تعتبر “صلاة الفاتح” من أشهر الأوراد اللازمة في الطريقة التجانية، وهي من صيغ الصلاة على رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام، وهذا نصها مع الشرح:
الفَـــاتِــحِ لِـمَــــا أُغْـــلِـقَ، وَالخَــــاتِــمِ لِـمَـــا سَـبَــــــقَ،
نَاصِــرِ الحَقِّ بِالحَقِّ، وَالـهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيـمِ،
وَعَــــلَى آلِــــهِ حَــــقَّ قَـــــدْرِهِ وَمِـــقْــدَارِهِ الْعَــــظِـيـمِ،
شرح صلاة الفاتح:
{اللَّهُمَّ}: اِسم من أسمائه تعالى، وهو لفظة الجلالة، وزيدت بميم مشددة في آخرها، دلالة على أنه الاسم الأعظم. وقد ورد في القرآن، ومعناها “يا الله”.
{صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ}: الصلاة المطلوبة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، هي الرحمة المقرونة بالتعظيم والإجلال والتكريم، ومن المؤمنين هي الدعاء له، إتباعا لقول الله تعالى وأداء لحقه العظيم علينا، الذي لا نستطيع أن نكافئه عنه مهما فعلنا، فأقل ما يجب له، الدعاء له.
ولما كنا لا نعرف القدر الواجب لحضرته الشريفة، من رحمة وعظمة عند ربه، رفعنا الأمر لخالقه لأنه أدرى بخصائص الكمالات التي أودعها في ذاته الكريمة، قائلين: “اللهم صل على سيدنا محمد” أي يا الله إنا نسألك أن تترحم وتتعطف على سيدنا محمد، عطفا وترحما يليق بمقامه عندك، وبلغه غاية ما قسمت له في سابق العلم والمراد.
ولفظة السيادة هو حقيق بها، فهو قد ساد الناس بعلمه وبحلمه وبورعه وبزهده وبمكارم أخلاقه التي مدحها الله الحكيم في محكم الآيات البينات، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (سورة القلم: 4)، فأي شهادة أكبر من ذلك، وأي سيادة تعلو على هذا؟! واتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (رواه الإمام الترمذي وقال حديث حسن)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» (متفق عليه).
والأحاديث عن سيادته صلى الله عليه وسلم للخلائق أجمعين ثابتة وكثيرة، ومن كذب بها فحكمه معلوم عند المسلمين، والإقرار بها والعلم بذلك ضرورة على كل مسلم.
{الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ}: معناها: فاتح الرحمات الإلهية، فإن الله فتح به باب الهداية والإيمان للناس، وخير الدنيا والآخرة يجني ثماره بالهداية والإيمان، وليس ذلك مقصورا على زمن بعثته، إذ أن الله قد أخذ على الناس والرسل الاهتداء بهديه منذ زمن (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف: 172) إلى وقت بعثته، وكل رسول أخذ على أمته العهد في إتباعه، وآمنوا به، وصدقوه قبل وقت نشأته ودعوته.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (سورة الأنبياء: 107). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» أو كما قال، وهو فاتح هذه العوالم الوجودية بالظهور من الانغلاق في حيز العدم، قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله يقول: لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت النار» (رواه الديلمي في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنه، وذكره السبكي في شفاء السقام وصححه، وهو مروي في السيرة الشامية. كما ذكره الشيخ ابن تيمية في فتاويه الكبرى)، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته » (رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه، وأقره الذهبي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه).
وهو صلى الله عليه وسلم الفاتح لأبواب الجنة، وهو الفاتح لباب الشفاعة، وهو الفاتح للبعث، وكل خير منغلق على الخلائق حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحا له.
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من؟ أقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» (حديث صحيح رواه مسلم والترمذي)، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة » (رواه مسلم، وهو حديث صحيح ثابت عنده، وعند غيره من الحفاظ). وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شافع ومشفع» (صحيح رواه مسلم والترمذي وغيرهما، كالإمام أحمد وابن ماجة، وقال الزرقاني عنه: حديث حسن صحيح)، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من ينشق القبر عنه» (رواه مسلم والترمذي وغيرهما من أهل الحديث).
{وَالخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ}: فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، أي الخاتم لما سبق من أمر النبوة والرسالة، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ اَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ) (سورة الأحزاب: 40).
وأيضا بمعنى الخاتم لجميع ما سبق في علم الله وإرادته من كمالات خَلقية وخُلقية، ولجميع مراتب الفضائل والمكرومات، ومن شك في ذلك فليراجع إيمانه، أي بمعنى أنه بلغ في مجمل ذلك كله مبلغا لا يدركه أحد من العالمين، ولا يتحقق بمثله سواه صلى الله عليه وسلم، ولذا فهو أفضل خلق الله عند الله، وهو الخاتم على أكمل صور العبودية والخضوع لله، ومن أراد على ذلك دليلا فَلْيَبْكِ على نفسه، ولكن نورد الشواهد تبركا بذكرها، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» (رواه الترمذي وقال حديث صحيح)، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (رواه الإمام أحمد والبزار والإمام مالك في الموطأ بلفظ «بعثت لأتمم حسن الأخلاق») وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» (صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة).
وبكل هذه الأحاديث التي ذكرناها تبركا في هذه الرسالة، لعلمنا بأنها أمور واجبة على كل مسلم أن يعتقدها في الرسول صلى الله عليه وسلم بالضرورة، حتى يسبل الله عليه ربقة الإسلام، ويثبت لدى كل عاقل طالب دليل أنه صلى الله عليه وسلم خاتم لكل ما سبق من كمالات خَلقية وخُلقية من مراتب ومعارف وعلوم عالية، قدرها الله أن تبرز في حيز الوجود.
{نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقِّ}: أي ناصر الله الحق بدين الله القويم الحق، أو بمعنى ناصر دين الله الحق بالحق، وهو الله. فالمعنى الأول مقتبس من قوله تعالى: (إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ) (سورة محمد: 7)، والثاني من قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلِكَنَّ اللهَ رَمَى) (سورة الأنفال: 17).
{وَالهَادِي إِلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ}: فهو صلى الله عليه وسلم الهادي إلى دين الله وشرعه المستنير، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (سورة الشورى: 52)، وقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) (سورة الفتح: 28).
{وَعَلَى آلِهِ}: وفسر العلماء آله بأنها جميع أمته صلى الله عليه وسلم أي أمة الإجابة منهم، وتخص كذلك لأهل بيته وذريته، فهم أهل التخصيص في ذلك، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (سورة الأحزاب: 33)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن يزيد بن حبان، والحديث طويل نذكر منه: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي»، وهم كما قال سيدنا زيد بن الأرقم رضي الله عنه، من حرم الصدقة بعده إلى يوم القيامة.
{حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ الْعَظِيمِ}: أي رحمة تليق به وبأهل بيته وصحابته فأنت أدرى بمقاماتهم عندك وبما قسمت لهم في سابق الأزل، وهي مقتبسة من قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (سورة الأنعام 91)، وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (سورة الرعد: 8).فهل في لفظ هذه الصلاة ما يشين بقدره صلى الله عليه وسلم؟! وهل توجد أي علة قادحة في معناها؟! والحق أنها طوت في ضمن ألفاظها معان يعجز اللسان عن حصرها، وأنى له ذلك أويحصى الرمل أو يعلم القطر والطل.
فما بالك بالنعمة التي انشطرت وتفرعت عنها النعم قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) (سورة النحل: 18)، ولم يقل القرآن “وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها” إشارة له صلى الله عليه وسلم، لأنه النعمة الكبرى التي تنطوي فيها ولها وبها جميع النعم، التي خلقها الله تبارك وتعالى دنيا وأخرى.
والآن يكون قد اتضح جليا جواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة كانت، وبما أن قد بينا شروح صلاة الفاتح وعرفنا الجاهل بجليل معانيها، فلا حرج على كل من أراد الصلاة بها، وهذا هو أدنى ما يمكن أن يقوله منصف للحقيقة عنها، أما نحن أهل التشبت بها، فنعلم أن لها فضلا يجل عن الحصر، مما دفع المنكرين إلى التقول علينا – إثما وبهتانا – بالكفر والخروج عن الدين، وها أنا أبين حقيقة ما أعرضوا عنه جهلا وإضلالا من الشيطان والعياذ بالله، وذلك أنهم سمعوا أن الشيخ التجاني قال عن ثوابها أنها تعدل ثواب ستة آلاف ختمة من القرآن، وقالوا عنه أنه فضلها بقوله هذا على القرآن بستة آلاف مرة، وعلى هذه الفرية أرد بالآتي :
يجب على القارئ الكريم أن يعلم أولا، بأن العلماء دائما لا يتحدثون ولا يناقشون ثواب الأعمال، لأن الأجور مهما كثرت فهي تدخل في سعة الفضل والقدرة الإلهية، لذلك جوزوا واستحبوا العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وذلك لأن العمل بها فيه إنماء وإظهار لحسن الظن بالله المطلوب شرعا. وجميع الفضائل جائز وقوعها من باب الفضل الإلهي، وهو أمر مقرر في القرآن الكريم، قال تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُوتِيهِ مَنْ يَّشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) (سورة الجمعة: 4).
وحتى لا أدع مجالا للمتقولين أنقل ما ذكره إمام المحدثين وشيخ العلماء السالكين الحجة الإمام النووي رضي الله عنه في كتابه الأذكار، ما نصه:
“قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا”.