يعد من خاصة خاصة أصحاب الشيخ، تميز بمحبته الكبيرة والناذرة في جناب الشيخ رضي الله عنه، فسقاه الشيخ من بحر مدده، فكان رحمه الله داعيا إلى الله بالعلم والعمل.
سيدي الحاج علي التماسيني الخليفة الأعظم لمؤسس الزاوية (1815/1844)
هو علي بن الحاج عيسى (شريف حسني) وابن السيدة فاطمة بنت الزين. ولد سنة 1766 م بقرية تماسين (ولاية ورقلة) والتي تبعد 650 كم من الجزائر العاصمة و500 كم من مقرّ زاوية عين ماضي. وامتاز منذ طفولته بحسن السلوك والأخلاق الكريمة وقد ألبس لباس التقوى، واشتهر بحبّه للعلم وقوّة عزيمته في الكدّ والعمل من أجل الكسب الحلال. وشعاره الذي اشتهر به هو: ” اللويحة والمسيحة والسبيحة حتى تخرج الرّويحة”. وهي رموز طلب العلم والعمل والعبادة طيلة الحياة. وقد حذق القرآن صغيرا ودرس الفقه والنحو والصرف بمسقط رأسه. وإن كان مستوى التعليم الذي حصل عليه متواضعا، إلا أنه كان كافيا لأداء واجباته الدينية. ومنذ شبابه مال إلى طريق الصوفية وسلك مسلكهم في الزهد والتقوى وطلب المعرفة. وكان شعاره الذي اشتهر به هو: ” اللويحة والمسيحة والسبيحة، حتى تخرج الرّويحة “. وترمز هذه الثلاثة إلى الحث عن العلم والعمل والعبادة طيلة الحياة. وكان هذا الرجل العملي يفعل ما يقوله ليكون أسوة لمن معه من أولاد وأصحاب. ولا غرابة في ترقيه السريع في سلم المعرفة والحكمة عندما تمّ لقاءه مع العلامة سيّدي محمّد بن المشري سنة 1788 م وأخذه “الأمانة” عنه. وفي هذا الشأن، يذكر أن الشيخ سيّدي أحمد التجاني قد أمر أمين سرّه بالتجوّل في بلاد الصحراء ليبلغ “أمانة ” أودعها إياه إلى من يطلبها منه دون إشعار مسبق. وأضاف قائلا أن صاحبها يكون له شأن عظيم وتكون داره عامرة. وسنة بعد هذه الحادثة، التقى بوفد أهل سوف برآسة المقدم التجاني سيّدي محمّد الساسي القماري، في طريقهم إلى زيارة شيخهم بعين ماضي. فقام بواجب القرى نحوهم ووعدهم بأن يصحبهم العام المقبل عند زيارتهم السنوية إلى مؤسس الطريقة التجانية. وأنجز الله له مقصده وأخذ الطريقة عن الشيخ سيّدي أحمد التجاني في النصف الثاني من شهر أوت 1790 م (1204 ه) بعين ماضي. ولم تمضي 13 سنة من انخراطه في الطريقة التجانية حتى بلغ أعلى المراتب بها وعمره لم يتجاوز 37 سنة، حيث أجازه شيخه بالإطلاق في تلقين أورادها وتعيين من هو أهل لتلقينها، وأجازه بالتربية الرّوحية وأمره بفتح زاوية بتماسين سنة 1803م. وناسبت ترقيته هذه، وفاة سابقه فيها، العارف بالله سيّدي الحاج علي حرازم الذي توفي آخر ذي الحجة 1217 ه ببدر بعد أن أتم مناسك الحج. ولما تكاثر الوافدين عليه في قرية تماسين، وصارت زاويته غير قابلة للتوسعة، أمره شيخه بنقلها حيث يسعه بناء زاوية جديدة. فاختار موقع تملاحت لبناء زاويته الجديدة التى دشّنها سنة 1805 م. ومنذ ذلك التاريخ وهي قطب القاصدين لها من تجانيين وغيرهم طلبا للعلم والتلقين والمعرفة. وإثر وفاة مؤسس الطريقة ووراثته له سنة 1815 كما ذكرنا سابقا، وفدت على زاوية تملاحت الآلاف من المقدمين والمريدين لمبايعته والتماس الدعاء الصالح والتوجيه والنصيحة.
وفي هذا السياق زاره سنة 1823 العلامة سيّدي ابراهيم الرياحي (1766/1850) وبعد المقابلة، بايعه وطلب منه الإجازة الكبرى فأجازه. ثمّ كاتبه بعض كبار المقدمين التجانيين المغاربة من أجل المبايعة والإجازة. فأجاز منهم سيّدي العربي بن السائح صاحب كتاب ” بغية المستفيد ” (1812/1892). وقد أجاز الكثير من المقدمين بالإجازة الكبرى المسماة بالإطلاق، في الجزائر وتونس والمغرب ولنذكر من ضمنهم:
في الجزائر:
· سيّدي الطاهر بن عبد الصادق القماري (م_1850)
· سيّدي أحمد بن سليمان التاغزوتي وابنه سيّدي محمّد
· نجليه سيّدي محمّد العيد (1815/1875) وسيدي محمّد الصغير (1817/1882)
· سيّدي محمّد بن الصديق السائحي بالطيبات
· سيّدي لخضر بن حمّانه القماري و سيّدي عبد الله بدّه القماري
· سيّدي أحمد بن سالم بالبياضة
· سيّدي الطاهر بن بو طيبة التلمساني (م_1878)
· سيّدي ابراهيم البربري من سوق أهراس
· سيّدي عبد الله بده (يجيز 50 مقدما)
· سيّدي محمّد بن محمود بن المطمطية
في تونس:
· سيّدي ابراهيم الرّياحي
· سيّدي عمر العلواني القيرواني
في المغرب:
· سيّدي العربي بن السائح العمري
· سيّدي أبو عبد الله أكنسوسي بمراكش
· سيّدي بوعزة نجل سيّدي علي حرازم الفاسي (يجيز 50 مقدما)[1]
أمّا عدد المقاديم الذين أجازهم بدرجة دون الإطلاق فلا يحصى عددهم وإنما نذكر بعض المشاهير منهم: سيّدي محمّد بن العلمي من لعليا، وسيدي عبد بن عقبه القماري والذي ذاع صيته مولاي احمد عبد اللاوي من ناحية تقرت. لقد عاش هذا الاخير بصحبة سيّدي محمّد الحبيب التجاني نجل مؤسس الطريقة، بزاوية عين ماضي، ما يقرب ربع قرن. وبعد وفاة سيّدي محمّد الحبيب يوم 10 مارس 1853 استطاع استنساخ الكثير من مراسلات شيخ الطريقة ومن الوثائق المختلفة التي تسلمها منه العلامة العارف بالله سيّدي أحمد سكيرج (1878/1944)، الذي في رصيده تأليف ما يزيد عن المئة كتاب في الطريقة التجانية.
والجدير بالذكر هو اتساع سند سيّدي الحاج علي التماسيني في نشر الطريقة التجانية، بحيث يطلق على سنده، السلسلة الذهبية، تسمية توافق الحقيقة المعترف بها لدى الباحثين في شؤون الطريقة والذين يؤكدون بأن سند الإمام التماسيني يمثل 80 % من جملة الاسندة التجانية. يصعب على المرء تحديد حوصلة العمل الجبار الذي قام به الإمام التماسيني خلال ثلاثين سنة في منصب خليفة الشيخ سيّدي أحمد التجاني. ولكن يمكن ذكر ما اهتم به المؤرخون التجانيين:
أعاد سنة 1816 أسرة الشيخ سيّدي أحمد التجاني بما فيهم أبنائه من فاس بالمغرب إلى عين ماضي بالجزائر، وذلك تنفيذا لوصاية شيخه. وأعان نجلي الشيخ، سيّدي محمّد الكبير(1897/1827) وسيدي محمّد الحبيب (1801/1853) في بناء زاوية مزدهرة وعيّن لهم مجلسا من أهل العلم والحكمة والصلاح ليستعينوا برأيهم في إدارة شؤونهم ومصالح الزاوية والعلاقات العامة. ولم تمضي بضع سنوات حتى شاع صيت زاوية عين ماضي في الآفاق، الشيء الذي أزعج السلطات العثمانية ببايليك وهران والجزائر وأثار تفاعلهم للإساءة إلى أبناء الشيخ التجاني.
لما استبانت مؤامرة باي وهران اتجاه نجلي الشيخ سيّدي أحمد التجاني[2]، خلال سنة 1822، قرّر سيّدي الحاج علي نقل النجل الأكبر للشيخ سيّدي محمّد الكبير، إلى تماسين ليقيم مدّة بحضرته، ونقل سيّدي محمّد الحبيب إلى قصر أبي سمغون، بقصد ابعادهم عن محاولات الباي في النيل منهم. واغتاض باي وهران من اعراض سيّدي الحاج علي وانكشفت نيته السيّئة بشنه غارة عسكرية على عين ماضي ولكنها باءت بالفشل. وبعد سنة ونصف عاد أبناء الشيخ إلى زاويتهم بعين ماضي وأعاد باي وهران الكرّة في المخادعة والمكر حتى نجح في اتستدراج سيّدي محمّد الكبير في الخوض في تحالف مزعوم مع بعض قبائل الحشم من ناحية معسكر من أجل محاربة باي وهران لردعه من تجاوزاته. وناشد سيّدي الحاج علي التماسيني نجلي الشيخ بعدم الخوض في هذه المغامرة التي هي مخادعة لهما. فامتثل سيّدي محمّد الحبيب لنصيحة الخليفة التماسيني، وأصرّ سيّدي محمّد الكبير على المضي قدما مستمعا لأقوال المخادعين له. وسار نحو مصيره على رأس ثلاث مئة رجل من أنصاره الأرباع حتى وصلوا قرية سيّدي غريس قرب معسكر. وهناك تخاذل الحلفاء الحشم وتبين للجميع حجم الخيانة والخديعة. وأبى سيّدي محمّد الكبير ومن معه أن ينسحب من ساحة القتال خوفا من عار الفرار، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ونظرا لعدم المعادلة بين الطائفتين لم يكن هناك إلا النتيجة المحتومة لإبادة جماعية.
جعل زاويته بتماسين ثمّ بتملاحت، مركزا تعليميا لتحفيظ القرآن ولنشر العلوم القرآنية والفقهية واللغوية وغير ذلك. وقائمة العلماء الذين أقاموا بزاويته للتعليم طويلة ونذكر من ضمنهم سيّدي التجاني بن بابا الشنقيطي صاحب ” متن منية المريد ” الذي شرحه سيّدي العربي بن السائح.
استصلح أراضي تملاحت (المالحة باللغة البربرية) التي كان يعتقد سكان البلاد لمدة قرون عدم صلاحيتها للفلاحة. وأعطى أروع الأمثلة في العزيمة بتبديل الطبيعة ولم يفارق الدنيا حتى غرس أزيد من أربعة عشرة ألف نخلة. ولمن اتاه يطلب منه تعليمه علم الكمياء، استصحبه إلى أحد البساتين وأخذ المسحة وقلب بها الأرض قائلا له: ” أخدم الأرض تعطيك “.
أنهى سنة 1838 الصراع القائم بين سيّدي محمّد الحبيب نجل شيخ الطريقة التجانية والأمير عبد القادر نجل سيّدي محيّ الدّين الشريف الحسني، من أكابر مقدمي الطريقة القادرية في الغرب الجزائري. وقد حاصر الأمير بجيش يفوق العشرة الآف عسكري، معزز بالمدفعية، قصر عين ماضي حيث تحصّن سيّدي محمّد الحبيب التجاني ومعه ما بين ثلاث مئة وستة مئة رجل قادرين على حمل السلاح. وبعدما طال الحصار ستة أشهر، أرسل سيّدي الحاج علي نجدة إلى ابن شيخه تتكون من عشرة أفراد وبين إلى سيّدي محمّد الحبيب طريقة الخروج من الأزمة بدون إرهاق قطرة واحدة من الدم. ويروي وقائع هذه القضية بإنصاف الأمير سيّدي محمّد نجل الأمير عبد القادر في كتابه ” تحفة الزائر ” الذي طبع سنة 1903 بالإسكندرية في مصر. ويحتوي رقم 96 من مجلة الرؤيا ص_71، على دراسة ماجستير للسيد تلمساني بن يوسف موضوعها: الأمير عبد القادر والتجانية. وعلى كل حال انتهى الخلاف بين الرجلين بمصالحة تامة لا شبهة فيها ويؤكد ذلك رسالة اعتذار بخط يدّ الأمير عبد القادر على ما صدر منه وينسب ذلك إلى وشاية المغرضين والهدايا التي بعث بها إلى سيّدي محمّد الحبيب والتي هي محفوظة إلى اليوم بعين ماضي أقام علاقات طيّبة مع القبائل والأقليات الصحراوية: الاباضية بورقله (بني مزاب)، الشعانبه بورقله ومتليلي، أسعيد أولاد عتبة وأولاد عمر بورقله والحجيرة، أولاد جامع، أولاد عبد الله، أولاد مولات، الرواغه، السوافه وبعض طوائف التوارق. ولم يكن له موقف معادي وهو الحالة الاستثنائية إلا سنة 1839 من قبل الشيخ عبد الرّحمن بن عامر سلطان تقرت الرّابع والثلاثون من الأسرة الحاكمة لابن جلاب. وكان طفلا يحكم تحت وصاية والدته الشيخة لالة عيشوش وجماعة من الاعيان. وكان تدخل سيّدي الحاج علي في هذا النزاع كرها لولا واجبه الشرعي في الدفاع عن “وطنه” قرية تماسين التي كان يحكمها أمير معارض من أسرة بن جلاب، وقد شق فرع أسرة بن جلاب بتماسين عصى الطاعة لسلطان تقرت منذ عصور وكانت الحروب لا تكاد تخمد بين الطائفتين حتى تشتعل من جديد. وقد سجّل عن سيّدي الحاج علي قولته الشهيرة في باب العدى: ” ليس لي عدوّ سوى الشيطان لقوله تعالى: فاتخذوه عدوّا.” والمعروف عن القادة التجانيين أنهم لا يلجؤون إلى المواجهة المسلحة إلا دفاعا عن النفس بعد نفاذ جميع المحاولات السلمية.
قد يكون سيّدي الحاج علي التماسيني قرير العين عشية وفاته يوم الثلاثاء 12 مارس 1844 بما حققته الطريقة من توسّع شرقا وغربا وجنوبا لولا تحيّره من دخول قوات الاحتلال الفرنسية مدينة بسكره (230 كم من تماسين) يوم 04 مارس 1844، أي أسبوع قبل مفارقته لهذه الدنيا. وقد اختار لخلافته نجل سيّدي محمّد العيد الذي كان عمره لا يتجاوز 29 سنة، وابعد ابنه الأكبر سيّدي حميده (60 سنة) الذي أبى أن يرضى بهذا الأمر الواقع رغم الرسالة التي كتبها سيّدي محمّد الحبيب نجل مؤسس الطريقة وبعث نسخا منها إلى كبار المقدمين والأعيان للطريقة في كل مكان. ولم تنتهي هذه الأزمة حتى قدم سيّدي محمّد الحبيب التجاني من عين ماضي إلى تماسين بعد سنة كاملة من تاريخ وفاة سيّدي ا لحاج علي.
[1] أجازه بطلب من سيّدي محمّد الحبيب التجاني، أنظر ص 219 من كتاب كشف الحجاب لسكيرج
[2]أرسل بي وهران إلى أحد مقاديم التجانية بالآغواط يطلب منه التوسط في الاتيان بنجلي الشيخ التجاني ليكرمهم ويتبرك بحضورهم لديه في وهران. وعارض سيّدي الحاج علي هذه الخطة مثل ما ذكرها الكاتب الشيخ أحمد سكيرج في كتابه “كشف الحجاب” لما ترجم للامام التماسيني.
المرجع : كتاب (غرائب البراهين) لابن المطماطية،