تغييرنا للنفس رهين بقوة النفس، والثقة في القدرة، وعزم في الإرادة. والأمثلة التالية توضح ما هو إيجابي يستعمل في الشحد وما هو سلبي يجتنب من أجل دعم القدرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد الفاتح الخام وعلى آله.
أمثلة لتغيير ما بالنفس أولا:
المثال أول :
يحكى أن عملاقاً بلغ من القوة ما يدهش ويحير ، وطبقت شهرته الآفاق ، وترامت أنباؤه حتى وصلت إلى عملاق آخر في بلد قريب ، فأحب أن يتعرف على ذلك الذي يتحدث عنه الناس ، فأرسل إليه رسالة لطيفة يطلب وده ويعرض صداقته ، ولكن خاب ظنه حين جاءه الجواب القاسي ينهاه عن التطاول فوق مرتبته …..
فصمم على الانتقام لشرفه من هذا المغرور الذي أساء الأدب في رده . فخرج يسعى إليه حتى وصل إلى مشارف أرضه . ولما سمع المغرور وقع أقدام خصمه تهز الأرض خارت قواه وتغير لونه ، وأدركت امرأته حاله ، فأشارت عليه أن يندس في الفراش ، وألقت عليه دثاراً … ولما وصل الخصم الهائج سألها عن الوقح المغرور الذي لا يعرف قدر الناس ، حتى يعرفه نفسه ، ويعلمه كيف يكون جواب الناس .. فطلبت منه ألا يرفع صوته حتى لا يوقظ الطفل النائم ، وأشارت إلى قدميه وقد برزتا من تحت الدثار . فلما رآهما ، هذا الذي ما عرف قلبه الخوف ، صمت قليلاً كأنما ألقي عليه دلو من الماء البارد ، ثم قال في نفسه :
طفل … ؟ ! فكيف يكون الأب إذاً … ؟ ! ثم أطلق ساقيه للريح عائداً من حيث أتى .
حين نسمع هذه الأسطورة قد نعرف أنها أسطورة ، ولكن مع ذلك نتفاعل مع أحداثها لأن أحداثها خاضعة لسنن نفسية . هذه الأسطورة مخترعة ، ولكن هذا الاختراع يدل على المفاهيم التي في نفس مخترعها ، سواء كانت قيم هذه المفاهيم سامية أو وضيعة . فبدلاً من أن تُبرز القصة أو الأسطورة خنوع الإنسان للقوة ، كان يمكن أن تبرز استعلاء الإنسان بالحق ، كما في قصة السحرة مع فرعون كيف أنهم كانوا يقولون في أول النهار :
« بعزة فرعون إنَّا لنحن الغالبون » الشعراء – 44 .
حتى إذا أتى عليهم المساء رأيتهم يواجهون طاغية الدنيا بقولهم :
« لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا » طه – 72 .
فالقصة التي ذكرناها تبين الدافع الخلقي لمل بالنفس عند المجتمع ، الذي من تراثه هذه القصة ، فتبرز روح الاستكبار في مواقف القوة ، وروح الخنوع عند الضعف إذ هما متلازمان . أن المستكبر حين يفقد القوة يذل ، والإنسان الحق لا يستكبر عندما يملك القوة ، ولا يذل عندما يفقدها .
وإذا تذكرنا قصة النبي يوسف عليه السلام ، نجد فيها مغزى رائعاً حيث يمثل الإنسان الذي يملك القوة أمام سلطان الشهوة ، بينما الكتب القصصية في الحضارات الأخرى تدور حول الإنسان الذي تعصف غرائزه بإرادته .
لندع هذا ولننظر إلى سلوك الإنسان في الأسطورة التي ذكرناها . إذ المهم في الموضوع : هو خضوع سلوك الإنسان لما بنفسه مهما كان هذا الذي بالنفس . إن الشجاعة والجبن ، والإقدام والهزيمة ، كل هذا يتعلق بما بالنفس ، فإذا تغير ما بالنفس يتغير حالاً سلوك الإنسان ، ولا يعود يملك سيطرة على قواه ، ويخضع خضوعاً مطلقاً لسلطان ما حل بنفسه . فمن يملك القدرة على تغيير ما بالنفس يملك أن يغير ما بالقوم .
