رعاية الدولة العلوية

لماذا رعاية الدولة العلوية للطريقة التجانية / عبد العزيز بن عبد الله

“رباط البيعة للمملكة المغربية هو الذي حدا الشيخ التجاني للهجرة إلى فاس انتجاعا للجهاد دفاعا عن الصحراء الشرقية المغربية ومنها عين ماضي الأغواط”.

 

لماذا رعاية الدولة العلوية للطريقة التجانية

عبد العزيز بنعبد الله

إن الشيخ سيدي أحمد بن محمد التجاني” : الماضوي المراكشي عالم تحرير نهل من المعقول والمنقول في مسقط رأسه (عين ماضي) حيث ولم عام 1150 هـ مما أهله للفتوى والتدريس قبل أن يدرك سن الواحد والعشرين، وفي هذه السن المبكرة بدأ وهو يافع جولته العلمية في البلاد وطاف الآفاق، بحثا عن المشايخ من أهل التربية، وقد أبى إلا أن يستهل رحلته الاستكشافية الصوفية بالمغرب بلده الأصلي عام نيف وسبعين ومائة وألف، فوصل إلى فاس وأحوازها حيث سمع علم الحديث وارتحل إلى (جبل العلم) لأخذ القراءة والتجويد، فاتصل ببعض قادة الحركة الورحية أمثال مولاي الطيب بن محمد بن عبد الله الشريف الوزاني (المتوفي عام 1181 هـ). ومحمد بن الحسن الوانجلي من بني وانجل بجبل الزبيب المتوفى في حدود 1185 هـ )، وسيدي عبد الله بن العربي بن احمد بن محمد بن عبد الله معن (المتوفى عام  1188هـ)، واحمد الطواش نزيل تازة (المتوفى عام 1240 هـ).
وقد كان لهذه الجولة الأولى في ربوع المغرب أثر خاص في تكييف وجهته وطبع شخصيته، فاكتملت لديه ثقافة مزدوجة تعززت فيها الشريعة بالحقيقة والظاهر بالباطن، فعاد مملوء الوفاض إلى الصحراء ببلد الأبيض(1) فانقطع بها للعبادة خمس سنوات زار خلالها (عين ماضي) ثم استقر بمدينة (الجدار) وهي مدينة تلمسان، فأقرأ الحديث والتفسير قبل الشروع في رحلته إلى الديار الشرقية عام 1186 هـ.
“) يوجد أحمد تيجاني آخر ينسب لقبيلة مغربية توفي عام 869 هـ /  1464م (شجرة النور الزكية ص 378/ – نيل الابتهاج ص 67).
وهكذا هاجر الشيخ الشاب من قرية (عين ماضي) وهو في عنفوان الربع الأول من عمره، بعدما أزعجه صاحب وهران الباي محمد بن عثمان الذي تضايق من نفوذه في المنطقة، وكان المغرب هو البلد الذي اختاره لمقامه، لأنه مقر سلفه الذين كانوا قديما بمراكش(2) الحمراء، ولم ينتقل منهم إلى صحراء الجريد(3) إلا جده الرابع المختار بن أحمد بن محمد فتحا، الذي كان أول من وفد إلى (عين ماضي) وتوطن بها وبنى وتزوج من تجان، فكانوا أخوالا للشيخ ولهذا ينتسبون للتجانية وليس لهم نسب بعين ماضي، بل غلبت عليهم الكنية لأجل المصاهرة.
وقد اختار الجد الوقور الهجرة إلى (بلد الجريد) لأنها كانت آنذاك جزءا من المغرب، وجه إليها السلطان المولى عبد الله العلوي خلال السنة التي ولد فيها الشيخ أي عام 1150 هـ 1737 م حركة بإمرة القائد الجيلالي بن محمد الصفار لاستئصال عناصر الفتنة الذين بدأوا يثيرون القلاقل للمساس بسيادة المغرب في المنطقة. وقبيل وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله عام 1204 هـ / 1790 م ، هاجم الأتراك بقيادة (باي مسكرة) المقاطعات الشرقية من المملكة المغربية وهي المهابة وبنو هاشم والحرار، وقصور جنوب وهران والشلالة وأفلو وعين ماضي والأغواط، وقد لاحظ الضابط الفرنسي القبطان مارتان Martin صاحب كتاب (أربعة قرون من تاريخ المغرب والصحراء) (ص 101) ان هذه المناطق ظلت مندرجة في التراب المغربي طوال 150 سنة (راجع كتاب : Septentrionale Mercier : Histoire de l’frique وظل الشيخ التجاني يتردد قبل استقراره النهائي بفاس عام 1213 هـ بين (أبي سمغون) القريبة من (الشلالة) بالصحراء الشرقية وتلمسان وكانت خاضعة هي أيضا للمغرب الذي ارتكزت سياسته آنذاك على مدافعة كل مغير على تراب (المغرب الكبير)، ولو كان هذا المغير هو الترك، فقد احتل تلمسان محمد الشيخ المهدي (عام 957 هـ) وطرد الأتراك منها، واستنجد الزعيم “الجزائري” (عروج) بمحمد الوطاسي المعروف بالبرتغالي والد أحمد الوطاسي، فوجه إليه 20.000 مقاتل عن طريق مليلية وانطلق أحمد الوطاسي هذا بعدما استنجد به (أبو زيان أحمد الثالث ) ضد الإسبان عندما احتلوا تلمسان، وكان المدد المغربي مدافع ودروعا وقسيا ومعدات مختلفة(4) ، وقد هاجر علماؤها وكبار رجالاتها إلى فاس (عام 968 هـ) عقب الفتنة مع الأتراك، وفي (21 يبراير 1831) أكد السلطان مولاي عبد الرحمان بن هاشم حقوقه في تلمسان، وقد احتل الأمير عبد القادر المدينة باسمه وبصفته خليفة يدعو له على المنابر، وفي 16 غشت 1837 كتب (دولابورط) De Laporte  من الصويرة إلى الكونط مولي (Comte Molé) وزير الخارجية الفرنسية يخبره بان أمرا صدر من السلطان (يوم 8 غشت) باحتفال الشعب المغربي بدخول الأمير عبد القادر إلى تلمسان ودامت الأفراح ثلاثة أيام، وكان باعث هذا الفرح رجوع تلمسان إلى حظيرة “المغرب الأوسط” لأن المغرب لم يكن يحتضن تلمسان إلا حماية لها من سيطرة الأستانة أو الإسبان.
نعم ظل الشيخ يتأرجح بين هذا الثالوث فمكث في تلمسان ثماني سنوات منذ (عام 1188 هـ) قبل التعريج (عام 1196 هـ) على فاس والعودة إلى (أبي سمغون والشلالة) (عام 1199 هـ).
وقد حز في قلب الشيخ الجليل هذا الصراع المكشوف بين الأتراك والدولة العلوية الماجدة فكان يرى فيه مساسا بسيادة ووحدة المغرب، ولكن الحركة المناهضة للأتراك والمنبثقة من فاس، كانت تثلج صدر الشيخ الذي ازدادا تعلقا بالملوك العلويين، وخاصة منهم المولى سليمان الذي استرجع (فجيج) بالصحراء الشرقية (عام 1221 هـ / 1806م) كما استعاد كورارة وتوات (عام 1223 هـ/1808م) (5) وكان مولاي محمد بن الشريف أول سلطان علوي ملك توات حيث دخل (تيمنطيت)، (عام 1053 هـ/1945 م) ومن قواده القائد علي والقائد أحمد بن عبو (6).
وقد سبق للمولى سليمان أن استنفر عام (1211 هـ/1797م) جميع (رعاياه الأوفياء) كما سماهم آنذاك – في كورارت وتوات وتبديكلت ليكونوا يدا واحدة على الذين يعيثون في الأرض فسادا، وكان الصحراويون قد انضموا إلى السلطان عندما بويع بفاس (عام 1206 هـ/1972م).
وقبل الانتفاضة السليمانية الجريئة بخمس سنوات ورد عل المغرب جاسوس إسباني هو علي باي العباسي واسمه الحقيقي ديكوباديا  Diego Badia (عام 1218 هـ/1803 م) مبعوثا من ملك إسبانيا لتهيئ الجو بإحداث قلاقل واضطرابات بجنوب المغرب تفسح المجال لاحتلال الصحراء، وكانت فرنسا تمارس من جهتها ضغوطا على المولى سليمان، آخرها تهديدات نابليون وتآمرها مع دول أوروبية متوسطية ضد الأسطول المغربي حامي شواطئ (المغرب الكبير ) للقضاء عليه وفتح ثغرات للتسرب إلى هذه المنطقة الشاسعة.
وفي هذه الفترة كان قد مر على مقام الشيخ بفاس خمس سنوات، فكتب إلى المولى سليمان خطابا جاء فيه :” أمير المومنين خليفة رب العالمين سيدنا ومولانا سليمان بن مولانا محمد الشريف الأصيل الماجد الأثيل، اعلم أن الله قد ولاك أمر خلقه وائتمنك على بلاده وعباده فأنت أمين من أمناء الله في بلاده وعباده”.
وقد تلاحقت الأحداث في ظرف وجيز، حيث لم تمر سنتان فقط على استقرار الشيخ التيجاني نهائيا بفاس حتى أصبح المولى سليمان يتدرج في سياسته التحريرية في الصحراء الشرقية ضمن السيادة المغربية، فألغى (عام 1215 هـ/1800م)، وظيفة العامل ومنح الصحراء الحكم الذاتي، قاصدا بذلك تمكين أهل الصحراء من اختيار طرق أداء الجبايات وتوزيعها، وتعيين عمال وقواد صحراويين، وكان الخضوع لأداء الأعشار مظهرا أسياسيا من مظاهر السيادة هو العامل الأكبر في التمييز بين ما سماه الاستعمار ببلاد المخزن وبلاد السيبة.
والواقع أن التعاون بين الشيخ الجليل والسلطان الصالح كانت له أسيسة مزدوجة، في الوقت الذي ارتكز نفوذ الشيخ عبر الصحراء كان الأشراف العلويون يملأون المنطقة ويضربون أسمى المثل في حسن السلوك وجميل الرعاية وانبساط السلطة، نعم كان مريدو الشيخ في الجزائر يسهمون في محاربة الأتراك كما فعل (النعيمي بن زيدان) زعيم (اتيارت) فيما بين (التل والصحراء) حيث قام بأمر من الشيخ بصد هجمات محلية وهرانية تركية على المنقطة، وكان الشيخ يتدخل في الصحراء لرسم الحدود المتنازع فيها بين القبائل كما فعل بين الشلالة وأبي سمغون.
وقد تعززت الصحراء بفيض من هجرة الأشراف الذين أينعت ثمارهم جنوبا وشرقا منذ استقدم المولى حسن بن قاسم، جد الملك العلويين من (ينبع النخل) في صحراء الجزيرة العربية إلى صحراء المغرب، وكان للمرابطين في الصحراء سواء منهم الأشراف أو الصوفية تعلق قوي بعرش تعتليه سلالة النبوة من آل علي عليه السلام، فكانت الزوايا منتدى للعلويين حيثما كانت، ومن بينها زاوية سيدي البكري بتوات التي كانت مقرا للأمير الحسن بن محمد بن عبد الله منذ (عام 1210 هـ/1795م) إلى أن توفي بها (عام1213هـ/1798م). وقد وجه المولى سليمان (عام 1211هـ/1797م) إلى ابن عمه قاضي (تيمي) سيدي باهيا الأمر بإحصاء الأشراف العلويين بتوات فبلغ عددهم فيها وحدها 8808 نسمة، دون الأدارسة الذين أضيفوا عام 1213هـ/1799م) بأمر سلطاني جديد ولا بدع في ذلك، فقد كان للشريف يحيى بن عبد الله الكامل عقب ببلاد السودان عبر الصحراء منهم فرق في (برنو) و(هوصة) وبولان وفزان وتنبكتو(7).
وكثيرا ما كان المولى سليمان يتدخل بفعالية في شؤون القبائل الصحراوية التي كانت تنصاع لأوامره في خصوماتها الخاصة فمن ذلك أن قبائل الساحل (8) وصلت (عام 1193 هـ/1779م) إلى (تاسفاوت) حيث انتشرت في الواحات لنهب قصورها فتدخل المولى سليمان (عام 1211 هـ/1796م) ووجه فئة من أهل الساحل إلى توات للسهر على تنفيذ التعليمات المولوية بعد أن جاءوا إلى بلاطه تائبين.
وبعد وفاة الشيخ (عام 1230 هـ) والمولى سليمان (عام 1238هـ) واصل النجل الأكبر لشيخ سيدي محمد الكبير الصراع ضد (محمد باي التركي) حاكم الجزائر الذي حاول استنزاف (عين ماضي) فاتجه المجاهد سيدي محمد الكبير نحو (أبي سمغون) قاصدا مدينة (أم عسكر) في نضال واستماتة ضد المغير الأجنبي إلى أن استشهد مع ثلاثمائة من رفاقه.
ولما عاد سيدي محمد الحبيب النجل الثاني للشيخ من الحج عبر تونس، أوعز إليه (الباي) بأن يمر على الصحراء إلى (عين ماضي) محذرا إياه من حاكم الجزائر، وقد قبض حاكم وهران على أربعمائة من أهل (الأغواط) فذهب سيدي محمد إلى (أبي سمغون) بالصحراء المغربية، ثم عاد إلى عين ماضي حيث كافح للدفاع عن هذا المركز، منجليا عنه مرة أخرى إلى الصحراء عندما حاصر قرية (عين ماضي) الأمير عبد القادر الجزائري، وكان الأمير عبد القادر قد تنكر آنذاك لسلطان المولى عبد الرحمان، وصار يدعو لنفسه بعد أن كان يخطب على المنابر باسم السلطان، ولكن الأمير لم ينل منه قلامة ظفر، إذ أن الإبن البار للشيخ لم يضع السلاح موقنا بأن بيعة الصحراء ومنها (عين ماضي) لملك المغرب، كانت في عنقه فتابع نضاله إلى أن استشهد في طريقه إلى قائد الجيش الفرنسي (عام 1269هـ) محتفظا بمسقط رأسه بعيدا عن سيطرة المغير الجديد : فرنسا.
وهكذا ظلت سلالة الشيخ تكافح وتنافح في جهاد موصول للذب عن كل من الأغواط وعين ماضي كامتداد صحراوي للمملكة المغربية وكان يحمي المد الإسلامي في ربوع إفريقية الجنوبية الأمير التجاني عمر بن سعيد الفوتي الطوري إلى عام 1261 هـ حيث استشهد هو الآخر في جهاده ضد الفيالق الفرنسية (10).
ولم يكن هذا الجانب السياسي الديني أو قل شعور الشيخ وسلالته بواجب المواطنة – كما نقول اليوم (droit civique) هو العامل الوحيد في رص وحدة الفكر والوجهة بين الشيخ سيد أحمد التجاني  وبين الملوك العلويين، بل كان قلب الشيخ عالقا – أشد ما يكون العلوق – بعاصمة وطنه فاس مهد المولى إدريس الأزهر الذي رحل الشيخ (عام 1191هـ) خصيصا لزيارته.
وقد كان لجامع القرويين إشعاع خاص في إفريقيا كافة، أحال العاصمة الإدريسية إلى عاصم للقارة جمعاء، مما حذا مؤرخين غربيين (11) إلى تسميتها ب(أثينة إفريقيا) ومدينة (العلم والعرفان) وكان من نتائج هذا الإشعاع إقبال إفريقيا والشرق الأدنى على فاس حيث انحدرت المآت من طلاب المعرفة كما انطلق أبناء فاس في جولات علمية عبر السودان وتونس ومصر والشام خاصة ما بين (1143 هـ و1145 هـ)(12).
وقد هاجرت من الصحراء الشرقية إلى فاس أفواح شتى عبر العصور وخاصة من العهد العلوي مثل شرفاء (غريس ) القاطنين بأم عسكر عندما اشتدت وطأة الباي الجزائري عليهم، ومن بينهم علماء جهابذة كمحمد بن عاشور السمغوني وعبد القادر بن عبد الله المشرفي كما انتقل من تيمنطيت جنوبي شرق (تيمي) بتوات الشرفاء المناليون المعروفون بالزباديين(13) ومنهم العالم الجليل محمد الزبادي المنالي.
وقد لاحظ مولييراس (المغرب المجهول ج2 ص437) أن أولاد سيدي الشيخ لجأوا إلى جنوب المغرب وبلاد السايس بين مكناس وفاس، حيث يوجد أهل الأغواط كذلك بن سبو وورغة. (الوثائق المغربية – م11 ص 5 عام 1907).
كما هاجر إلى فاس من الصحراء المغربية وما ورائها فلول متتالية خاصة خلال القرن الثاني عشر والنصف الأول من الثالث عشر نذكر منها فرقة (الأولفا) Alofas التي تشبعت في ظلال (جامع القرويين) بالروح الإسلامية وتعاليم القرآن، فنشرت الإسلام في إفريقيا الغربية.(14)
وقد أصحبت فاس بعد مقام الشيخ التجاني بها، ومنذ زهاء القرويين مهبط رواد جدد للعرفان والسلوك الروحي من مجموع أنحاء المغرب الكبير وصحراءه، نذكر منهم على سبيل المثال :
1 – شيخ الإسلام بتونس إبراهيم الرياحي المتوفى عام 1266 هـ الذي ورد على فاس عام 1218 هـ بأمر من أمير تونس حمودة باشا، الذي مدح الشيخ بقصيدة مطلعها :
صاح اركب العزم لا تخلد إلى الياس
واصحب أخا الحزم ذا جد إلى فاس
كما مدح المولى سلمنا ونجله الأمير مولاي إبراهيم بقصيدة مطلعها :
هذا المنى فانعم بطيب وصال
لطالما أضناك طول مطال
بشرتني بسلالة الخلفاء من
أمداحهم تتلى بكل مقال
من حبهم فرض الكتاب أما ترى
أن المودة حين يتلو التالي
ولو أنني حاولت مدح سواهم
عقد القريحة عنه أي عقال
2 – محمد بم محمد المشري علامة تكرت (عمل قسطنطينة) الذي لقيه الشيخ عام 1188هـ وعاد معه إلى فاس وقد توفي بالصحراء الشرقية عام 1224هـ حيث نشر الطريقة التجانية إلى حدود النيجر(15).
3 – عثمان الفلاني الاكناوي الذي قدمه الشيخ لتلقين طرقته حين اجتماعه به في رحلته عام 187 هـ إلى الحجاز فكان أول من أدخل الطريقة للسودان (16) وقد توفي بقرية (كيهيو).
4 – بوزيان بن محمد داوية من حفدة العارف سيدي الشيخ بالصحراء الشرقية الذين أخذوا الطريقة التيجانية عن صاحبها وأسهموا في نشرها بتوات وقد تتلمذ هو ووالده عن الشيخ بفاس (17)
5 – محمد بن عبد الله التلمساني الذي مدح الشيخ بقصيدة مطلعها :
يا أهل نجد وما نجد وساكنها
أشهى إلى القلب من أوطان تجيني
تضوعت نفحات السمك منه على
فاس وعم شذاها منتهى الصين
وحنت الشام والمصر العتيق لمن
خصت ركائبه قطرا بمسغون
حنت تلمسان حزنا حين فارقها
وقلدوا حكمها شيخ المجانين
وقد حظيت فاس بمدائح لم يعرف مثيلها قبل القرن الثاني عشر كما كيفا وهي تعد بمآت القصائد جمع بعضها العلامة أحمد سكيرج الفاسي ومنها قصيدة شاعر عاصر الشيخ هو عبد القادر بن محمد السلاوي قال في مطلعها :
إذا ما جئت فاسا عن قريب
فدونك باب أحمد التجاني
عليم عامل ثبت ونور
زهى زاهد قطب الزمان
شريف عراف بالله حقا
طريقته مرصفة المباني (18)
والواقع أن حاضرة فاس كانت آنذاك في مستوى كل من الرجلين الشيخ سيدي أحمد التجاني وإمام السلفية أبو الربيع السلطان المولى سليمان الذي كان قد أثارها شعواء على المواسم والطرق غير السنية في رسالة مطبوعة فلم يسعه إلا التنازل والإجلال لهذا الإمام السني الفاضل وأنزله على الرحب والسعة في (دار المرايا) بفاس وعبر عن رغبته في الإسهام في نفقات بناء زاوية فاس، وصار يتردد على الشيخ للاقتباس من علمه والغرف من معين هديه، في الوقت الذي اعتقل أحد كبار شيوخ الطرق بفاس، وقد واكب السلطان ثلة ممن كانوا يحضروه مجلسه السامي من شيوخ الجماعة فاس، منهم الشيخ عبد الرحمان الشنجيطي الذي كان مجلسه بفاس العليا يستقطب علماء وقته والذي أقسم أما تلامذته بمسجد الرصيف (أنه لا يعلم على وجع الأرض أعلم من هذا الشيخ).
ومنهم أيضا علماء ينتمون إلى كبريات الأسر الفاسية كالعلامة علال بن عبد الله بن المجذوب الفاسي الفهري، جد الزعيم علال الفاسي وسميه، والعلامة عبد الواحد الفاسي ومعظم آل البيت ممن كان لأجدادهم ضلع كبير في تركيز الحركة الصوفية بالمغرب أمثال العلامة والأستاذ المقرئ محمد الحفيان العمري الشرقي والإمام الهمام سيدي عبد للسلام بن الشيخ الكبير المعطي بن صالح الشرقي مؤلف (ذخيرة المحتاج) والعلامة محمد بن أحمد السنوسي والسيد عمر بن محمد بن إدريس ابن عبد العزيز الدباغ، والعالم المرشد مولاي عبد الملك الضرير العلوي وإمام جيله محمد الطالب العلوي والشيخ عبد الله بن إبراهيم العلوي الصحراوي الذي تدبج بفاس مع الشيخ بناني محشي الزرقاني وكان من خاصة السلطان المولى محمد بن عبد الله (والتدبج معناه أن يأخذ أحد الرجلين عن الآخر) والعلامة عبد العظيم العلمي والعلامة سيدي العربي العراقي والشيخ محمد جنون أول من أقرأ (المطول) بفاس وسيدي محمد بن جعفر الكتاني أو ل من أقرأ مسند الإمام أحمد بن حنبل بالقرويين والشيخ حمدون بن الحاج الذي مدح الشيخ بقصيدة ذكرها ولده في كتابه (19) (سلوة الأنفاس لسيدي محمد بن جعفر الكتاني ج1 ص 183).
وهناك الآلاف من أضراب هؤلاء وجلهم من بيوتات الشرف والسؤدد في حواضر القارة الإفريقية وصحرائها، حيث لم تكن تخل دار من مريدين تيجانيين برهنوا باستقامتهم وطول باعهم علما وفضلا على أنهم كانوا جديرين بالانتماء إلى هذا الجناب الذي تبلورت في مسيرته معالم السنة ومجالي الشريعة.
وحقيقة الأمر أن سنية هذه الطرق الذي التف حولها كبار السلفيين كانت الجامع الأكبر بين الرجلين لأن المولى سليمان قد ورث عن والده السلطان سيدي محمد بن عبد الله العالم المحدث السلفي وجهته السنية المثلى مما حققه – قدس الله روحه – من مساندة أئمة الحديث ورجال الصحاح.
وقد لاحظ أبو المواهب سيدي العربي بن السائح “أن من الكرامات العظام والمناقب الجسام، التي يفتخر بها المعتقد وينزجر المنتقد شدة اتباعه (أي الشيخ) رضي الله عنه للشرع الطاهر والتقيد بأوامره ونواهيه في الباطن والظاهر”، كما أفرد صاحب (جواهر المعاني) فصلا طويلا للتحديث عن سيرة الشيخ السنية وحفظه للآداب القرآنية وقد كان علماء عصره شرقا وغربا يجمعون على فضله وأشادت بعلمه وتقواه وزهده كتب التراجم :”إلا الشاذ من ألف الوقيعة في أئمة الدين”.
وقد ذهب الشيخ في سنيته إلى حد الاستعاضة بالقرآن عن كثير من الأحزاب كحزب (السيفي) الذي استبدل به قراءة سورة القدر أربعين مرة (21) كما ألزم تلامذته بحزبين من القرآن كل يوم كحد أدنى للمريد مع التنصيص على أن القرآن أفضل أصناف الذكر لمن يعمل به ولا يدخل في المقولة النبوية الصحيحة “رب تال للقرآن والقرآن يعلنه” إلا أن عوام الطريق تلقوا كرامات الشيخ فزادوا فيها تمويها ندد به أبو المواهب سيدي العربي بن السائح في بغيته كما أمر سيدي البشير بن سيدي محمد الحبيب التجاني بتمزيق الرسائل التي شحنت بهذه الترهات(22).
وكان الشيخ قد عرض إلى ما قد يتسرب إلى طريقته السنية من ضلالات فقال :”إذا سمعتم عني شيئا فزنوه ميزان الشرع فما وافق فخذوه، وما خالف فاتركوه”(23) كما كان الإمام مالك يقول (24) :” إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة”، والإمام الشافعي :”إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي”.
نعم، انطلقت من فاس عاصمة الملك ومهد الطريقة التيجانية تحت ظل إمامي السنة المولى سليمان والشيخ التجاني حركة عارمة لنشر  الإسلام في إفريقيا عامة والجانب الغرب منه خاصة وكان السلطان قد ورث من جده المولى عبد الله بن المولى إسماعيل مملكة شاسعة سبق أن وجه إليها هذا الجد الهمام رسائل ضمنها تعليماته المولوية إلى من سماهم آنذاك “عمال أقاليم الجنوب المغربي إلى نهر السينغال”(25) وقد عرفت هذه الأقاليم أمنا وسعة ورزق في هذا الظرف العصيب الذي ظلت آمنة خلاله من القلاقل والاضطرابات المفتعلة حيث بدأ الاستعمار وأذنابه يثرونها منذ ذلك، فكانت تتجه سنويا من فاس عبر مراكش وتارودانت والصحراء والسودان إلى أقاليم أخرى بأقصى الجنوب ثلاث قوافل تقدر قيمة حمولتها ثلاثة إلى أربعة ملايين درهم بصرف القرن الثامن عشر.
وقد عرف الشيخ التيجاني كيف يعزز هذه النوعية الإسلامية والنفحة الروحية من شواطئ المتوسط إلى نهر النيجر وما وراءه ببث رجال من مريديه كان من تلامذتهم الشيخ سيدي عمر الفوتي(26) الذي خلف سلطنة إسلامية عظيمة وسط بلاد الزنوج الفيتيشيين عبدة الأوثان هددت وجود فرنسا فقد أسس هذا الأمير المجاهد مدارس لنشر العقيدة الإسلامية وجماعات للجهاد وتحرير إفريقية الغربية من الوثنية والاستعمار معا، فكان مقدم الطريقة يسلح المريد بالسيف والسبحة أولهما لمحاربة المستعمر والأخرى للجهاد لأكبر وهو محاربة النفس والشيطان، وقد ولد سيدي عمر ببودور (عام 1212 هـ/1979م) وبعد عودته من الحج حيث أخذ الطريقة على مقدمها الفاسي سيدي محمد الغالي بوطالب ( عام 149 هـ/1833م) نشط في نشر التعاليم التيجانية فبلغ في دعوته جبال (فوط جالون) حيث امتدت إلى نهر النيجر الأعلى والسينغال وقد استشهد في غزواته (عام 1282 هـ/1865م) إلى أن أصبح عدد الزوايا التيجانية في عاصمة (دكار) وحدها ما ينيف على المائة، وقد أكد بوني موري (27) في كتابه (الإسلام والمسيحية) حسب نقل الأمير شكيب أرسلان في (حاضر العالم الإسلامي) (28) أن إفريقيا كادت تكون كلها مسلمة لولا قضاء فرنسا على سلطنة التيجانية هذه كما أن أوروبا كادت تكون إسلامية لولا انتصار (شارل مارتل)(Charles Martel) على العرب في بواتيي (Poitiers) (وهو بلاط الشهداء).
وهكذا تضافرت جهود الطريقة التيجانية والدولة العلوية لإعلاء كلمة  الحق في مملكة إسلامية عمل الطرفان منذ قرنين إلى ما شاء الله على زحزحة الدخلاء عنها، وهنا يجب أن نعترف أن بعض الحركات الصوفية القادرية كانت عضدا قويا للجانب التيجاني ومجرد انتماء هذه الفئة للشيخ الكبير مولاي عبد القادر الجيلاني كاف لكفالة سنيتها، ويكفينا حجة على سلفية هذا الإمام ما لاحظه الإمام ابن تيمية في (فتاواه) (ج8 ص 369) قائلا”وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورين من القدماء مثل الجنيد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر بالنهي وتوصية باتباع ذلك..”. وقال ابن تيمية (ج 10 ص 455) :”وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك، (أي سلوك الأبرار وسلوك المقربين) ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة هي طريق المقربين”.
وقد قال عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء بمصر ومعاصر أبي الحسن الشاذلي الغماري المغربي تلميذ المولى عبد السلام بن مشيش في كتابه (الرعاية) :” كل الناس قعدوا على رسوم الشريعة وقعد الصوفية على قواعدها التي لا تزلزل”.
إلا أن بعض الشيوخ القادريين تقاعسوا عن نشر الإسلام على غرار الطريقة التيجانية فواخذهم عمر الفوتي على تساهلهم وتراخيهم.
ومهما يكن فإن إفريقيا وصحراءها قد وجدتا في الثنائية السنية أي الطريقة التيجانية والدولة العلوية خير مزيج لنش الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية، فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رواد الوحدة من المتوسط إلى النيجر تحت ظل السيادة المغربية وإن الرعاية الموصولة من طرف هؤلاء الملوك الأماجد للفرق التيجانية بالمغرب وصحرائه انطلاقا من فاس قد أصبحت الأسيسة القارة في سياسة الدولة العلوية من المولى محمد بن عبد الله إلى جلالة الحسن الثاني مرورا بفقيد العروبة والإسلام جلالة المرحوم محمد الخامس.
—————-
1) حيث توجد زاوية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد المعروف بسيدي الشيخ القطب الصديقي الشهير ( بغية المستفيد – سيدي العربي ابن السائح ص 120).
2) رفع النقاب بعد (كشف الحجاب) لأحمد سكيرج – طبعة 1390 هـ ج 3 ص 64.
3) (بلاد الجريد) اسم
4 ( راجع أرجوزة (عروسة المسائل فيما لبني وطاس من الفضائل) لمحمد الكراسي – المطبعة الملكية بالرباط ص 30 / الإعلام للمراكشي ج2 ص 37، الطبعة الأولى.
5 – الوثائق الغميسة لتاريخ المغرب، دوكاستر – السعديون – السلسة الأولى ( س-أ) ص 441/م 2 283 / كوتيي – العصور الغامضة لتاريخ المغرب ص 429 / أربعة قرون لتاريخ المغرب والصحراء – مرتان ص 58).
6 – كتاب (أربعة قرون ص 51) وقد تجدد ذلك في كتاب آخر للضابط مارتان هو (الواحات الصحراوية ) نشر عام 1908 بالجزائر.
7 – الدرر البهية ج2 ص 20.
8 – الساحل في الصحراء يطلق على أقاليم ما قبل وديان النيجر والسنغال.
9 – (رفع النقاب) ج 3ص 198.
10 – (كشف الحجاب) – أحمد سكيرج  ص 289 /ملحق بروكلمان ج 2 ص 896.
A. Le Chatelier, l’Islam dans l’Afrique Occidentale p.189
11 – راجع كتابنا بالفرنسية الذي طبع مرتين L’Islam dans ses sources
12 – الاستقصا  ج4 ص 64/ قوافل السودان م3ص 7111/ وثائق دوكاسترس .أ.م1 ص 631)
13 – الدرر البهية للفضيلي ج 2 ص 143.
14 – D- J. EAST, Western Africa, London 1884
D- Westermann : Islam in the West and Central Sudan, The international Rev. Of missions, vol1 (1912 p.644)
15 – كشف الحجاب ص 162 (بغية المستفيد) لسيدي العربي بن السائح ص 193.
16 – (رقع النقاب بعد كشف الحجاب) ج 4 ص80.
17 – (كشف الحجاب) ص 343.
18 – رفع النقاب ج 4 ص 46.
19 –  مخطوط يسمى (الأشراف على من بفاس من العلماء والأشراف) وهو بخزانة العلامة محمد الصبيحي بسلا، ومطلع هذه القصيدة :
إن شئت تصبح في رياض أمان  وأردت تغدو في منى وأماني
فعليك بالبدر المنير سنى أبـي   العباس أعني أحمد التجانـي
شمس السيادة قطب دارة الهدى  بدر السعادة كوكب الإحسان
20 – (بغية المستفيد) طبعة القاهرة 1304 هـ (ص 56).
21 – (رفع النقاب) ج 3 ص 182.
22 – (رفع النقاب) ج 4 ص 36.
23 – (كشف الحجاب) ص 177.
24 – فتاوى ابن تيمية – طبعة الرياض بالحجاز ج 20 ص 211.
25 – مجلة صحراء المغرب – علال الفاسي (عدد 4 ص9).
26 – له كتابان هما :”سيوف السعيد المعتقد في أهل الله كالتيجاني على رقبة الشقي الطريد المنتقد الجاني” (توجد نسختان منه في المكتبة العامة بالرباط) ( 12135د/2462د) و”حزب الرحمان الرحيم أو الرماح وهو كتاب علم كما وصفه أبو المواهب سيدي العربي بن السائح.
27 – L’Islamisme et le Christianisme, G. Bonet Maury.
28 – ج 2ص 398.

العدد 257 شوال-ذو القعدة 1406/ يونيو-يوليوز 1986

المقالة كاملة:
لماذا رعاية الدولة العلوية للطريقة التجانية.pdf

لماذا رعاية الدولة العلوية للطريقة التجانية.doc

زر الذهاب إلى الأعلى