أجاب الدكتور عدنان عبد الله زهار عن سؤال طرح عليه في تصحيح الأحاديث عند السادة الصوفية:
جاء في تخريج الحافظ محمد الحافظ المصري التجاني لأحاديث كتاب جواهر المعاني اللفظ التالي:” لم يصح من طريق المحدثين وصح من طريق المشايخ”.فما المقصود منه في مصطلح المحدثين وهل يعتمد في التخريج؟
شكر الله لكم الجُهد والمُجاهدة,
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على الفاتح الخاتم،
أما بعد،
ورد علي السؤال الآتي:
جاء في تخريج الحافظ محمد الحافظ المصري التجاني لأحاديث كتاب جواهر المعاني اللفظ التالي:” لم يصح من طريق المحدثين وصح من طريق المشايخ”.فما المقصود منه في مصطلح المحدثين وهل يعتمد في التخريج؟
شكر الله لكم الجُهد والمُجاهدة.
فأقول:
إن للمحدثين والفقهاء مناهج مختلفة في قبول الحديث ورده، مذكورة في كتب المصطلح المعروفة، منها المتفق عليه ومنها المختلف إليه، وقد قسمت ذلك إلى أقسام، كما في مقدمتي لتحقيق كتاب “الذب عن التصوف” ص 22:
النوع الأول: هو التصحيح أو التضعيف عن طريق القواعد الاصطلاحية المقررة في كتب أهل الحديث المتداولة بين الخاص والعام، والتي أغلب الأحاديث المحكوم عليها صحة وضعفا، هي باعتبار موازين تلك القواعد التي تفنن علماء الأمة بالتصنيف فيها والكلام في مباحثها، بما بقي شامة في جبين الثقافة الإسلامية وفضيلة وفخرا للأمة المحمدية، بين الأمم السابقة واللاحقة: أن لم تعرف واحدة منها اعتناء بالرواية وضبطا للمنقولات والمسموعات كما صنع ذلك علماء الحديث، وأسسوا لذلك أسسا عليها قامت أحكامهم على الأخبار والمرويات:
منها: طلب الإسناد، والنظر في حاله وحال رجاله فنقدوا الرواة وبينوا أحوالهم واحدا واحدا.
ومنها: سبر متون الأخبار ومعانيها…وابتدعوا لذلك علما مستقلا وفنا قائما هو “علم المصطلح”…
ومع ذلك اختلفوا في تلك القواعد ولم تكن قولا واحدا لحكمة أرادها الله، فاختلفت أحكامهم على الأخبار تصحيحا وتضعيفا في كثير من المناسبات، وتضاربت أقوالهم في نقد الرجال، حتى قسموا المجرِّحين أقساما: معتدلين ومتشددين وغير ذلك…
وإن اتفقوا على قول من الأقوال أو قاعدة من القواعد؛ اختلفت طرقهم في تطبيقها، بل الناظر البصير يقف على مجموعة من القواعد الاصطلاحية وضوابط التجريح والتعديل خالفها وأخذ بضدها جمع من المحدثين في أحكامهم على الحديث…بحيث يُشعر ذلك بأن هذا العلم الشريف – وإن كان من أعظم علوم الشريعة وأشرفها – فليس القول به واحدا، ولذلك ظهرت مناهج وطرق أخرى لتصحيح الأخبار وتضعيفها غير هذا، نذكر منها:
النوع الثاني: التصحيح والتضعيف بناء على الموافقة أو المخالفة للأصول العامة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية أو قررتها الأصول العامة، بحيث ضعف جمع من الحفاظ أحاديث في أعلى درجات الصحة سندا لمخالفته ومعارضته أصلا قويا معلوما من الدين بالضرورة، كما حصل في حديث خلق التربة يوم السبت المروي في صحيح مسلم([1])، المناقض لعدد أيام خلق السماوات والأرض المذكور في القرآن بأنه ستة أيام، والذي أعله البخاري في “التاريخ الكبير” بأن وهم بكونه من رواية الإسرائليات.
وكذا صححت أخبار على هذا الأساس…
النوع الثالث: التصحيح للخبر لتلقي الأمة له بالقبول، وهذه طريقة معروفة في تطبيقات واختيارات أهل العلم قديما، ومنها الحديث المشهور: “لا وصية لوارث”. الذي هو ضعيف من كل طرقه، لكنه معمول به ومقبول لدى علماء الأمة قديما وحديثا. وموضوعه: المسائل التي شاعت وذاعت بين أهل العلم. وللإمام التهانوي كلام مهم حول هذه القاعدة في كتابه “قواعد في علوم الحديث”، وكذا للشيخ أبي غدة أيضا جمع موسع في كتاب “الأجوبة الفاضلة” للكنوي…
النوع الرابع: التصحيح والتضعيف عن طريق التجربة والواقع، وهو مذهب جماعة من أهل العلم وكثير من الصوفية، وقد اعتمده الإمام الطبراني والنووي والسخاوي…
وقال الإمام محمد بن إدريس القادري في “إزالة الدهش والوله عن المتحير في صحة حديث ماء زمزم لما شرب له”([2]): “هذا الحديث صحيح متنا وسندا وتجربة وكشفا”.
قال المحدث الألمعي سيدي عبد العزيز ابن الصديق الغماري في “الأربعين العزيزية”([3]): “قد أذكر في هذه الأربعين بعض الأحاديث التي لا تبلغ درجة الصحيح والحسن، ولأنها لا تنزل مع ذلك عن درجة الضعيف المنجبر، إما بورودها من طرق تعضدها وترفعها إلى درجة الحسن لغيره، كما هو مقرر في علم الحديث، وإما أن يكون خبرها مطابقا للواقع، وذلك شاهد قوي لصدق راويها وإن لم يكن لها طريق آخر يشهد لها”.
“وقد حكم الحفاظ على كثير من أحاديث الضعفاء بالثبوت لمطابقتها للواقع، وهذا معلوم عندهم مقرر في كتبهم، بل إنهم ربما يعتمدون على التجربة في ثبوت الخبر وجواز العمل به، كما وقع منهم ذلك في حديث ابن مسعود في صلاة الحاجة: اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار، الحديث رواه الحاكم في “المائة” له وغيرها، ومن طريقه البيهقي، وذكر الحاكم أن جمعا من رواته جربوه فوجدوه حقا. قال الحاكم: قد جربته فوجدته حقا”.
“وذكره الحافظ المنذري رحمه الله في “الترغيب والترهيب”([4])، فقال بعد أن ضعف سنده: والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد”.
“وهذا العمل منهم لا شبهة فيه، وهو موافق للمقرر عندهم في المصطلح وعلوم الحديث، وذلك أنهم: قرروا أن الراوي الضعيف الواهي قد يصدق ويأتي بالحديث على وجهه، فإذا ثبت ما يدل على صدقه ورواية الحديث على وجهه صحح حديثه وعمل به”.اهـ.
النوع الخامس: التصحيح عن طريق الكشف والإلهام، وهو مذهب معتبر عند السادة الصوفية وأنكره عليهم أهل الظاهر، وقد نقله العجلوني في” كشف الخفا” وأقره واعتمده، وكذا الحافظ الغماري في “المغير” و”البرهان الجلي”…
وهذا النوع من قبول الأخبار واعتمادها معتمد عند المشايخ فكثر في كثير من المناسبات قولهم: “في الحديث الصحيح عندنا”، أو “وقد صح كشفا” أو غير ذلك…
بل قعّد ذلك الشيخ الكتاني بقوله – رحمه الله – في “الفص المختوم شرح سورة الضحى”: “إن الوحي قد يكون للأولياء كما يكون للأنبياء إلا في التشريع، ومن ذلك: تصحيحهم وتضعيفهم للأحاديث التي يراها غيرهم بخلاف ذلك…إذن ما في الكتاب من أحاديث باطلة وموضوعة وضعيفة فهي عند غيرهم أو على مذهب من مذاهبهم، لا على طريقة السادة الصوفية الكرام…فالإنكار عليهم من هذه الجهة لا مسوغ له ما دام أمرهم اتفاقا بينهم ومعمولا به ومعتمدا لديهم”…
“ثم إن الحكم على الأخبار عن طريق الكشف البحث فيه من أصول أخرى اختلف فيها أهل الظاهر مع أرباب السلوك والكشف…منها: مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاجتماع به يقظة، والتي ألف في الانتصار إليها وإثباتها عقلا وشرعا جمع من أهل العلم، منهم الحافظ السيوطي في “تنوير الحلك برؤية النبي والملك”…وتكلم في جوازها – أيضا – جمع غفير – أيضا – منهم شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في “الفتاوى الحديثية” وغيره”…
“ومن تلك المسائل التي هي أصل الخلاف في مذهب الحكم على الأحاديث بالكشف والإلهام: الخلاف في حدود الإلهام والكشف والتحديث والتكليم، التي وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة في أن الله يكرم بعض أوليائه بذلك، والتي هي صريح دليل السادة الصوفية في جواز تكذيب صحيح الأخبار بما حُدثوا به أو كشف لهم”…
على أن العمل بالتصحيح والتضعيف عند أرباب هذه الطريقة رضي الله عنهم، مشروط بشروط عندهم ومضبوط بضوابط، أهمها عدم معارضته للأصول العامة التي دلت عليها الأدلة الكلية أو اختفت لتقوية أدلتها القرائن الجملية. والموضوع يحتاج إلى وقفة تصور وتصديق…
قلت: وعليه فإن قول سيدي محمد الحافظ المصري: صحيح عند المشايخ يقصد به مشايخ الطريق، وهو عندنا أصح من تصحيح المحدثين، لأن الكشف والإلهام والتحديث وإن صرح جمع من المحققين أنه قد يخطئ إلا أن وقوع الخطإ فيه نادر واحتمال الضعف في ما صححه المحدثون بالطرق المعلومة كثير كبير كما يعلمه ممارس كتبهم، إلا أنه يتوقف التصحيح بالكشف على صحة مقام المكشوف له، ومنهم سيدنا وسندنا أحمد التجاني رضي الله عنه وخلص أصحابه والله أعلم…
([1]) 4/2149 ح 2789 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) ص 188.
([3]) ص 24.
([4]) 1/147.