وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، رسالة سامية للمشاركين في الاجتماع العام للطريقة التجانية الذي افتتح يوم الأربعاء 27 يونيو 2007 موافق 11 جمادي الثانية 1428 هـ بمدينة فاس. وفيما يلي نص الرسالة الملكية التي تلاها السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
“الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
أصحاب الفضيلة،
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي ابتهاجنا، أن ينعقد هذا الاجتماع المبارك الهام، على أرض المملكة المغربية، في هذا اللقاء الذي يضم صفوة من أتباع الطريقة التجانية والمنتمين إليها، لتدارس شؤونها والقضايا المتعلقة بزواياها، عبر العالم الإسلامي بل والعالم كله.
وإن رمزية المكان، الذي اخترتموه لملتقاكم، وهو مدينة فاس لتضفي على لقائكم جوّاً روحانيا مشرقا بنفحاته الربانية. ذلكم أن هذه المدينة ظلت منارة إشعاع للثقافة الإسلامية عبر العصور، بفضل جامعة القرويين العريقة، التي ما فتئت محجا للعلماء، وملتقى لأقطاب الصوفية والمريدين. ويحتضن ثراها رفات مئات الأولياء والعلماء والصلحاء، عبقا بذكرهم الطيب وآثارهم الشامخة. ومن بينهم مؤسس الطريقة التجانية وعلمها الأنور، العارف بالله الأشهر، الشيخ سيدي أحمد التجاني، رضي الله عنه، الذي ما يزال ضريحه فيها مزاراً موقراً للوافدين عليه، من شتى بقاع العالم.
لقد اتخذ هذا الولي الصالح مدينة فاس، داراً له ومقرّاً لزاويته الأم ، ومحجا لمريديه بعد طواف علمي وصوفي في غيرها من البلدان. فكان اختياره لها راجعا إلى اعتبارات علمية وروحية واضحة لديه. وعندما وفد إلى هذه الحاضرة، تلقاه سلفنا المنعم، السلطان المولى سليمان بالترحيب والتوقير، وأحاطه بكريم العناية والتبجيل، على المعهود في أسلافنا الميامين، من رعاية العلماء والصالحين.
ومنذ ذلك الحين، وملوك الدولة العلوية الشريفة، المتعاقبون على عرش المغرب، يرعون مشايخ الطريقة التجانية، ويصدرون ظهائر توقيرهم، ويمدونهم بأسباب القيام بنشر التربية الروحية، وترسيخ قيم الإسلام المثلى، ومكارم أخلاقه العليا، في أوساطهم الاجتماعية، وبخاصة في بلدان الساحل والعمق الإفريقي، حيث يتشبث هؤلاء الأتباع بتلك الروابط، مقرّين بإمارة المؤمنين التي يمثلها ملك المغرب.
كما كانوا يرسخون، في نفس الوقت، صلات الأخوة والتضامن الإفريقي، بين المغرب وأشقائه. ولا عجب في ذلك، فقد ظل المغرب، ولله الحمد، على مدى العصور حصنا حصينا للإسلام السنّي الوسطي، الملتزم بمذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، إمام دار الهجرة، ومشرق الهداية المحمدية على الدوام. وقد ظل هذا البلد الأمين، راعيا للطرق الصوفية السنية، البعيدة عن البدعة والشعوذة والغلو في الدين. والتاريخ يشهد بأن المغاربة، صوفية وعلماء وصلحاء، قد جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، في توازن وانسجام وتكامل والتحام.
وقد كانت الطريقة التجانية من هذه الطرق الصوفية، التي قامت على أساس الالتزام باتباع الشريعة والسنة المحمدية، والتربية الروحية والتزكية النفسية. مما جعلها تحظى بالإقبال الواسع على موردها الشرعي الصافي، من العلماء وغيرهم، لتنتشر في القارة الإفريقية وفي العالم أجمع عبر ألوف الزوايا المعروفة بإشعاعها. فنشرت الإسلام في ربوع إفريقيا، وأنقذت الملايين من أبنائها من ظلمات الوثنية والجهالة، وفتحت قلوبهم لتلقي أنوار الهداية الربانية.
فتاريخ الإسلام بإفريقيا، ولاسيما في بلدانها جنوبي الصحراء، يؤكد أن هذا الدين لم ينتشر إلا بفضل مشايخ الطرق الصوفية والتجار المسلمين المغاربة الأتقياء، والدعاة بالتي هي أحسن إلى مكارم الأخلاق، وفي مقدمتهم شيوخ الطريقة التجانية وأتباعها، الذين أشاعوا بين المسلمين في هذه الربوع فضائل الإسلام، في الطهارة السلوكية والانضباط، والالتزام بالفرائض، والمواظبة على ملء الوقت بالذكر، والالتزام بالجماعة، والترفع عن الضغينة، والعفو عند المقدرة والتسامح والتعايش مع الغير، والتصافي والصفح الجميل، والتنافس في أعمال البر وترسيخ وشائج الأخوة الدينية، حتى إنهم كانوا يتنادون بينهم بلفظ “الأحباب”.
كما أنه بفضل هذه الطريقة صمد المسلمون في هذه البلاد في وجه الغزو الاستعماري والإلحادي، وظلوا بعيدين عن التطرف والانغلاق والغلو في الدين. فامتلأت ألوف الزوايا والمساجد بالمؤمنين منهم، عامرة بتلاوة القرآن الكريم وأوراد الذكر ووظائفه. وبذلك غدت هذه الطريقة منهجا تربويا فعالا، مشعّا بالهداية والتوجيه على هدي السلف الصالح.
وتلكم حضرات السيدات والسادة الأفاضل الرسالة الأخلاقية والتربوية السامية، التي تعملون اليوم على خدمتها اتباعا لهدي أسلافكم، من أجل توسيع دائرة انتشارها، وترسيخ مبادئها وقيمها ولاسيما في عصر اهتزت فيه القيم الروحية، ووقع التشكيك في المرجعية الدينية، بفعل طغيان النزعات المادية، والانجراف مع الشهوات الرخيصة.
وإن المغرب، الذي يستقبل اليوم، فيكم حضرات السادة المشايخ والمريدين التجانيين، من كل حدب وصوب، شموعا مضيئة على درب التقوى والصلاح، والهداية الربانية إلى كل خير وفلاح، لعازم على أن يبقى وفيا لتراثه الروحي الحضاري، حريصا على أن يظل هذا البلد الأمين قطبا للطريقة التجانية، مدعما ومسانداً لكم في العمل على مدّ إشعاعها، خدمة للتضامن الإسلامي المغاربي الإفريقي، جاعلا منها أحد أعمدة الوحدة الإفريقية وآلياتها التربوية.
وإننا لنستحضر في هذا السياق، انعقاد الدورة الأولى للطريقة التجانية، منذ أكثر من عشرين عاما، بهذه المدينة بالذات، في عهد والدنا المنعم، جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه، الذي أحيى سنة أسلافه المنعمين، في رعاية مشايخ هذه الطريقة على أفضل مثال.
وبوصفنا أميراً للمؤمنين، وحاميا لحمى الملة والدين، فإننا متمسكون بالحفاظ على هذه الرعاية لكم، والارتقاء بها إلى ما تستحقه من سابغ العناية، حريصين على ترسيخ الروابط الروحية والأخوية بين بلدانكم الشقيقة، وقياداتهـا الحكيمة، وبين المغرب، لا نبتغي من ذلك سوى تحصين الإسلام السنّي السمح، النقي من البدع الضالة، ومن التطرف الأعمى، والتسييس المغرض.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل،
إذا كان اجتماعكم بالمغرب يمثل، بدون شك، فرصة ثمينة للتعارف والحوار فيما بينكم، واستشعار جوهر الرابطة الروحية التي تجمعكم في هذه المدينة، برمزيتها القوية التي لا تضاهى، والمتمثلة في ضريح مؤسس الطريقة، أكرم الله مثواه، والذي هو محج أتباعها من كل بقاع العالم، فإننا نعتبر هذا الاجتماع، بمثابة مرحلة جديدة لتفعيل منهجكم التربوي الروحي، وترسيخ قيم الإسلام في التسامح والمحبة وبذل السلام.
كما أننا سنواصل رعايتكم، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من خدمة المملكة المغربية للتضامن الإسلامي. وهي الأمانة التي نتقلدها، بكل صدق والتزام، بوصفنا أميراً للمؤمنين، متمسكين بها خلفا عن سلف، منطلقين من دعم الوشائج التاريخية القوية الجامعة بين المغرب وأشقائه، ولاسيما البلدان الإفريقية.
وإننا لنتطلع في نفس الوقت، إلى دعم كل أسباب التقارب بين المسلمين، في المشرق والمغرب، وتوحيد كلمتهم، واسترجاع رسالتهم الحضارية، عن طريق تقوية الأخلاق الإسلامية، التي هي الرصيد الذي لا ينفد، لكل تقدم وازدهار، ونهضة واستقرار.
ولن يتحقق ذلك إلا بتفعيل قيم الإسلام المثلى في مجالات العمل المنتج والتعاون الموصول والإخاء الصادق، والانخراط الفاعل في جميع أوراش التنمية البشرية، بكل ديار الإسلام، للقضاء على الفقر والخصاصة والتهميش، وتحقيق العيش الكريم اللائق بالإنسان المسلم، بل وبكل إنسان حيثما كان، رجالا ونساء وأطفالا.
وهذا ما يسهر المغرب اليوم على تفعيله بقيادتنا، في جميع الميادين، متعاونين مع أشقائنا في كل البلدان الإسلامية الأخرى، متطلعين إلى تحقيق التكامل فيما بين دول الجوار، من أشقائنا المغاربيين، على درب الاتحاد البناء، وترسيخ أسباب التضامن والإخاء.
ولا شك في أن للطريقة التجانية، عبر إفريقيا والعالم الإسلامي كله، دورها التربوي في التنمية الأخلاقية والروحية، وتطهير النفوس من نوازع الفرقة والانقسام، وجمعها على الألفة والالتحام. إنها رسالة التصوف المعاصر بكل طرائقه ومشاربه، والهدف الأسمى من كل مناهجه، التي قامت على مداواة النفوس من عللها، وكبح شهواتها. فما أحرى هذه التنمية الأخلاقية والروحية بدعمنا ورعايتنا، في كل زمن كالزمن الذي نعيشه، حيث حاجتنا فيه إلى علاج الأبدان والحفاظ على صحتها، ليست بأولى من حاجتنا إلى مداواة النفوس وتهذيبها. فهذه هي القاعدة الصلبة لكل بناء مجتمعي متماسك متضامن سليم، والمنطلق الأساس لبناء كيان الأمة الإسلامية، كما أرادها الله تعالى أمة وسطاً، ورضي لها الإسلام دينا قيما، وهداية سرمدية.
وإننا إذ نرحب بكم حضرات السيدات والسادة الأفاضل، في بلدكم الثاني المغرب، وفي مدينة فاس، العبقة بتاريخ العلماء والأولياء، فإننا نرجو لكم مقاما طيبا بين إخوانكم وأهليكم، داعين لكم بكامل السداد وموصول التوفيـق.
” قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”. صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.