الخطب

الصوم و التقوى و مجامع أوصاف القلب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *( خطبة الجمعة في موضوع  )*:

 [ الصوم و التقوى و مجامع أوصاف القلب]

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الحمد لله جعل الغاية من فريضة الصوم التحقق بالتقوى فقال و هو أصدق القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

*و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد  أخبر أن التقوى محلها القلب فقال (التقوى ههنا التقوى ههنا وأشار إلى صدره  ) مسلم

* و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حذرنا من عمى القلوب فقال: ( إنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج 46

* ونشهد أن سيدنا و نبينا و مولانا محمدا عبد الله و رسوله بين أن التقوى ليست مظهرا يكون عليه العبد فقال : (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) مسلم. فصلى الله عليه و سلم من نبي أمين، ناصح حليم، وعلى آله وصحابته و التابعين، وعلى من حافظ على دينه و شريعته و استمسك بهديه و سنته إلى يوم الدين.

* أما بعد ، من يطع الله و رسوله فقد رشد و اهتدى، و سلك  منهاجا قويما   و سبيلا رشدا ومن يعص الله و رسوله فقد غوى  و اعتدى، و حاد عن الطريق المشروع و لا يضر إلا نفسه و لا يضر أحدا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا و إياكم ممن يطيعه  و يطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله و سؤله، فإنما نحن بالله و له .

عباد الله :إنما فرض الله علينا الصيام  لنتصف بالتقوى، و التقوى كما قال النبي صلى الله عليه و سلم محلها القلب(التقوى هاهنا) ثلاث مرات و لذلك سنخصص حديثنا في هذه الخطبة عن بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته، ألا فاعلموا أن الإنسان قد اصطحبَ في خلقته وتركيبه أربعَ شوائب فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي ‏الصفات السَّبُعية والبهيمية والشيطانية والربانية‏.‏1ـ فهو من حيث سُلِّط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم‏.

ومن حيث سُلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشَّرَه(شدة الشهوة للطعام) والحرص والشَّبَق (رَغْبَةٌ جِنْسِيَّةٌ قَوِيَّةٌ للجِماعِ )وغيره‏.‏ ومن حيث أنه في نفسه أمرٌ رباني كما قال الله تعالى ‏”‏ قل الروح من أمر ربي ‏”‏ فإنه يدعى لنفسه الربوبية ويحب الاستيلاء والاستعلاء والتفرد بالرياسة والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها بل يدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم ويحزن إذا نسب إلى الجهل. بينما الإحاطةُ بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهرعلى جميع الخلائق من أوصاف الربوبية وفي الإنسان حرص على ذلك‏.‏4ـ ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويُظهر الشر في معرض الخير وهذه أخلاق الشياطين‏.‏ وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة ـ أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية – وكل ذلك مجموع في القلب‏.( الا النبي صلى الله عليه و سلم فقد نزع من قلبه حظ الشيطان) ‏فكأن المجموع في جلد الإنسان‏:‏ خنزير وكلب وشيطان وحكيم‏.‏

فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعه وكَلـَبِه وحرصه‏.‏والكـَلْـبُ هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة واللون والشكل بل بروح معنى السبعية:التي هي الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه، وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر، والسبع يدعو بالغضب إلى الظلم والإيذاء‏.‏والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويُحَسِّنُ لهما ما هما مجبولان عليه‏.‏والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم وإن عجز العقل عن قهرهم(أي الشيطان و الكلب والخنزير) قهروه واستخدموه فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويُرضيَ الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير‏دون أن يشعر.‏وهذا حال أكثر الناس ـ إلا من رحم الله ـ مهما كان أكثر همتهم البطنُ والفرجُ ومنافسةُ الأعداء،(ولذا شرع الصيام لكسر همة البطن و الفرج) والعجب ممن  ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره‏.‏فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه هو الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما . ألم يقل سبحانه في سورة يس : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) فليراقب كل عبد حركاته وسكناته، وسكوتَه ونطقَه، وقيامَه وقعودَه، ولينظر بعين البصيرة فلو فعل لرأى نفسه ـ إن أنصف ـ ليس إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء ولكنه سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً ألم يقل سبحانه في سورة النحل عن الغافلين عن محاسبة نفوسهم و المقصرين في استخدام عقولهم (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)  ويصير رَيْناً مهلكاً للقلب ومميتاً له لذلك قال سبحانه في سورة المطففين (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).

فأما طاعة خنزير الشهوة فتتولد منها صفات خبيثة متعددة: كالوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها‏.‏وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفات أخرى لا تقل خبثا:كالتهوروالنذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعُجْبُ والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها‏.‏وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفات ثالثة أشد قذارة: كالمكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها‏.‏

ولو أن العبد  عكس الأمر و استعان بالصوم وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية‏ لاستقر في القلب من صفات الربانية الملازمة لليقظة القلبية: كالعلم والحكمة واليقين والعفة والقناعة والهدوء والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرافة والمساعدة وأمثالها ، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفات حميدة كالشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها‏.‏

فالصوم الحقيقي ياعباد الله هو الصوم الذي تتولد منه يقظة القلب أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏”‏إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره و ينهاه ‏” و ‏من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ ، وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى ‏”‏ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ‏”‏‏.‏ و قال سبحانه ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) فقد ربط تعالى عدم السماع بالطبع بالذنوب فقال عز من قائل : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) الاعراف  كما ربط سبحانه السماع بالتقوى فقال تعالى ‏”‏ واتقوا الله واسمعوا ” وربط التقوى بالتعليم الالهي فقال”واتقوا الله ويعلمكم الله ‏”‏‏.‏

نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم و كلام سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه و سلم في كل وقت و حين .سبحان ربك رب العزة  عما يصفون ……

الخطبة الثانية

* الحمد لله على نواله و إفضاله، والصلاة  والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، و على آله ، وعلى جميع من تعلق بأذياله ، و نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله و بعد :

 أيها المومنون ، قال صلى الله عليه وسلم ‏”‏ القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق، وقلب مُصَفَّح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يُمِدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يُمدها القيح والصديد فأيّ المادتين غلبت عليه حكم له بها وفي رواية‏:‏ ذهبت به .

ويقول الله تعالى‏”‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ‏”‏ فأخبر سبحانه أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر و التذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا‏.‏و الصوم معين على التحقق بالتقوى، فاجعلوا معاشر المومنين صومكم وسيلة لتحققوا بها واحذروا كدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات ويمنع صفاء القلب ‏.‏فقد أشار صلى الله عليه وسلم بقوله ‏”‏ من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا ‏”‏ أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يُتْبِعه بحسنة يمحوه بها فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراقُ القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نوراً‏.‏فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له . قوم يواصلون الترقي وهم الانبياء و الاولياء و قوم يقاومون التدني وهم عامة المومنين .فاذكروا عباد الله قوله تعالى ‏”‏ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ‏”‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏”‏ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ‏”‏‏.‏ واستعينوا على ذلك كله بالإكثار من الصلاة و التسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق، و الهادي إلى صراطك المستقيم، و على آله حق قدره  و مقداره العظيم. صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، و تقضي لنا بها جميع الحاجات وتطهرنا بها من جميع السيئات، و ترفعنا بها أعلى الدرجات و تبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة و بعد الممات، آمين. و ارض اللهم عن أصحاب رسولك وخلفاء نبيك القائمين معه وبعده على الوجه الذي أمربه و ارتضاه   و استنه خصوصا الخلفاء الأربعة، و العشرة المبشرين بالجنة  والأنصار منهم و المهاجرين، و عن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، اللهم انفعنا يا مولانا بمحبتهم،  و انظمنا يا مولانا في سلك ودادهم، و لاتخالف بنا عن نهجهم القويم و سنتهم،(ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلا  للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم .)

(سبحان ربك رب العزة عما يصفون، و سلام على المرسلين، و الحمد لله رب العالمين).

الخطبة من إنشاء عبد ربه الفقير إلى فضل الله و رحمته :

” ذ. سعيد منقار بنيس”

الخطيب بمسجد ” الرضوان ” لافيليت /عين البرجة/ الدار البيضاء

أستاذ العلوم الشرعية

بمدرسة العلوم الشرعية التابعة لمؤسسة مسجد الحسن الثاني

مفتش منسق جهوي لمادة التربية الإسلامية للتعليم ثانوي متقاعد 

  البريدالالكتروني mankarbennissaid@gmail.com 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى