مصطلحات صوفية

تحقيق في الكرامة مقتبس بنباهة من كلام صاحب البغية

تحقيق في الكرامة
مقتبس بنباهة من كلام صاحب البغية

 

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: “الذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالْمَحَدِّثِينَ، خِلاَفاً للْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَلَّدَهُمْ فِي بُهْتَانِهِمُ وَضَلاَلِهِمْ، أَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى يَدِ الأَوْلِيَاءِ، وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَلِ، جَائِزٌ عَقْلاً وَنَقْلاً، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْكَرَامَةُ جَائِزَةَ الْوُقُوعِ لَمْ تَقَعْ.
“وَقَدْ ثَبَتَ وَقُوعُهُا بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالآثَارِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ وَالتِّعْدَادِ، وَآحَادِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَوَاتَرْ فَالْمَجْمُوعُ يُفْيدُ الْقَطْعَ بِلاَ إِشْكَالٍ. كَيْفَ وَوُقُوعُ التُّوَاتُرُ قَرْناً فَقَرْناً، وَجِيلاً فَجِيلاً، وَكُتُبُ الْعُلَمَاءِ شَرْقاً وَغَرْباً، وَعُجْماً وَعُرْباً، نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، وَلاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلاَّ غَبِيٌّ مُعَانِدٌ” اهـ.
وَقَوْلُ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ حَجَرٍ: “وَقَدْ ثَبَتَ وُقُوعُهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ” يُشِيرُ بِهِ إِلَى نَحْوِ مَا فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ:
• مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَلَبْثِهِمْ فِيهِ “ثَلاَثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً” كَمَا ذَكَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رُقُوداً لَمْ تَبْلَ ثِيَّابُهُمْ، وَلَمْ تَتَغَيِّرْ أَجْسَادُهُمْ، يَقْلِبُهُمُ الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ بِتَمَامِهَا؛
• وَإِلَى مِثْلِ قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مَوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وَمَا قَصَّ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ؛
• وَإِلَى نَحْوِ مَا قَصَّهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَأْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: “كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّآءُ الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً” ، يَعْنِي: مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالرُّطَبِ فِي غَيْرِ إِبَّانٍ حَسَبَمَا ذَكَرُوهُ فِي الآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛
• وَِإِلَى نَحْوِ مَا أَمَرَهَا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ هَزِّ الْجِذْعِ فِي قَوْلِهِ: “وَهَزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ” الآيَةُ، قَالُوا: كَانَ جِذْعاً يَابِساً تَتَحَكَّكُ بِهِ الْمَوَاشِي، فَلَمَّا هَزَّتْهُ اسْتَحَالَ غُصْناً يَانِعاً وَأَثْمَرَ لِحِينِهِ؛
• وَإِلَى نَحْوِ مَا قَصَّهُ الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَأْنِ آصَفَ بْنِِِ بَرْخِيَا مَعَ سَلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمِ فِي إِحْضَارِهِ عَرْشَ بَلْقِيسٍ قَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ.
• وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: “يَآ أَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً” الآيَةُ. وَالْفَرُقْانُ: ذَكَرُوا أَنَّهُ نُورٌ يَضَعُهُ اللهُ فِي صُدُور الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، وَلاَ يَزَالُ يَتَزَايِدُ بِتَزَايُدِ التَّقْوَى حَتَى يَبْلُغَ إِلَى حَدِّ الْكَشْفِ وَالاِطِّلاَعِ عَلَى أَسْرَارِ الْغُيُوبِ.
• وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: “لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ” مِنْ أَنَّ الْبُشْرَى هِيَ الْكَرَامَاتُ وَالْفُتُوحُ التِّي يُكْرِمُ بِهَا الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ الإِخْلاَصِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ:
– فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ جُرَيْجٍ وَكلاَمُ الطِّفْلِ بِبَرَاءَتِهِ فِي مَهْدِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. – وَفِيهِمَا أَيْضاً حَدِيثُ الثَّلاَثَةِ الذِينَ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ بِصَخْرَةٍ فَتَوَسَّلَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَرْجَى مَا عَمِلَ فَفَرَجُ اللهِ عَنْهُمْ.
– وَمِنْ ذَلِكَ حَديثُ: “كَانَ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ مِنْهُمْ فَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ”.
– وُمِنْ ذَلِكَ أَيْضاً قَضِيِّةُ سَارِيَّةَ إِذْ قَالَ لَهُ سَيُّدُنَا عَمَرُ بِنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ: “يَا سَارِيَّةَ الْجَبَلَ، مَنْ تَرْكَ الْحَزْمَ ذُلَّ”، وَسَمِعَ سَارِيَّةُ ذَلِكَ وَهُوَ بِنَهَاوَنْدَ؛
– وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِمَا فِي بَطْنِ زَوْجِهِ، وَقَوْلُهُ: “أُرَاهَا جَارِيَّةً” فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ.
– وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءُ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ عُثْمَانَ ?.
– وَكَذِلِكَ مَا رُوِىَّ عَنْ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ ? أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ ? فِي الْيَوْمِ الذِّي قُتِلَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: “أَتَرَى هَذِهِ الطَّاقَةُ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَاءَى لِي مِنْهَا فَقَالَ: “أَحَصَرُوكَ يَا عَثْمَانُ؟” قُلْتُ: “نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي”، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “إنْ شِئْتَ نُصِرْتَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا”. فَقُلْتَ: “بَلْ أُفْطِرُ عِنْدَكُمْ”. فَقُتِلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ذِلِكَ الْيَوْمِ”. اهـ؛
– وَمِنْ ذَلِكَ الْفَتْحُ لِمْوَلاَنَا عَلَيٍّ رضي الله عنه فِي الْعُلُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْجَمْهُورَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رضي الله عنهم عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَةِ، خِلاَفاً للْمُعْتَزِلَةِ لِمَا رَأَيْتَهُ، فَيَتَأَكَّدُ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِهَا فِي نَحْوِ هَذَا الْمَقَامِ حَتَّى لاَ تَبْقَى للنَّاظِرِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَخْدِشُ فِي وَجْهِ اعْتِقَادِهِ. فَالتَّنْفِيرُ عَنْ ذِكْرِهَا مُطْلقاً قُصُورٌ مِمَّنْ يَرَاهُ بِلاَ شَكَّ. نَعَمِْ، جَعْلُهَا غَايَةَ الأَمْرِ بِحَيْثُ لاَ يُتَوَجَّهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالاِعْتِقَادِ الْجَمِيلِ إِلاَّ لِمَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأَنَّهُ مِنْ وَصْفِ الْجَهَِلَةِ الأَغْمَارِ مِنَ النَّاسِ. وَذَلِكَ لأَنَّ الْعَارِفَ لاَ يَطْلُبُهَا أَدَباً مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ عِنْدَ الأَكَابِرِ مِنْ رُعُونَاتِ النُّفُوسِ إِلاَّ لِنُصْرَةِ الدِّينِ، أَوْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ لاَ غَيْرُ، وَلأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَارِفِينَ سِتْرُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ.
وَقَدْ تَرَكَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعَارِفِينَ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا:
• ِإمَّا لأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْخَوَاصِّ عِنْدَهُ لأَمْرٍ تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ وَمَشِيئَتُهُ.
• وَإِمَّا لِتَرْكِهِ ذَلِكَ للهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُ كَمَا وَقَعَ للشَّيْخِ أَبِي السُّعُودِ بْنِ الشِّبْلِ الْمُلَقَّبِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَعَاقِلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلاَنِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. فَقَدْ أُعْطِيَ التَّصْرِيفُ مُنْذُ كَذَا كَذَا سَنَةٍ فَتَرَكَهُ وَقَالَ: “تَرَكْنَا الْحَقَّ يَتَصَرَّفُ لَنَا”. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ “فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً” . فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: “مَا ثَمَّ” فَقَالَ لَهُ: “الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَانْتِظَارُ الْمَوْتِ، مِثْلُ سَاعِي الطَّيْرِ: فَمٌ مَشْغُولٌ، وَقَدَمٌ يَسْعَى” اهـ.
وَالْحَقُّ وَالصَّوَابُ هُوَ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
– فَيُعَظَّمُ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ لأَنَّهَا تَدَلُّ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ. وَلاَ يُسْتَدَلُّ بِمِثْلِ مَا اتَّفَقَ للشَّيْخِ أَبِي السُّعُودِ مِنَ التَّخَلِّي عَنْهَا عَلَى نَقْصِ دَرَجَةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ، لأَنَّ الْعَارِفِينَ فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ مَا يُتَجَلَّى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَضَرَاتِ الْعِرْفَانِ.
– وَلاَ تُجْعَلُ غَايَةَ الأَمْرِ أَيْضاً بِحَيْثُ لاَ يُتَوَجَّهُ بِالتَّعْظِيمِ لِمَنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ. فَإِنَّ عَدَمَ اعْتَِبَارِهَا فِيمَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاعٌ أَوْ يَجُرُّ إِلَى الاِبْتِدَاعِ، وَجَعْلُهَا غَايَةَ الأَمْرِ جَهْلٌ وَغُرُورٌ بِلاَ نِزَاعٍ.
بغية المستفيد
نسخة مشيخة الطريقة التجانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى