في حسابات غير مدروسة جيدا فيظن أنه سيتاجر بالدَّيْن ويربح، و بعد ذلك يسدد الدين، فتاتيه الرياحُ بما لم يتوقعه فتبور تجارتُه أو تكسد سلعتُه، و يحيط به الدائنون فتسودُّ دنياه في عينيه و يتمنى لو لم تلده أمه، من أجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ يوميا بالله من الدَّين و المَغْرَم، فعن عروة،عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يتعوذ من المغرم والمأثم قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم، قال: إنه من غَرِمَ حَدَّث فكذب ووعد فأخلف)وعن أنس بن مالك:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا قال: اللهم إنيَ أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال.)  ولخطورة عاقبة من عليه الدَّيْن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحذراً من التساهل في حقوق الناس:[من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عِرْض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يُؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم، فإن كان له عملٌ صالح أخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخِذ من سيئاتِ صاحبِه فحُمِل عليه]. وبيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن الدَّيْن لا يُغفر مهما بلغ صلاح المؤمن. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فذكر لهم أن الجهادَ في سبيل الله والإيمان بالله أفضلُ الأعمال، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله أرأيت إن قـُتِلتُ في سبيل الله أتُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ مُحتسبٌ مُقبلٌ غير مُدْبِر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي. فقال رسول الله: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّيْن فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك] وفي مسند أحمد:[ومن مات وعليه ديْن فليس بالدينار والدرهم لكن بالحسنات والسيئات]. فاتقوا الله عباد الله و لا تستهينوا بأمر الدَّيْن فلا تركبُوه إلا لضرورة قصوى مع اتخاذ التدابير الاحتياطية فهو مشروع لكن بشروطه.نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم و كلام سيد الأولين والآخرين .

سبحان ربك رب العزة  عما يصفون ،و سلام على المرسلين  و الحمد لله رب العالمين

الخطبة الثانية

* الحمد لله على نواله و إفضاله ، والصلاة  والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، و على آله ، وعلى جميع من تعلق بأذياله ، و نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله و بعد ،عباد الله، قد يفهم الناسُ الأمورَ خطئاً، فيظنون أن الدّيْن حرامٌ أو أن إقراض المحتاج وتنفيس كربته ممنوعٌ، فهناك تحسين و تقبيح في موضوع الدَّيْن لا يفقهه كثير من الناس، فمن التقبيح ما سمعتم من قبل في الخطبة الأولى، ومن التحسين ما صح أنه (كانت عائشة رضي الله عنها، تستدين من غير حاجة، فقيل لها في ذلك، فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من كان عليه ديْنٌ وفي نيتِهِ قضاؤه فإن الله معه حتى يقضيَه، فأنا أحب أن يكون الله معي)، فهذه معية خاصة وهذا فهمٌ خاص بعائشة و من كان على درجتها من التقوى و الورع، و ليس لكل الناس، كذلك ما جاء في الأثر من التشجيع على الإقراض الحسن:[مكتوبٌ على باب الجنة، القرضُ بثمان عشرة، والصدقة بعشرة أمثالها، قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟قال صلى الله عليه وسلم:(إن الصدقة ربما وقعت في يد غني عنها، وصاحب القرض لا يستدين إلا من حاجة وضرورة).ونختم بوصية لأصحاب الضوائق المالية:عليكم بكثرة الدعاء خصوصا الأدعية النبوية مثل: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك) و(سبحان الله عدد ما أعطى وعدد ما وهب، وعدد ما يجود به، وعدد ما يخرج من الأرض،وعدد ما ينزل من السماء، اللهم وَسِّعْ رزقي، واقضِ دَيْني، وقوِّي ظهري).(اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى،ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذٌ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء،وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدَّيْن واغننا من الفقر.) و ملازمة سورة الواقعة يوميا فإنها سورة الغِنى وسدادِ الدين فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:علِّمُوا نساءَكم سورةَ { الواقعة }، فإنها سورةُ الغِنَى”. وكذلك سورة ” يس” تستعملون عباد الله هذا من الأسباب و توكلوا على الله حسن التوكل هذا و استعينوا عباد الله على الاستجابة لأوامر الله  و المبادرة إلى طاعته بالإكثار من الصلاة و التسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، و الهادي إلى صراطك المستقيم، و على آله حق قدره و مقداره العظيم،  و ارض اللهم عن أصحاب رسولك، و خلفاء نبيك، القائمين معه و بعده على الوجه الذي أمر به  و ارتضاه و استنه خصوصا الخلفاء الأربعة، و العشرة المبشرين بالجنة  والأنصار منهم  و المهاجرين، و عن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، و عن أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، اللهم انفعنا يا مولانا بمحبتهم،  و انظمنا يا مولانا في سلك ودادهم  و لا تخالف بنا عن نهجهم القويم وسنتهم.(ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)

 الخطبة من إنشاء: ” ذ. سعيد منقار بنيس أستاذ العلوم الشرعية مدرسة العلوم

التابعة لمؤسسة مسجد الحسن الثاني  الخطيب بمسجد ” الرضوان ” لافيليت /عين البرجة/ الدار البيضاء البريدالالكتروني mankarbennissaid@gmail.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى