كتب أصحاب الطريقةمقالاتمناسبات

الاحتفال بذكرى المولد النبوي بين فتاوى التشريع وفتاوى التبديع الأستاذ: البشير المحمودي

الاحتفال بذكرى المولد النبوي

بين فتاوى التشريع وفتاوى التبديع

 

العلامة: مولاي البشير المحمودي

ولد بتاريخ 1940 / توفي رحمة الله عليه يوم الخميس 01 أكتوبر 2020

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها السادة: إن موضوع العرض-كما تعلمون- هو موضوع المتداول في المجتمع الإسلامي عموما و في المجتمع المغربي خصوصا، سواء من طرف المعتزين به باعتباره من العادات المغربية الحسنة، والمغاربة هم الذين ظلوا إلى الآن بالمرصاد للتشيع و الشيعة و معتقداتها سواء على المستوى الفكري والعقدي أم على المستوى السياسي و الإداري. أم من طرف المحذرين منه المنكرين على مستعمليه غيرة منهم- حسب تصورهم- على استمرار العقيدة الصحيحة واضحة نقية في المجتمع المغربي لا تشوبه زوائد و لا بدع و لا منكرات إن كانت فى هذه الاحتفالات منكرات.

وعملا ” بقاعدة لكل مقام مقال ” فإن هذا المنتدى العلمي الفاضل لا يناسبه الاكتفاء بعرض مجموعة من أسماء العلماء الذين يرون جواز هذا الاحتفال أو مجموعة من أسماء العلماء الذين يرون أن هذا الاحتفال بدعة.

لذا سيكون منهجي في هذا العرض المتواضع بحول الله هو التركيز على منهج التقريب و هو سوق المقدمات على وجه يفيد المطلوب. (1) وذلكم مع الاستعانة. بمنهج الاستطراد عند الاقتضاء، أقصد الاستطراد الوظيفي الهادف، لا الاستطراد العفوي الذي يأتي عن طريق تداعي المعاني. والتكامل بين المناهج- كما هو معلوم- سنة محمودة عند علماء المناهج.

و هكذا أيها السادة ستشكل المقدمات في هذا العرض الجزء الأكبر و تأخذ النتائج ما تبقى من الوقت.

أيها السادة إن هذا الموضوع يعد من المسائل الخلافية المشهورة، كالتوسل، وزيارة قبر الرسول، وقراءة القران جماعة، و الذكر جماعة، والذكر جهرا، و الذكر بالعدد، و كتابة الرقية المشروعة أو الاكتفاء فيها بالقراءة… الخ… الخ.

وإن تجاهل الخلاف الفقهي من طرف بعض إخواننا في الله الذين يجاهدون في سبيل الله وينشرون الدعوة إلى الله و التوعية بالإسلام و أحكام شريعته لهو ضرب لقسم كبير من التراث الفقهي. الإسلامي و طمس لكثير من معالمه و أرائه إذ معرفة الخلاف ظل ركنا أساسا في عمل الدعوة و الإرشاد و الإفتاء عبر جميع عصور الإسلام.

و قد تنبه علماء المملكة العربية السعودية إلى هذا الخطر في التوجيه فصاروا يلزمون الطلبة بمعرفة كل أو جل ما قيل من فقه حول النص و لا يقبلون منهم الاكتفاء بمعرفة النص وحده حسب ما بلغنا جميعا من نصائح الشيوخ هناك كفالح الحربي و أمثاله.

و في هذا المجال أسوق مجموعة من توجيهات بعض علماء السلف الصالح في ما يتعلق بضرورة معرفة الخلاف:

– قال قتادة رحمه الله ت 117 هـ: من لا يعرف الاختلاف لم يشم العلم أنفه.

– وقال الحافظ سعيد بن أبي عروبة رحمه الله 156 هـ: من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالما.

– وعن عثمان بن عطاء عن أبيه رحمه الله ت سنة 155 وقال: لا ينبغي لأحد أن يفتى الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه.

– وقال سيد العلماء- كما وصفه الذهبي- التابعي الجليل الحافظ أيوب السختيانى ت 231 هـ: أجسر الناس على الفتية أقلهم علما باختلاف العلماء و أمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء. (2)

و إذ انتقلنا في هذا إلى العصر الهجري الوسيط نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ت 727 هـ يقرر قائلا: من زاد فقهه زاد رفقه بالمخالفين. وفي رواية له: من زاد فقهه قل إنكاره عن المخالفين. وقال: إن التشنيع عن المخالفين أو تكفيرهم هو من سمت أهل الأهواء. (3)

أيها السادة: إن أسباب الخلاف الفقهي متعددة لا يهمنا منها هنا إلا ما يساهم في توحيد تصوراتنا حول الموضوع المطروح. ر قد أوجز الشيخ محمد بن صالح العشيمين هذه الأسباب في ئلاثة. فإما أن يكون الخلاف ني ثبوت الأثر أو في ترجيح الأثر أو في فهم الأثر (4).

وهذا السبب الأخير هو مشكلة المشاكل العلمية الواقعة بين مفاهيم السلفية الفقهية على اختلاف منابعها و مذاهبها و روادها من فقهاء و صوفية من جهة، وبين مفاهيم السلفية النصية بأطوارها المتعاقبة: الحنبلية و التيمية و الوهابية و المعاصرة من جهة أخرى. فالمفتي أو العالم أو الداعية كما يجب عليه العلم بمواضع الإجماع يجب عليه كذلك العلم بمواضع الاختلاف أو على الأقل بمظانها ومراجعها.

فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يعتبر أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

وأوجب الإمام الشافعي رحمه الله على الفقيه المجتهد أو الفقيه المتصدر للفتوى أن يعرف الرأي المخالف ليبعد الغفلة عن نفسه من جهة و ليتثبت في إدراك الحق الذي ارتضاه و اعتقده من جهة ثانية. (5)

أيها السادة، إن المتواتر عند علماء السلف الصالح أن الإنكار على المسائل المختلف فيها لا يجوز، يشهد لذلك:

  1. ما يقوله ابن قدامة و نصه “ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوما كونه منكرا بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه”(6).
  2. ما رواه أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري قال: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه و أنت ترى غيره فلا تنهه. (6- ب)
  3. ما رواه الخطيب البغدادي بسنده عن سفيان الثوري أيضا قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به. (7)
  4. ما ذكره النووي في الروضة فقال: “ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره أما المختلف فيه فلا إنكار فيه”(8)

أيها السادة يمكن تصنيف الاختلاف في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي إلى مفاهيم ثلاثة-حسب مقروءاتى المحدودة- وهي:

  1. هل الاحتفال بالمولد النبوي مسألة عقدية كما ترى السلفية النصية أو مسألة فقهية يبحث عن حكمها في الشرع كما ترى السلفية الفقهية؟
  2. هل الاحتفال بذكرى المولد من العادات الحسنة كما تصنفه السلفية الفقهية أو هو من العبادات التي لا تجوز كما ترى جماعة من رجال السلفية النصية؟
  3. هل الاحتفال بالمولد يدخل في عموم حديث “كل بدعة ضلالة” و عموم حديث “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” دون أن يكونا مخصصين بحديث “من سن سنة حسنة… “

  على اعتبار أن معنى من سن سنة: من أحيا سنة أو من عمل بسنة كما ترى السلفية النصية؟ أم أن الاحتفال بالمولد يدخل في المفهوم الموسع للبدعة الذي يشمل كل ما أحدث بعد الرسول صلى الله عليه و سلم سواء كان مذموما أم ممدوحا، وبذلك يطرح ما أحدث بعد الرسول على ميزان الشرع، فإن كان حسنا دخل في مفهوم حديث “من سن سنة حسنة… الخ” (9- ا) و إن كان سيئا دخل في مفهوم حديث “كل بدعة ضلالة” كما ترى السلفية الفقهية.

وبهذا المفهوم الأخير”تكون البدعة تنقسم تقسيمين: تقسيما ثنائيا و هو أن البدعة بدعتان بدعة محمودة و بدعة مذمومة كما بينها الشافعي(9ب)، و تقسيما خماسيا و هو أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة كما في تقسيم سلطان العلماء عزا لدين بن عبد السلام و من حذا حذوه كشهاب الدين القرافي، و الإمام النووي، و الحافظ بن حجر، و الإمام بن عرفة، و غيرهم. (10)

و أشير هنا إلى أن الإمام الشاطبى- وهو من العلماء الذين لا يرون تقسيم البدعة- لا يؤول حديث من سن سنة حسنة الخ بمعنى من أحيا و إنما يعطيها المعنى اللغوي الحقيقي وهو أن من سن سنة حسنة معناه من اخترع و ابتدع و جاء بالجديد. (11)

فالاختلاف إذن يدور بين سلفيتين هما السلفية النصية و التي تسمى الآن السلفية، و السلفية الفقهية التي يسمى أصحابها الآن الفقهاء، فما معنى السلف و ما معنى السلفية؟

من المعلوم أن أهل السنة و الجماعة كلهم سلفيون، إلا أن منهم:

1. من   يعتبر للعقل قدرته في مجالات الحياة و يترك للنصوص سلطانها في مجال الغيب و العقائد و هذه إحدى ميزات السلفية الفقهية.

2. و منهم من ينكر للعقل هذه القدرة و يحصرها في النصوص و الآثار و هذه إحدى ميزات السلفية النصية. (12)

و القرآن و الحديث هما أول من استعمل مصطلح كلمة السلف: فقد وردت في القرآن الكريم حوالي 8 مرات جاءت كلها بمعنى الماضي قال تعالى: “فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف” (13). و قال سبحانه “عفا الله عما سلف” (14).

وورد المصطلح في حديث ابن عباس (ض) قال: “لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “الحقي بسلفنا الصالح الخير عثمان ابن مظعون” (15). وعن السيدة فاطمة (ض) قالت: قال لها صلى الله عليه و سلم في مرض موته: ” لا أرى إلا قد حضر أجلي و إنك أول أهل بيتي لحوقا بي و نعم السلف أنا لك” (16).

و استعملته المعاجم العربية بمعنى كل من تقدم في السن و الفضل و العمل الصالح من الآباء و الأقارب و غيرهم. (17)

وفى اصطلاح الفقهاء تعدت الآراء حول مفهوم الكلمة و نحصرها فى ثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول يتجلى في التحديد الزمنى لبداية مذهب السلف هل هو الصحابة فقط أو الصحابة و التابعون أو الصحابة و التابعون و من تبعهم، أو كل من جاء قبل القرن الخامس الهجري، و القول الثالث هو المعتبر كثيرا عند السلف و هي المدة التي نص عليها الحديث الشريف: ” خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” (18). الاعتبار الثاني يتمثل في ضرورة إضافة كلمة صالح، إذ لا يكفى أن يكون السلف من القرون الثلاثة الأولى دائما و إنما نقول السلف الصالح لأن جميع فرق أهل الأهواء من القرون الثلاثة الأولى و لكنهم لا يطلق عليهم السلف الصالح. الاعتبار الثالث أن هذا المصطلح يرادف أهل السنة والجماعة عند بعض العلماء (19). و من هنا كان السلفي هو من يرجع في معرفة الأحكام إلى الكتاب و السنة فقط و لا يلتفت إلى ما سواهما و هذه ميزة السلفية النصية بجميع مراحلها، أو هو من يرجع إلى الكتاب و السنة وآثار السلف الصالح من أقوال الصحابة ولأئمة والمجتهدين و هذه ميزة السلفية الفقهية بقسميها: الفقهاء و الصوفية أو علماء الشريعة و علماء السلوك.

أيها السادة لتتضح لنا أكثر البيئة العلمية و الفكرية التي يبرز منها القول بجواز الاحتفال أو منعه نشير إلى مراحل هذه السلفية:

المرحلة الأولى : ويمثلها الإمام أحمد بن حنبل ت 245 هـ، ويكفى في وصف سلفيته ما وصفه به ابن القيم الجوزية إذ قال: “عن الدنيا ما كان أصبره، وللماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها و أتته الدنيا فأباها” (25). وقد أوضح الحافظ هبة الله اللالكائى ت 418 هـ عقائد ابن حنبل في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة، وهذه العقائد الحنبلية هي التي تشكل أساسا لكثير من عقائد السلفية النصية على اختلاف مراحلها.

المرحلة الثانية : و يمثلها عهد المماليك الذي عرف انتشار كثير من البدع و الضلالات و الظلم والفساد و تغلبت الخرافات على عقيدة السلف مما دفع السلفيين للخروج عن صمتهم و تشكيل معارضة الدولة من خلال الجهر بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و مما عرض بعض أعلام السلفية للسجن و الاضطهاد نذكر منهم على سبيل المثال أحمد بن تيمية ت 728 هـ و ابن القيم الجوزية ت 751 هـ و على يديهما و أمثالهما صحت الحركة السلفية القديمة ر واصلت نضالها طبق ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل.

المرحلة الثالثة: وتمثلها سلفية العهد العثماني و من أعلامها المجددين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ت 1206 هـ، و محمد السنوسي ت1276 هـ وجمال الدين الأفغاني ت 1314هـ و محمد عبده ت 1323 هـ، ورشيد رضا ت 235 1 هـ و عبد الحميد بن باديس ت 1354، و أبو شعيب الدكالى ت 1315 هـ، و محمد بن العربي العلوي ت 1342 هـ و غيرهم. (21)

المرحلة الرابعة: و تمثلها السلفية الحديثة المعاصرة التي صارت على منهاج السلفية الوهابية مع ما تتميز به عنها من مبادئ جديدة.

وهكذا تميزت السلفية النصية الحنبلية:

1. بالتركيز على النصوص إذ كان الأمام أحمد رحمه الله لا يقدم على الحديث الصحيح عملا و لا رأيا و لا قياسا.

2. بالأخذ بفتاوى الصحابة إذا انفردت في موضوع ما.

3. باختيار الأقرب إلى الكتاب والسنة من أقوال الصحابة عند تعددها و اختلافها.

4. باستعمال القياس عند الضرورة و في حالة غياب النص أو قول الصحابي أو الحديث المرسل أو الضعيف.

5. بكراهة الإفتاء. مما ليس فيه أثر من عند السلف.

و تتميز السلفية النصية التيمية:

أ.. بمواصلة منهج السلفية الحنبلية

2.. بمواجهة بعض مقولات الصوفية مع الانخراط في سلك الصوفية السنية (22)

3. برفض التأويل أي رفض صرف النظر عن المعنى الظاهر إلى المعنى المحتمل (23)

4. و بالتناقص بين الالتزام بالمنهج النصي و بين القول بضرورة تغيير الفتوى و اختلافها حسب الزمان و المكان و الأحوال و النيات و العادات. حتى إن السلفيين في هذه الفترة نصوا على أن هذا المبدأ هو مبدأ عظيم جدا إذ أسسوه على مصالح العباد فالشريعة مؤسسة عن الحكم و هي عدل كلها رحمة كلها و حكمة كلها. (24)

5. وبأن العلم الضروري للعالم و المفتى و القاضي هو مؤسس على نوعين من الفقه: فقه الواقع و فقه النصوص الواردة في المشكلات فالمفتي والعالم و القاضي هو من يتوصل من معرفة الواقع والتفقه فيه إلى، معرفة حكم الله، فالواقع يتغير و يتطور و لا بد للفتاوى أن تكون متغيرة متطورة، وتغير الواقع يستلزم تغير المصالح، وعلى المصالح تنبي الشريعة. (23)

فهل تتناقض السلفية المعاصرة مع سلفية ابن تيمية في هذا المبدأ مبدأ التغيير و التطور و مراعاة المصالح؟ فكثيرمنهم يتشددون في مواقفهم مع مستجدات الحياة في كل ما لم يرد به نص من كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم.

و تتميز السلفية الوهابية:

1. بتضييق مفهوم البدعة و إطلاق حديث كل بدعة ضلالة و حديث من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد على كثير من الأمور المستحدثة في الحياة.

2. و بتأويل حديث من سن سنة حسنة الخ إلى معنى من أحيى سنة خلافا لعلماء السلفية الفقهية في هذين المبدأين و خلافا للشاطبى في المبدأ الثاني.

وبهذين المبدأين ظهر من بين الجماعات الإسلامية أو من بين بعض أفرادها من يتسابق إلى التميز بأن هذه الجماعة وحدها هي التى تمثل الإسلام المصفى و الفرقة الناجية و أن غيرها يتخبط دننا البدع و في العلم المعتم و في الفقه الخرافي. و بهذا المنظور السوداوي لبعض أفراد هذه الجماعات افتقد الناس مبدأ التعاون الاسلامى السامي مع الذين يختلفون معهم في الرأي و المنهج و صار من المباح عند هذا البعض أو ذاك التشهير بالمخالفين و التحذير منهم و من فتاواهم و من سلوكهم. و من هذا الباب حملات التشهير و الإنكار على المحتفلين بالمولد النبوي. و لعل توزيع مناشر سرية مكثفة حول هذا الموضوع في السنة الماضية، و حملة تجنيد الألسنة لتغيير المنكر و القضاء على احتفالات المولد النبوى خير مثال لذلك.

3. و بفتح باب الاجتهاد الفردي بعد أن كان مغلقا منذ سقوط بغداد سنة 656 هـ مع التساهل في مراعاة شروطه و قواعده و آدابه.

4. و بتكفير طائفة من رجال التصوف و مواجهة بعض المقولات الصوفية

5. و بتحريم التوسل بالذوات مهما كان نوعها حتى الرسول صلى الله عليه و سلم و تأويل الأدلة الدالة على الجواز التى أوصلها علماء السلفية الفقهية إلى 17 دليلا من الكتاب والسنة. (26)

6. و برفض التمذهب في الأصول و قبوله في الفروع طبقا للبند الأول من معتقدات السلفية الوهابية الذي يقول إنها حركة لا مذهبية في أصولها حنبلية في فروعها. (26 ب)

7. و بالاستنكار على اتباع المذاهب مهما كانت الأدلة التى يستندون إليها.

8. و بترديد حديث كل بدعة ضلالة كما سبقت الإشارة إليه.

9. و بابتداع كثير من الأمور التى كان العمل بها جاريا مثل:

-إغلاق مسجد الرسول بعد العشاء و منع الاعتكاف فيه و التهجد

– منع التدريس في الحرمين على كل من لم يكن سلفيا و لو كان من كبار علماء الحجاز و الأحساء.

– منع أموات المسلمين من خارج مكة و المدينة من الدفن في الحرمين.

– منع النساء من الوصول لمواجهة فبر الرسول.

– فرض استدبار قبر الرسول بالقفا عند الزيارة و الدعاء

– منع إدخال كتاب دلائل الخيرات إلى الديار المقدسة

– منع الناس من القنوت قي الصبح باعتبارها بدعة لم تعرف في الشرع رغم أنما مندوبة عند الإمام الشافعي و الإمام مالك.

– تكفير الصوفية و الأشاعرة و الماتريدية و بعض الإخوان المسلمين… الخ (27)

و تتميز السلفية الوهابية المعاصرة:

1. بالسير على منهج السلفية الوهابية و مبادئها العقدية

2. و بالتسارع إلى التكفير و تعميمه على كثير من شرائح المجتمع الإسلامي

3. و بإلغاء فكرة تقسيم البدعة عند الشافعي و العز و غيرهما و اعتبار ذلك شبهة تؤدي للتضليل بالعلم.

4. و برفض الاختلاف الفقهي و اعتبار دراسة فقه الفروع مضيعة للوقت و عده من الشبهات التي تضلل الناس ر تبعدهم عن الكتاب والسنة.

5. و بوحدة المرجعية تلك التي رفضها الإمام مالك حين اقترح عليه الخليفة العباسي فرض الموطأ على الأمصار توحيدا للعلم فاعتذر بأن الموطأ لم يجمع علم الرسول صلى الله عليه و سلم و بأن الصحابة تفرقوا في الأنصار و لكل بلد فقهه في المسائل الخلافية، فكثير من شبابنا اليوم لا يستفتي إلا من كانت له سمات سلفية فكرية و شكلية. (28)

6. و بجل المواصفات و المميزات التى سبقت!لنا في السلفية الوهابية الأولى.

السلفية الفقهية:

إذا كنا قد لاحظنا بعض أنشطة السلفية الفقهية في اتجاه عمودي حسب فتراتها التاريخية فإننا على العكس من ذلك نلاحظ تطور السلفية الفقهية في اتجاه أفقي. فتراثها الفقهي الضخم تزامنت معالمه مع بعضها و تواكبت سواء في الدراسة أم التأليف والتدوين أم المناقشات و المناظرات والفتاوى. فكان موطأ الإمام مالك ومدونة سحنون و ما تفرع عنهما أول و أهم مصادر المذهب المالكي. و في نفس الوقت كان المبسوط ومدونة محمد بن الحسن الشيباني في مقدمة مراجع المذهب الحنفي. و كانت الأم و مختصر المزني المصدرين الأولين للمذهب الشافعي. وكان المغنى لابن قدامة أساس الفقه الحنبلي.

و هكذا استندت مذاهب السلفية الفقهية إلى بعضها في الفكر و المنهج و المرجعية و إن اختلف كل منه عن أخواته في كثير من الأحكام و الفروع مما جعل عمليات التحليل و التحريم تجد لها متنفسا بهذه السلفية فتوسعت فيها دائرة الفقه الإسلامي حتى استجاب لحاجات الناس و مصالحهم. ومن هنا يمكن اختزال الفرق بين السلفيتين مرة أخرى في كون السلفية الفقهية كانت ولا تزال دائرة أحكام الشرع فيها تتسع بالرأي و الاجتهاد بشروطه التي حددتها قواعد الأصول. و بكون السلفية النصية لا تخرج عن النص مما جعلها تدخل في البدع و المنكرات كل ما لم يتناوله نص كالاحتفال بالمولد. و بتعدد مراجع السلفية الفقهية و إمكانات الأخذ من جميع مأئورات المذاهب بينما السلفية النصية تلتزم وحدة المرجعية فما يقوله سلفي في المشرق هو نفس ما يردده سلفي بالمغرب بالعبارة و الحرف و ربما بالتنغيم و التشكيل الصرتيين كذلك. وما الندوات العلمية و المجامع الفقهية و غيرها إلا أمثلة لحيوية السلفية الفقهية و قدراتها على مواجهة الحياة والناس و على الإنتاج و التوالد و التفريع الفقهي.

ومن هنا كان جل علماءنا و فقهاءنا يجيزون الاحتفال بالمولد النبوي لكونه من العادات الحسنة أو لكونه بدعة مستحسنة استنادا إلى الحديث النبوي الشريف “من سن سنة حسنة فله أجرها الخ ” و الحديث النبوي الشريف “إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه و بعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و ما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ، قال النور الهيثمي رجاله موثوقون (29).

أيها السادة، من خلال هذه المقدمات يمكن الخروج بنتيجة أولى هي: أن جل علماء السلفية الفقهية في كل بلد عموما و في المغرب خصوصا يجيزون الاحتفال بالمولد النبوى استنادا إلى الحديثين الأخيرين ر إلى أن مفهوم من سن سنة هو من ابتدع و اخترع و جاء بجديد.

و أن جل علماء السلفية النصية يرون أن هذا الاحتفال بدعة ضلالة تجب محاربتها في شرائح المجتمع و على مستوى الدرس و الكتابة و التوعية الإسلامية استنادا إلى حديث “من سن سنة حسنة” الذي يؤولونه بمعنى من أحيا سنة و إلى حديث “كل بدعة ضلالة” وحديث “من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد”. و بناء على أن أحكام الشرع لا تؤخذ إلا من الكتاب و السنة فقط و ليس من سواهما. وللمزيد من التوضيح أسوق بعض النماذج من فتاوى مجموعة من علماء الإسلام في الموضوع سواء منهم من منع الاحتفال بالمولد أم الذين أجازوا هذا الاحتفال في أشكال مشروعة:

أيها السادة, أبدأ بنموذج من فتاوى العلماء المانعين و أكتفي بجواب الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله الذي كان حول سؤال عن المولد النبوي فقال: الجواب: أن يقال لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول و لا غيره لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون و لا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم و لا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، و هم أعلم الناس بالسنة و أكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم و متابعة لشرعه ممن بعدهم. و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: ” عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة”، ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع و العمل بها، و قد قال الله سبحانه في كتابه المبين “و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا”(30)

هذا النموذج يغنى عن جميع ما كتب في منع الاحتفال بالمولد لأن للسلفية النصية- كما هو معلوم- خطا واحدا و منهجا موحدا و مرجعية واحدة لا يخرج أصحابها عنه. و يمكن ذكر مجموعة من المانعين دون أن نصحبها بفتاواهم في الموضوع للسبب السابق ذكره، منهم:

الشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ, د. محمد بن سعد الشويعر، الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن بسام, الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، الشيخ د. الصديق الصدوق، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن المنيع . و جل العلماء و الشيوخ المتمنهجين بهذا المنهج في فهم البدعة و السنة، و من هؤلاء الأساتذة والطلبة وغيرهم من دعاة السلفية الوهابية في المشرق و المغرب. (34)

و تجدر الإشارة إلى أن أقلام العلماء تجردت للرد على مزاعم السلفية النصية الوهابية في كثير من القضايا الفقهية و العقدية نثرا و نظما، نذكر منها:

أ- من المنظومات:

– منظومة العلامة عبد الرحمن الأحسائي في ستين بيتا

– منظومة التحذير و الإبداع من تحبير الابتداع نظم العلامة ابن ميمومة كيكونام بمسجد بوهوم وادوكل بتركيا 555 بيتا.(331)

-الرائية الكبرى في ألف بيت ليوسف النبهانى

– الرائية الصغرى في أكثر من 500 بيت ليوسف النبهاني

ب- من المنثور: نذكر:

– الصواعق الإلاهية في الرد على الوهابية: حسن ابن حسن خوزبك

– النقول الشرعية في الرد على الوهابية للأستاذ الشيخ حسن الشطي الحنبلى

– سبيل النجاة من بدعة أهل الزيغ و الضلالة: عبد الرحمن القوتتنى الهندي

– تاريخ الوهابية حسن خوزبك الشرقاوي الشافعي

– واعظ غير متعظ في الرد على أبى بكر الجزائري: عبد الكريم مراد و عبد الحى العمراوي، فاس.

– التحذير من الاغترار بما جاء في كتاب الحوار في الرد على ابن منيع للأستاذين عبد الكريم وعبدالحي المذكورين

– الرد المحكم المنيع على منكرات و شبهات ابن منيع للأستاذ يوسف بن السيد هاشم الرفاعي، الكويت

– و اللائحة طويلة يهمنا منها الإشارة إلى بعضها كما سبق. (34)

ومن النماذج التي أمكن اختيارها بين مجموعة من آراء و فتاوى علماء السلفية الفقهية أشير إلى:

النموذج الأول : فتوى الحافظ أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن الشافعي ت 665 هـ المعروف بالشيخ الإمام النووي قال: “و أحسن ما ابتدع في زماننا هذا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم من المعروف و الصدقات و إظهار الفرح و السرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء يشعر بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم و تعظيمه في قلب فاعل ذلك” (35)

النموذج الثانى : للعلامة محمد بن عبد الله ابن الحاج الفاسى القيرواني التلمساني المالكي

ت 714 هـ، تحدث في كتابه المدخل عن تعظيم شهر ربيع الأول و حث على تكريمه و احترامه و الإكثار من فعل الخيرات، فيه لأنه وقع فيه مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، شكرا لله على أن أولانا هذه النعمة العظيمة، و ذكر إشارة الحديث النبوي إلى فضيلة يوم ولادته و شهرها بقوله، صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن صوم يوم الاثنين فقال: “ذاك يوم ولدت فيه” (36).

النموذج الثالث: اخترته من فتاوى ابن تيمية قال رحمه الله “افتعظيم المولد و اتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس و يكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده و تعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم”(37). و سئل عن الفقراء المجتمعون في المسجد يذكرون و يقرؤون شيئا من القرآن ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم و يبكون ر يتضرعون و ليس قصدهم من ذلك رياء و لا سمعة بل يفعلونه على وجه التقرب من الله هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب: “الحمد لله، الإجماع على أن قراءة القرآن و الذكر و الدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة و لم تقترن به بدعة منكرة” (38). قلت و من هذا الباب كما يتضح اجتماع الناس لأجل الاحتفال بالمولد النبوي فهم يجتمعون على قراءة القرآن و ذكر الله والأمداح النبوية و الاستماع إلى دروس السيرة و إلى توصيات العلماء و نصائحهم بإتباع سنته صلى الله عليه وسلم و تطبيق شريعته.

النموذج الرابع: فتوى أبى عبد الله محمد ابن عباد ت 730 هـ: سئل هذا العارف بالله عما يقع في المولد النبوي من وقود الشموع و غيرها فأجاب: “الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين و موسم من مواسمهم ” ذكر ذلك أبو العباس أحمد بن يحى الونشريسى المتوفى سنة 916 هـ. وقد استند العارف بالله محمد بن عباد المذكور في رسائله الكبرى إلى قصة المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم سالما من الغزو فاستشف منها جواز الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بعد أن استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوفاء بنذرها حينما رجع سالما فأذن لها و فعلت ما نذرته. (39)

النموذج الخامس: ما استنبطه الحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852 هـ من تخريج جواز عمل المولد من حديث ثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: “قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون و نجا فيه موسى فنحن نصومه شكرا لله فقال صلى الله عليه وسلم نحن أولى بصومه بموسى منكم “(40)

النموذج السادس : من فتاوى الشيخ رشيد رضي ت 1255 هـ ونصه: إن أول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي ملوك الشراكسة بمصر. و قال سئل الحافظ بن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم لا فأجاب بقوله: “اصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن واحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى، و لكنها مع ذلك اشتملت على محاسن و ضدها، فمن جرد عمله في المحاسن و تجنب ضدها كان بدعة حسنة و من لا فلا” (41).

النموذج السابع : نجده في ما أثبته الإمام القسطلاني ت 922 هـ من جواز الاحتفال بالمولد النبوي بما هو مشروع لا منكر فيه، واستشف هذا الجواز من حديث البخاري في باب الجنائز من كون أبى بكر الصديق تمنى الموت في هذا اليوم لكونه اليوم الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم و فيه توفي. (42)

النموذج الثامن: ما ذكره نور الدين الحلبي في سيرته ت 1014 هـ من أن الإمام شيخ الإسلام تقي الدين السكي رئيس علماء الشافعية بمصر ت 664 هـ اجتمع عنده في مجلسه كثير من علماء عصره فأنشد الشاعر الصرصري قوله في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:

قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب        على ورق من خط أحسن من كتب

وأن تنهض الأشراف عند سماعه           قياما صفوفا أو جثيا على الركب

فقام الإمام السكى و قام معه كل من كان بالمجلس و حصل أنس كثير من ذلك المجلس، قال المؤلف “و عمل المولد و اجتماع الناس له كذلك مستحسن” (43)

النموذج التاسع: ما استنبطه الألوسى من تفسير قول الله تعالى “قل بفضل الله و رحمته فبذلك فليفرحوا” (44) فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمة كما قال عز و جل “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”(45) و كما جاء في الحديث: “إنما أنا رحمة مهداة”(46) فوجب من هنا الاحتفال و الفرح بهذه الرحمة. (47)

النمـوذج العاشر: ما قاله الشيخ أحمد زين دحلان مفتي الشافعية. بمكة ت 1066 هـ ونصه “العادة أن الناس إذا سمعوا ذكرى وضعه صلى الله عليه وسلم يقومون تعظيما له صلى الله عليه وسلم و هذا قيام مستحب لما فيه من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، و قد فعل ذلك كثير من علماء الأمة الذين نقتدي بهم. (48)

لنموذج الحادي عشر: جواب الدكتور أحمد الشرباصي مفتي الأزهر في عصره: إذ قال “ورغم أن هذا العمل بدعة فهو عادة حسنة إذا خلا من المناكر ولم يصاحبه أمر غير مشروع لأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها من العبر و العظات ما يحيي موات النفوس و يأخذ بها إلى طريق الخير و البر…ثم قال: و لو أننا أخذنا بالنظرية التي تقول لا نحتفل بالمولد لأن ذلك ليس من الدين لقضينا على ذكريات كثيرة نجنى من تذكرها و الاحتفال بها خيرا كثيرا و توعية إسلامية كبرى. (49)

النموذج الثاني عشر: ما قاله الحافظ شمس الدين السخاوي ت 876 هـ وهو من المتشددين في مجال البدع و نصه: “إن عمل المولد أحدث بعد القرون الثلاثة الأولى ثم لازال أهل الإسلام بسائر الأقطار يعملونه و يتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات و يعتنون بقراءة مولده الكريم و يظهر عليه من بركاته كل فضل عظيم”.

أيها السادة: هذه مجموعة من فتاوى العلماء في جواز الاحتفال بالمولد النبوي و في منعه يمكن اعتبارها مجرد أمثلة موضحة للمنهج السلفي الفقهي العام الذي أتضح لنا من خلاله جواز هذا الاحتفال، و مجرد أمثلة موضحة للمنهج السلفي النصي العام الذي أتضح لنا من خلاله كذلك منع الاحتفال بالمولد النبوي و اعتباره بدعة ضلالة لا سند لها في الشرع.

أيها السادة: إن للجانب الروحي حظه في هذا الموضوع من الناحية الشرعية فنتساءل لماذا هذه الاحتفالات بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: كما يوضحه الحافظ الشيخ محمد الحافظ المصري فيقول: لأن الله عز و جل جعل تذكر النعم أمرا مشروعا بل واجبا على كل مسلم و مسلمة، و دليل هذا الوجوب قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:” ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور و ذكرهم بأيام الله” (51). و أيام الله كما قال المفسرون: نعمه التي أنعم بها على بنى إسرائيل و التي تعدد ذكرها في القرآن بصيغة (أذكروا نعمة الله عليكم) فهي نعم كثيرة أنعم الله بها عليهم و أمر نبيه موسى أن يذكرهم بها. فتفضيلهم على العالمين نعمة، ونجاتهم من فرعون نعمة، و العفو عنهم بعدما اتخذوا العجل نعمة، و خروج كثير من الأنبياء منهم نعمة، و تفجير 12 عينا من الحجر بالماء الصافي الشروب بعدما اشتد عليهم الجفاف نعمة. وهكذا…

وقد خاطب الله الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكر نعمة الله فقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود” (52). وقد تعددت الآيات التى تأمر المسلمين بأن يتذكروا نعم الله عليهم. فتذكر نعم الله فرض واجب على كل مسلم و مسلمة. فرضه الله من فوق سبع سماوات. ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم بيننا نعمة كبرى من نعم الله، قال الحافظ بن حجر رحمه الله عن علي رضي الله عنه أن نعم الله ست: الإسلام، القرآن، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الستر، العافية، الغنى عن الناس (53). ونعمة وجود الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته عامة قال تعالى”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”(54) وقال تعالى “يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها”(55) قال المفسرون: النعمة هنا هي الرسول أو نبوته، فأهل الكتاب كانوا يعرفون أن هذ5 النعمة من الله فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم جحدوا وأنكروه عنادا و استمروا على عبادة الأصنام و التكذيب بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان صلى الله عليه وسلم نعمة كبرى من الله منها الله علينا فقال:”لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم”(56) فلا عجب أن يتذكر المؤمنون في حياتهم ذكريات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم: ذكرى المولد وذكرى البعثة و ذكرى الهجرة، وذكرى نزول أول آية في القرآن، و ذكرى نزول آخر آية في القرآن وذكرى و ذكرى.. ” الخ. يتذكرونها بما لا يخرج عن مبادئ الدين الحنيف فرحين مسرورين متعظين معتبرين.

والاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس معناه جواز الاحتفال بغيره من الأنبياء أو الأولياء إذ لا قائل بهذا من علماء الإسلام، إذ ليس لأحد من الأنبياء أو الأولياء ما للرسول من المنزلة العليا والأفضلية الكبرى. فليس أحد منهم رحمة للعالمين كالرسول، و ليس أ-حد منهم أسوة حسنة كالرسول، وليس أ-حد منهم فاز بالاصطفاء الذاتى لرب العالمين إذ خصه الله تعالى بأنه حبيبه و مصطفا ه. و ليس أحد منهم أبيح له ما أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم من تعدد الزوجات، وما فرض على أحد منهم قيام الليل حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت لأحد منهم أنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه. و ليس أحد منهم قال عن نفسه مثل ما قاله صلى الله عليه وسلم عن نفسه لما كاد يواصل صـيام رمضان ونهى الصحابة عن هذا الوصال، فقال:” لست كهيئة أحدكم إني أبيت عند ربى يطعمني و يسقيني” (56-ب) و ليس لأحد منهم المقام المحمود و هو مقام الشفاعة الكبرى التي خصه الله تعالى بها بين سائر الأنبياء و المرسلين والخلق أجمعين.(57)

فلنحتفل بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه ولنكف عن اعتبار احتفالنا بذكريات الرسول صلى الله عليه وسلم هو رخصة نمر منها لجواز الاحتفال بغيره من الأنبياء أو الأولياء.

أيها السادة ، إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لذاته الجسمية وإنما هو لروحه الملكوتية العلوية فنحن لا نحب النبي صلى الله عليه وسلم لذا ته وإنما نحبه لربه. و قد بين صلى الله عليه وسلم كيفية وأسباب حبنا لله وحبنا لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ” أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي”(58). فنحن لا نحبه لأنه محمد بن عبد الله ولكننا نحبه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحبه لأنه مبلغ عن الله تعالى، وأنه حبيب الله عز وجل، و نحبه لأن محبته طاعة لله سبحانه و تعالى.

إن الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال و تذكر لنعم الله كما أمر الله أن نتذكرها و نشكرها. و لذا ينبغي أن يكون هذا الاحتفال مصحوبا بالدروس و العظات و المحاضرات و الندوات و العلم و الذكر و القرآن و البر و الإنفاق و الإحسان و التصافح و التسامح بين الإخوان و لا ينبغي بل و لا يجوز أن تصحبه منكرات و كل ما يتنافى مع الدين.

وخلاصة القول :

1. أن الاحتفال بالمولد مسألة خلافية، و الخلاف-كما سبق- فقه و علم فلا يجوز الإنكار على المسائل المختلف فيها كما قرر ذلك علماء السلف.

2. أن تجاهل الرأي المخالف ليس من فقه الدعوة و لا من أخلاق الداعية و إنما الواجب أن نتعاون في ما نتفق عليه و أن يعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه و شعار العلماء “نختلف و لا نفترق ” فالاختلاف في الآراء و الفهوم لا ينبغي إذ يؤدي إلى الاختلاف في القلوب و بالأحرى إلى التبديع أو التكفير. و لنسم باختلافاتنا فى مثل هذه الجزئيات إلى خلاف التابعين و الأئمة المجتهدين الذين كانوا يختلفون و في نفس الوقت كانوا يتحابون ويتراحمون.

3. أن الاحتفال بالمولد أجازه كثير من العلماء الأعلام و فقهاء الإسلام باعتباره عادة حسنة أو بدعة مستحسنة و استمر العمل به عند المسلمين منذ القرن الرابع الهجري إلى الآن، بما فيهم بعض علماء السلفية النصية كابن تيمية و ابن القيم و رشيد رضا.

4. أن مجموعة من كبار العلماء و مشايخ السلفية المعاصرة يعتبرون الاحتفال بالمولد بدعة ضلالة و يجاهدون في سبيل الله لنشر فتاوى و أسباب وجوب تركها.

5. أن الأمانة العلمية و الاقتراب من النزاهة ما أمكن بالنسبة إلينا- نحن المعاصرين- يقتضيان منا ترجيح ما ذهب إليه كبار العلماء الذين كانوا أكثر علما و تقوى و أقرب إلى عصر السلف من مشايخ و علماء هذا العصر جزاهم الله جميعا بالخير و الثواب.

كلمة الختام:

وبعد، فهذه إشارات خاطفة و لمحات هادفة تذكر و لا تكفي و تحرك الفكر و لا تشفي، لأن الموضوع أكبر من وقته: دقائق محدودة لا تغطي مواضع معدودة تصب كلها في اتجاه واحد هو مشروعية الاحتفال بالمولد أو عدم مشروعيته سواء باعتبارها عبادة من حيث مضمونها: دروس و عظات و تلاوة و أذكار و أمداح و أشعار و صلاة على النبي المختار و إكرام وإطعام، و تضرعات و ابتهالات أم باعتبارها عادة استحسنها فريق كبير من العلماء و أنفق عليها الكرماء و أيدتها الشعوب الإسلامية بحبهم العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم و استنكرتها جماعات و أقلام و جهات اختلفت فهومها و معارفها في الموضوع مع حسن نيتها و صدق قصدها، فالمجتهد- بقواعد الاجتهاد و شروطه- إذا أصاب فله أجران و إذا أخطأ فله أجر واحد كما يفهم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد”(60). ما لم ينكر الوجه الخلافي الذى لا يرى فإن أنكره كان من العابثين و ليس من المجتهدين المأجورين والله أعلم.

فهل لنا أن نتساءل فى هذا الجمع العلمي الإيماني المبارك: لماذا بدأت خيوط التواصل بين مغاربة الأمس و مغاربة اليوم تتلاشى ضمن معارفهم و أخلاقهم و تقاليدهم التي لم تفقد تأييدها إجمالا أو تفصيلا من الشرع الحنيف، و إن كان بعضها يحتاج إلى تهذيب و تشذيب، و بعضها في حاجة إلى استئصال أو تشطيب؟ لماذا فقدت الثقة في العلم و العلماء بمختلف مداركهم و معارفهم و قدراتهم على تأصيل الفروع أو تفريع الأصول و حولت هذه الثقة إلى كثير من الناس غير متعلمين، أو متعلمين غير فاهمين أو متعلمين فاهمين غير عاملين أو متعلمين فاهمين عاملين غير مسلحين بالمشاركة العلمية اللازمة للداعية و المفتي و الواعظ و المصلح؟ هذه المشاركة التي يمثلها عمليا فئات من العلماء و المتخصصين و الباحثين أمثال حضراتكم في هذا الوطن العزيز و تمثلها علميا نظرية البناء المعرفي في الفكر العربي و الإسلامي كما وضحها السكاكي و غيره و التي مفادها: أن الدراسات الصوتية أساس للدراسات الصرفية، و الدراسات الصرفية أساس للدراسات النحوية، ر الدراسات النحوية أساس للدراسات البلاغية، و الدراسات البلاغية أساس للدراسات المنطقية أي الحدود و الاستدلالات، و الدراسات المنطقية أساس للدراسات الأصولية، و الدراسات الأصولية أساس لتحليل النصوص الإسلامية القرآنية و الحديثية و ما يستخلص منها من أحكام عقدية و فقهية وسلوكية الخ. هذه النظرية التي تبناها الفكر الغربي في أمثال حيسبريس و غيره منذ أكثر من سبعة عقود. فهل هذه المجموعة من الأدوات المعرفية التي تساعد على فهم النص القرآني. أو النص الحديثي هي جاهزة في أذهان كثير من أهل الدعوة في الساحات المعاصرة. و ما هذه المفارقات العجيبة في مجتمعنا بلد الإسلام و العلم: علماء بلا متعلمين و متعلمون بلاعلماء؟

وهل أسباب هذا الانفصام بيننا و بين كثير من شبابنا المتعلم و غير المتعلم هي داخلية فتكون منا أو منهم على كل حال؟ أو هي خارجية تتشكل في التسابق للشباب غير المثقف قصد تكثير السواد و جلب الزبناء و تغطية الساحة و تكريس الوحدة المرجعية في الدين و الأخلاق السلفية النصية و السلفية النصية وحدها؟ فإن كانت الأولى فالمشكل مشكلتنا جميعا: علماء و شباب، وعلينا أن نفكر في أسباب علاجه المادية و المعنوية والتنظيمية؟ وإن كانت الثانية فالمشكل مشكل جهات الدعوة كلها و ضرورة توحيدها من جمعيات العلماء ورابطة العلماء و الجماعات الإسلامية مادامت كلها تجاهد في سبيل تحقيق هدف واحد هو الدعوة إلى الله بلا خلفية مادية و لا خلفية سياسية و لا خلفية شخصية أنانية.

واسمحوا لي- حضرات السادة- فأنا لا أوجه و إنما أطرح كما تطرحون و أقترح كما نقنرحون. و السلام عليكم و رحمة الله.

البشير المحمودى

هوامش التوثيق

  1. التعريفات ص 39
  2. انظر جامع بيان العلم للحافظ ابن عبد البر، و فقه الدعوة لعبد الحميد البلالى

3-       الفتاوى ج 3 ص 227

4-       الاختلاف عند العلماء: لمحمد بن صالح العثيمين

5-       أصول الففه ص 384 محمد أبو زهرة

6-       فقه الدعوة عبد الحميد البلالى

7-       نفس المصدر

8-       نفس المصدر

9-       أ) رواه البخاري و مسلم وغيرهما

(-9ب) رواه أبو داود فقط بهذا اللفظ

(9-ج) أنظر الحلية لأبى نعيم، و مناقب الشافعي للبيهقى

10-    محبة الرسول بين الأتباع و الابتداع، عبد الرؤوف محمد عثمان الرياض

11-    الاعتصام ح ا ص 178

12-   انظر الموسوعة الحضارية العربية و الإسلامية، مجلد 3 مباحث د. محمد عمارة

13-   الآية 275 أ البقرة

14-   ا لآية 95 ا لمائدة

15-   رواه إلامام أحمد في مسنده

16-   نفس المصدر

17-   الموسوعة العربية والإسلامية مجلد 3

18-   رواه البخاري و مسلم و أصحاب السنن

19-   دروس في المنهج. عبدالله العبيلان الرياض

20-   أعلام الموقعين ج 1 ص 137

21-   الموسوعة الحضارية العربية والإسلامية مجلد 3

22-   الفتاوى لأبن تيمية خ 11، أعلام الموقعين لأبن القيم

23-   رسالة العبودية لأبن تيمية

24-   أعلام الموقعين ج 1 87-88

25-   نفس المصدر

26-   انظر إتحاف الأذكياء بجواز التوسل الأنبياء و الأولياء لعبد الله بن الصديق

             -انظر شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، ليوسف النبهانى

-انظر إظهار العقوق في الرد على من منع التوسل إلي الله بالنبي والولي الصدوق, للشيخ محمد بن المصطفى الحسنى

-رسالة الشيخ الطيب بن كيران في الرد على بعض الوهابيين بأمر من السلطان سليمان العلوي

            (26–ب) موسوعة الندوة العالمية للشباب المسلم، دور ة 1971 الرياض

– أنظر كذلك رسالة إلى إخواننا علماء نجد ليوسف بن السيد هاشم الرفاعى مكة

27-   الإسلام والدولة: حالة المملكة ع السعودية, د. أيمن ياسينى

28-   انظر الصواعق الإلاهبة في الرد على الوهابية, للشيخ الدجوى

– انظر مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد بدع النجدي الذي أضل العوام: استنبول تركيا

29-   رواه الأمام أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن عبدالله بن مسعود موقوفا

30-   التحذير من البدع ص 3-4

31-   انظر محبة الرسول بين الاتباع والابتداع

– السنن و المبتدعات لعبد السلام الشقيرى

32-   طبعة بالأوفسيت استنبول تركيا

33-   طبعة بالأوفسيت استنبول تركيا

34-   نفس المصدر المشار إليها

35-   انظر التحذير من الاغترار بما جاء في كتاب الحوار للأستاذين عبدالكريم مراد و عبدالحى العمراوى

36-   انظر المتصوفة وبدعة الاحتفال بالمولد, أحمد الخريصى

37-   اقتضاء الصراط المستقيم ص 297

38-   9الفتاوىج 22 ص 523

39-   التحذير من الاغترار

40-   انظر فتح الباري

41-   فتاوى الشيخ رشيد رضا ج 4 ص 1243

42-   شرح القسطلانى على صحيح البخاري

43-   السيرة الحلبية

44-   الآية 58 يونس

45-   الآية 107 الأنبياء

46-   رواه الحاكم في مستدركه عن أبى هريرة

47-   تفسير الألوسى

48-   انظر السيرة النبوية والآثار المحمدية المطبوع على هامش السيرة الحلبية


نص المحاضرة التي ألقيت في مقر المجلس العلمي
بمراكش بالتاريخ 07 يونيو 2000 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى