عروض وأبحات
قدمت بمناسبة تدشين الزاوية التجانية الكبرى لسيدي محمد الكبير التجاني
بحي بريمة
27 ماي 2006 / 29 ربيع الثاني 1427
الشيخ سيدي أحمد التجاني صرح العلم الشامخ
مقدمة :
إن الشيخ التجاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به آمين، ليعد مفخرة فريدة من مفاخر الإسلام، وليعتبر علما من أعلام الفكر السامق، الذي لا يضاهى في الماضي ولا في الحاضر ولا فيما يستقبل.
لكن الظروف التاريخية التي صاحبت ظهوره، والإطار والمناخ الفكري الذي عاش فيه هذا الشيخ الجليل، والمؤامرات والدسائس التي حيكت في زمنه حولـه، والشخصيات العلمية التي كانت تجدً لدرس كل آثاره، كل ذلك تظافر من أجل إخفاء وطمس إنتاجه العلمي والفكري الغزير.
إن شخصيـة سيدي أحمد القوية الإشعاع المؤيدة بالعناية الإلهية، وصل بها إلى القلوب الصافية فحملت أسراره ومعارفه وانطبعت فيوضا ته فيهم، فأنتجت فحول الطريقة وأقطابها، وبقيت علومه تفيض عنه إليهم بفضل مشاركته رضي الله تعالى عنه في كل العلوم والمعارف.
1- الشيخ سيدي أحمد التجاني العالم الجليل المشارك في كل العلوم:
أ- سيدي أحمد الماهر في شتى العلوم:
أتقن سيدي أحمد التجاني حفظ القرآن ومهر فيه وهو ابن سبع سنين كما أتقن حفظ الروايات السبع، وأتقن علوما كثيرة قبل سن الواحدة والعشرين، فحفظ متن البخاري، ومتن مسلم، ومختصر خليل، ومتن الرسالة أبي زيد القيرواني، والدردير، والدسوقي، والمدونة، وموطأ الإمام مالك، إضافة إلى متون أخرى عديدة يصعب إحصاؤها، قال صاحب كتاب اليواقيت العرفانية “…ولازال رضي الله تعالى عنه يطلب العلم، إلى أن رزقه الله تعالى فيه من الملكة القسط الأكبر والنصيب الأوفر، حسب ما أقر له به علماء قطره، ووقع منهم عليه الاتفاق…” 1– وأشار لبعض محفوظاته العارف بالله الشيخ أبو بكر عتيق الكنوي النجيري طيب الله تراه في قصيدته “إتحاف الأذكياء“2.
كما قدم لكثير من العلماء والملوك وغيرهم عددا لا يحصى من الرسائل والوصايا و من مؤلفاته:
- شرح النصف الأول من مختصر الشيخ خليل. وهو موجود بخزانة عين ماضي.
- شرح متن الهمزية للإمام البوصيري.
- تفسير نحو خمسين أية من كتاب الله المكنون.
- شرح العديد من الأحاديث القدسية والنبوية.
- شرح جوهرة الكمال.
- شرح الصلاة الغيبية.
- شرح ياقوتة الحقائق.3
وهناك العديد من الرسائل التي ما تزال قيد النسيان والطمس تقبع في الخزانات الخصوصية، وخزانة باريس ومنها التي نفض عنها الغبار الأستاذ إدريس العراقي ونشرها في مجلة دعوة الحق الصادرة بتاريخ 1965. 4 وهذا الإنتاج الفكري الغزير هو الذي أذاع صيته رضي الله عنه في الأوساط العلمية.
ب- سيدي أحمد الذائع الصيت في الأوساط العلمية :
إن سيدي أحمد رضي الله عنه طبقت شهرته الآفاق، و التوافد على مجالسه الأئمة الأعلام، نسوق في عجالة واختصار ما قيل في هذا الطود العظيم والصرح الشامخ في كل الأوساط العلمية التجانية، وغير التجانية، بل وحتى غير المسلمة. يقول العلامة سيدي محمد أكنسوس:”...يقول- أي أحد شيوخه- في أكثر من مناسبة إذا عنت عويصة من أقوال المفسرين والمحدثين:قال الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد التجاني، ويبالغ في تعظيم ذكره، فقيل له : ولي كبير الشأن، متجر في العلوم، ولا يسأل عن شئ من العلوم إلا أجاب بصريح الحق و الصواب، بلا روية و لا مراجعة كتاب… فكان أكنسوس يتعجب من ذلك … “.5 وقال في حقه أحمد الناصري السلاوي، في معرض حديثه عن المولى سليمان:”… ولما اجتمع به ( أي بالشيخ التجاني) ورآى سمته، ومشاركته في العلوم أقبل عليه وأعتقده..”6
أما جاك بيرك المؤرخ الفرنسي الذي عاش في المغرب طويلا وحقق عدة دراسات قيمة، قال في حق الشيخ التجاني : ” الشيخ التجاني الشاعر الصوفي الصادق، و العقلاني المستنير، الذي رفض طريقة الفلكلور مثلما كانت عليه الدرقاوية … وابتعد عن رقابة التفسير التقليدي الجامد معتمدا في ذلك على تكوينه العلمي المتين. وعوض التفسير الفقهي المنحط بالنسبة لعصره، لجأ إلى تفسير ذي تصور تأملي، وهو شيء لا يمكن أن يقوم به إلا الراسخون في العلم … ” ونكتفي بهذه الإشارات لإبراز المكانة العلمية للشيخ سيدي أحمد. ولائحة المثنين على الشيخ سيدي احمد طويلة جدا، تبرز رسوخه في العلم وعلو كعبة في التخريجات العلمية الفريدة.
2- الشيخ سيدي أحمد التجاني ذي التخريجات العلمية الفريدة :
أ- تأصيل فهمه للكتاب والسنة :
نسوق في هذا الصدد بعض النماذج للدلالة على هذا التأصيل الذي انفرد به سيدي أحمد التجاني. تفسير لقوله تعالى “ومن أعرض عن ذكري، فإن له معيشة ضنكا” (طه الآية 124) قال رضي الله عنه : ” هي في الآخرة، قلت له سياق الآية يدل على أنها في الدنيا. قال : ” المعاينة تدل على أنها في الآخرة، لأننا نشاهد كثيرا من الكفرة في سعة الدنيا، ولو كان الضنك في الدنيا لم يكونوا كذلك، فدلت سعة الدنيا التي نشاهدها بأيديهم على أن معيشة الضنك في الآخرة، عمن أعرض عن ذكر الله، ويدل عليها قوله تعالى : “ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون” ( سورة غافر الآية 75) ولو كان الضنك مآلهم ما فرحوا، وكذلك من الدليل عليها قولـه سبحانه وتعالى فيهم ” إنهم كانوا قبل ذلك مترفين” ‘( الواقعة الآية 45) والمترف هو الناعم البدن، والنعيم في البدن مستحيل مع ضنك المعيشة، لما يصحبه من الحزن، فلا يتأتى نعيم بدنه…”8. يتضح من هذا أن الشيء رضي الله عنه راسخ العلم فلا تجده يأخذ بأقوال المفسرين، بل يوضح الآيات بالآيات الأخرى.
- المسائل الفقهية : قال سيدنا إنها ليست على إطلاقها في الكتب، بل إن بعضها بطل ورغم بطلانه إعتمده الفقهاء من ذلك مسألة التيمم حيث اتخذ لها الفقهاء قاعدة باطلة ” قولهم المحافظة على الأوقات أولى من المحافظة على الطهارة“.
يعني أن الحاضر الصحيح عندهم إذا خاف خروج الوقت يتيمم ويصلي للقاعدة المذكورة. قال سيدنا رضي اله عنه هذه القاعدة لا تصح لمخالفتها النص، بل يتوضأ ولو رج الوقت ويصلي لأنه إذا تيمم وصلا فصلاته باطلة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتىتغتسلوا” ( النساء الآية4) وقوله تعالى : ” يا أيها الذين أمنوا إذا قمتموا إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم” (المائدة : 5 ) وفي الحديث الصحيح ” لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى توضأ، ولم يبح الصلاة بالتيمم إلا لمريض أو من عدم الماء، أما الحاضر الصحيح، إذا خاف خروج الوقت لعذر كالنوم أو نسيان، فإنه لا تباح له الصلاة بالتيمم على هذه الحالة وصلى فصلاته باطلة”9 . هذان نموذجان عرضناهما للدلالة على علو كعب سيدنا رضي الله عنه في سائر العلوم.
ب – علو الكعب العلمي للشيخ سيدي أحمد التجاني بين منافسيه :
إن الشيخ سيدي أحمد التجاني ليعتبر بحق فريد عصره، بل والعصور الموالية لعصره، فإذا لم ينصفه أهله وذووه ممن عاصروه فقد أنصفه الحق و التاريخ على يد من ليسوا بمسلمين ” وللبرهنة أكثر على رجحان كفة سيدي أحمد التجاني وتفوقه على علماء وقته تفتحا وعقلانية وتأثيرا في مخاطبيه، يذكر جاك بيرك أن هذا الشيخ لم يكن يكتفي بالرهبانية الصرفة ولا بالإيمان الاصطلاحي، ففي أمر له إلى فقهاء سلا أوصى بنوع من الأخلاق يتحدد في عدم الرضى “10. أي عدم الرضى على ما آل إليه أمر علماء الوقت.” لم يكن هذا الشيخ راضيا بطبيعة الحال على مستوى علماء الوقت، بدليل أنه تساءل عما إذا كان بإمكانهم قيادة الناس إلى الهداية”11 وهم على ماهم عليه من اجترار لما أنتجته القرون السالفة، فلهذا فالطيب بنكيران في مجلس سلطاني يعقب عليه الشيخ التجاني بعد انتهاء من اجترار ما قال المفسرون في سورة الناس، فبعدما قال الطيب بنكيران للشيخ : “أتعترض علينا وقائل فلان وفلان من المفسرين وأغلظ في القول” فأجابه سيدي أحمد التجاني ” ليس الكلام معك أنت ولاتكن كمن يحمل الأثقال، ما حملوك تحمله، وإنما الكلام مع هؤلاء المفسرين.” واستمر يوضح وجه الصواب بالأدلة النقلية و العقلية إلى أن ظهر الحق لكل مرتاب 12. فأصبح الطيب بنكيران ” عند حضور الشيخ بعد ذلك لا يتفوه بكلمة، إن خلا له الجو فيلمز الشيخ “13 لأن هذا الشيخ رضي الله عنه علا كعبه في العلوم كلها لإتباعه منهج التجديد، قال في الإفادة الأحمدية : ” ما أحوج الناس في هذا الزمان إلى عالم أو علماء ينقحون لهم كتب الفقه من الحشو الذي فيها”14 فهذا الفقيه مولاي الزكي المدغري جاء الشيخ بكراريس عديدة ( أي كتب) من شرح مختصر الشيخ خليل وغيره ليطلع سيدنا الشيخ على أن مشهور مذهب الإمام مالك كراهة البسملة عند قراءة الفاتحة، “فكان جواب سيدي أحمد التجاني: إن شراح المختصر وغيره، بسطوا الكلام في هذه النازلة، فقال فلان وفلان كذا، وقال فلان كذا حتى ذكر له جميع ما معه من الكراريس باللفظ” ثم قال له : “يا مولاي الزكي أنا أخالف فيها مذهب مالك على رغم أنفك”15 للنص المؤكد باليمين. فتعجب مولاي الزكي أولا لقوة حفظه رضي الله عنه، ولتأصيله للنوازل ثانيا، ولوثوقه من قدرته العلمية الفذة ثالثا.
خاتمة:
أن العلوم التي شارك بها سيدي أحمد في عصره، وانطبعت بمحض الكرم الإلهي في قلوب محبيه من حملة أسرار هذه الطريقة الربانية هذه الطريقة الربانية الأحمدية المحمدية، لجدير بالذكر بنا أن نوليها غاية اهتمامنا وننقب عنها لنخرجها في حلة قشيبة تلائم لباس العصر، وتجدد لقاءنا بشيخنا وإيماننا وثقتنا في هذا السند العظيم لأنه كلما أبرزنا المكانة العلمية لسندنا زاحمنا بمناكب النصر الأعداء والمتطفلين، وأحققنا الحق و أزهقنا الباطل، فإلى متى نبقى مشتتين متشرذمين وحبلنا متين وشيخنا قطب جامع وبرزخ مانع وغوث نافع.
تأليف وتنسيق: تلامذة سيدي محمد الكبير التجاني