ففي الأسطورة غيرت المرأة بذكائها ما بنفس العملاق ، فتغير وضعه حالاً ، كأنما حدث كبس على زر ، فإذا المروحة دائرة ، وإذا الرَّجُلُ يرتجف وهكذا … ويمكن أن يشاهد مثل ذلك في سلوك العالم الإسلامي في كثير من تصرفاته …
ولنذكر حادثة أخرى ولكنها واقعية إذ هي من السيرة النبوية الشريفة ، لتعطينا مثالاً حياً عن سلطان الإنسان الذي يملك القدرة على تغيير ما بالأنفس ، فإذا ما بالأقوام يتغير حالاً .
المثال الثاني :
قال ابن قَيِّم الجوزيَّة في زاد المعاد ، في حديثه عن غزوة الخندق :
« ثم إن الله عز وجل ، وله الحمد ، صنع أمراً من عنده خذل به العدوَّ ، وهزم جموعهم وفلَّ حَدَّهُم . فكأن مما هيأ من ذلك ، أن رجلاً من غطفان يقال له نُعيمُ بن مسعود بن عامر رضي الله عنه ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني أسلمت فمرني بما شئت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد فخذل عنَّا ما استطعت فإن الحرب خَدْعةٌ . فذهب من فوره إلى بني قريظة ، وكان عشيراً لهم في الجاهلية ، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قُريظة إنكم قد حاربتم محمداً ، وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا استمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم . قالوا : فما العمل يا نُعيم ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم مضى على وجهه إلى قريش وقال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم قالوا : نعم : إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم ، من نقض عهد محمد وأصحابه ، وإنهم راسلوه ، أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك . فلما كان ليلة السبت من شوال ، بعثوا إلى يهود : إنَّا لسنا بأرض مُقام ، وقد هلك الكُراع والخُفُّ فانهضوا بنا حتى نُنَاجزَ محمدا . فأرسل إليهم يهود : إن اليوم يوم سبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا فإننا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش : صدقكم والله نُعيم ، فتخاذل الفريقان ».
« ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً » الأحزاب – 25 .
هذا أسلوب في تغيير ما بأنفس القوم في موضوع معين ، ليتغير موقفهم . وكان هذا العمل بإشارة واضحة من الرسول صلى الله عليه وسلم . وكان المنفذ متقناً للعملية مستغلاً للظروف ، ولعلمه بالتاريخ الماضي والحاضر للمشكلة التي يعيشها ، ولاسيما مع صلاته الخاصة السابقة مع الفريقين ، كل ذلك مع تقدير جيد للموقف الذي عليه بنو قريظة وقريش ، مكنه أن يؤثر بما بأنفسهم التأثير المناسب الذي يقتضيه الموقف ، فكان نجاحه بارعاً .
إن قصة نعيم بن مسعود نموذج واضح جداً على استغلال قدرة تغيير ما بالأنفس لتغيير المواقف .
المثال ثالث :
وفي هذا العصر ، أخذت العقول البشرية تهتم بهذا الموضوع للوصول إلى نتائج إيجابية بجهود قليلة ، لا تحتاج إلا إلى مهارات في معرفة نفسية الأقوام وتاريخهم ، وما يمكن أن يقبلوه بسهولة ، أو يرفضوه دون تردد ، وتوجيه ذلك كله لصالح المشرف على عملية التغيير .
أجل إن الذين يتنازعون الإشراف على هذا العالم ، وتسييره وفق الجهة التي يريدونها ، أخذوا يولون هذا المجال ما يستحقه من اهتمام . جاء في كتاب مناهج السياسة الخارجية :
« ولكن الدبلوماسية ، بما فيها دبلوماسية أمريكا ، لا تستطيع أن تفعل شيئاً أكثر من استغلال إرادة رجال الدول الأجانب للتوصل إلى الأهداف . ويجب على أمريكا لخلق هذه الإرادة أن تستغل جميع وسائل السياسة الخارجية ، بما فيها الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية والنفسية » .