مقالات

عاشوراء في الميزان

تأتي المناسبات بحمولاتها الفكرية والثقافية وتأتي معها إدلاء الدلاء وحمل الشعارات والسباق المحموم من أجل النفي والإثبات والتوضيح. والأستاذة زينب أبو عقيل تأبى إلا أن تزيل الكؤود وتبسط المعقد وتجلو مرايا الحقيقة فتابع سطور مقالها هذا تخرج بنتيجة الوسطية والجلاء والوضوح.

 

عاشوراء في الميزان، بين ما يصح وما لا يصح.
إن كلمة عاشوراء يراد بها اليوم العاشر من شهر محرم المبارك، والذي كان يوافق عدة مناسبات عقائدية لعدة أقوام مختلفة: يقال بأنها توافق يوم خلق آدم وحواء، ويوم استواء سفينة نوح على جبل الجودي بعد محنة الطوفان. وأهم ما عُرف به هذا اليوم هو نجاة كليم الله موسى عليه السلام وقومه وإغراق فرعون وجنوده في اليم. ويحكي التاريخ أن قريشا كانت تصوم هذا اليوم تعظيما للبيت المحرم وفرحا بكسوته السنوية.
كما صادف هذا اليوم أبشع حدث في معركة كربلاء التي كانت كمينا وفخا نصبه الداهية يزيد بن معاوية لقتل سيد الشهداء الحسين بن علي رضي الله عنه خوفا على كرسي حكمه الأموي.
ومن المؤسف له، أن هذه الفعلة الشنيعة أيقظت الأحقاد وأثارت حمية شيعة علي رضي الله عنه لحد الغلو وتوارث الحقد والأحزان، مما أساء بالدرجة الأولى، إلى الصورة المشرقة للإسلام وإلى اعتداله وسماحته في أعين الغرب.
يبدو أن هناك عاملا مشتركا في هذه المناسبة المتميزة، ألا وهو صوم هذا اليوم، كل حسب اعتقاده. فنرى النبي صلى الله عليه وسلم يطالب المسلمين بذلك ويشجع على صيام ليلته أيضا للقادر والمتفرغ (التاسع محرم) وذلك حين رأى يهود المدينة يصومونه تخليدا لذكرى نجاة نبيهم وقومه آنذاك، فقال صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري: “- نحن أحق بموسى من القوم” وفي ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: “نحن أحق بصومه. فأمر بصومه. ” ولكن سرعان ما خيرهم صلى الله عليه وسلم في ذلك بعد فرض الصيام في شهر رمضان.
لقد أصبحت عاشوراء مناسبة فلكلورية غاية في الغرابة، تجمع بين التوحيد والشرك (ما هو إسلامي وما هو وثني أو مجوسي وما هو مسيحي وبدائي) فاختلط فيها الهزل بالجد والفرح بالحزن والدين بالخرافة خصوصا أن هذا اليوم عُرف أكثر بالشعوذة والدجل والسحر. كما امتزجت فيه النار بالماء وبالدم عند جلد الذات لدى الشيعة واختلطت الآهات بالزغاريد وظهرت على الساحة النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب وتلطيخ الوجه بالسواد تعبيرا عن الحداد.
ويقال إن من ابتدع النياحة في هذا اليوم بالذات عام 352هـ، هو معز الدولة البويهي الذي أمر بغلق الأسواق والمحلات التجارية وشجع النساء والبنات على الخروج إلى الشارع شُعتا، ملطخات الوجه بالرماد والفحم صارخات نائحات تعبيرا عن حزنهن لحادث كربلاء.
والغريب أن لعاشوراء بالمغرب علاقة بأُضْحِية العيد، إذ يُقَطَّع القديد ليُصنع به تمثال يُجَسِّد رأس شهيد كربلاء الحسين رضي الله عنه مع إضافة عظم كتف الأضحية إلى كتف الدمية التي ستُربط بخيط وتُثَبَّت بقصبة على شكل صليب! ويعطى لهذه الدمية اسم “بابا عاشور” على منوال “بابا نويلPapa noël” مع طواف الصبية في الأحياء لجمع العطايا والهدايا واللعب من المتبرعين (مما يدل على تضارب الأفكار والعقائد داخل التراث الواحد)، ومن ناحية أخرى، سرعان ما تُطِل على المشهد روح الحزن متمثلة في مراسيم تأبينية غريبة: تُغسَّل الدمية صبيحة عاشوراء وتُكَفَّن وتُدفن في موكب من النواح والأهازيج التي تحكي قصة الغدر. كقولهم:
بـــابـــا عــــاشـــــور كَــيـْتْـــوَفـــى

ســــــدوا عـــلـيــــه الـــــــدفـــــــة
قـــديــــدة قـديدة منشورة فوق العواد

بــابـــا عـاشور جا يصلي وداه الواد
هـــذا عـاشـور مـا عـلينا الحكام أللا

عــيــد الـميلود كيحكموا الرجال أللا
وإلى جانب هذه الطقوس الغريبة، هناك ما يُسمى بـ”هَـرْمَـة” وخاصة بمراكش وهي شخصية هزلية مخيفة يرتدي صاحبها غالبا جلد خروف العيد (البطانة) ويضع قرونا على رأسه وقناعا على وجهه (وهذا يذكر بالعادات البدائية والزنجية)
وعلى مسرح الأحداث، نرى هنا وهناك “طلاب الكُتَّاب” (الطُّلْبَة) يسرحون في الأحياء بألواحهم وختماتهم القرآنية لطرق الأبواب وجمع المال لفقيه الحي، (كنوع من العشور)
وأخطر الظواهر على المحيط البيئي، هي ظاهرة إشعال النار (الشَّعَّالة) ليلة عاشوراء والتنطيط حولها وتخطيها على الطريقة المجوسية والوثنية، وفي صبيحة يوم عاشوراء، تنتشر ظاهرة رش المارة بالماء (في شكل زَمْزَمَة أو تشبها بطريقة التعميد المسيحية بالماء المبارك: l’eau bénite).
في اعتقادي، أن هذه السلوكيات الغريبة والدخيلة هي من رواسب الفارسية: إذ يطلق الفرس على مثل هذه الشعالة في هذه الليلة بالذات بليلة الوقود، في عيد النيروز، وهي أيضا من رواسب المسيحية المتفشية عن طريق التبشير، وما يُسمى لديهم بليلة النيران في عيد القلندُس (خاصة في أنطاكيا)، وأما عن عيد النيروز الفارسي، فإن عبد الله بن المقفع يقول مؤكدا: “-… وأما عوام الفرس، فكانت عادتهم فيه (النيروز) رفع النار في ليلته ورش الماء صبيحته.” (ويرجح فكرة إزالة الأدخنة والأبخرة من الجو برش الماء بعد إيقاذ النار).
وأما حاليا، وفي عصورنا المتقدمة، فقد تطورت هذه السلوكيات الشاذة لتصبح فوضى مسكوتا عنها، ومهرجانات فلكلورية يُروَّج لها، إلا أن رش المارة بالماء الطاهر أصبح حاليا بالماء القذر يُصب على المارة من فوق الأسطح أو من النوافذ، ناهيك عن ماء التطهير (جافيل) وماء النار (الماء القاطع) الذي يُرش على وجوه الحسناوات وأكياس من الدقيق وحفنات من الطماطم وزنات من البيض، كلها تُلقى على المارة في عشوائية وقلة الذوق (ويُقال أن رمي البيض هو عادة بدائية ترمز للخصوبة، كما ترمز لها عند المسيحيين في عيد ميلاد أمتهم ببيضة الباك المغلفة بالشكولاتة (l’œuf de pâques). وأما إيقاذ النار في الشَّعَّالة، فأصبح بالعجلات المطاطية (pneus et chambres à air) وبالأواني البلاستيكية التي تلوث الأجواء!!!
ومن حسن الحظ لفترة معينة من الحكم العباسي والأموي أن لعبت السياسة دورا هاما في محاربة مثل هذه الممارسات المشينة، كما حصل لبعض الخلفاء لضرب الفكر الشيعي المتطرف الذي يساهم في إرساء هذه العادات المقززة، كالخليفة العباسي “المعتضد” و”المعز لدين الله” و”الحجاج الثقافي” والأيوبيين بعد زوال الحكم الفاطمي الشيعي آنذاك، إذ بُدِّل الحزن المفتعل بإظهار الفرحة والتوسيع على الأهل وإكرام الصغار بالهدايا وتحرير الصبايا من قيد آبائهم للمشاركة بالأهازيج والترانيم المفرحة.
وأما المغرب فقد عرف كغيره ثقافات وافدة عليه من الجهات الأربع، حتى أصبح تراثه بالنسبة لعاشوراء تراثا جامعا لكل العقائد الخرافية. إلا أن الغالب عليه حاليا في ظروف التوعية الدينية ولوجود كثرة أولياء الله والعلماء والفقهاء الذين يحمون السنة من الشوائب، هي ظاهرة الصوم في عاشوراء والصدقة وصلة الرحم وزيارة الأموات وإدخال الفرحة على الأهل وتبادل الهدايا.
هذا عن عاشر محرم، فماذا عن فاتح محرم؟
إن فاتح محرم هو أهم حدث في هذا الشهر من غيره، لأنه يمثل بإجماع الصحابة رأس السنة الهجرية تخليدا للهجرة النبوية وللتعبئة الدينية لخلق ميلاد الأمة الإسلامية. كان هذا الحدث من حسنات المُلهَم عمر الفاروق رضي الله عنه الذي أبى أن نتشبه بالمسيحية حتى لا يُعبَد النبي صلى الله عليه وسلم فارتأى أن تكون انطلاقة السنة الإسلامية من شهر محرم اللصيق بذي الحجة شهر الحج والمغفرة.
فالحديث يطول إذن عن إيجابيات الهجرة، ولا يسعنا إلا أن ننبهه أنفسنا وإخواننا في كل مكان إلى تعظيم مقدساتنا ونفحات ربنا ونجعل من أحداثنا دروس وعظ ومن مناسباتنا ساعات الفرحة، لأننا أمة التطلع والأمل والتفاؤل وحسن الظن بالله وبالناس.
وأملنا أن يتعرف صغارنا وشبابنا على تراثهم الديني ومعرفة أسماء الشهور العربية، كما يحفظون أسماء الشهور الميلادية، لأن أهم الأحداث الإسلامية تتعلق بها مباشرة: فالقرآن وليلة القدر وغزوة بدر وفتح مكة كانوا في رمضان، والحج وعرفة وعيد الأضحى في ذي الحجة، وعيد الفطر في شوال، والإسراء في رجب، وليلة الرغائب والمقادير في شعبان، والمولد النبوي في ربيع الأول، والهجرة وعاشوراء في محرم…
هذه هي حياتنا التعبدية، عبارة عن نفحات ربانية متمثلة في مسيرة من التحركات والأحداث والأفراح والتطلع للأفضل والأسمى والأرقى في كل شيء، فما علينا إلا اتباع هذا الدين القويم الذي علمنا كيف نتدين برقي وكيف نحيى في سعادة روحية عالية، وكيف نحترم هويتنا المتميزة ونعلن عنها بسلوكيات متحضرة وبمدنية راقية دون فوضى ولا عشوائية، ولا تسيب ولا رجعية، ولا تشدد ولا مغالاة، لأن أثر سلوكنا أقوى من أثر كلامنا، ولأن صوت فعلنا يغطي على الكلام والدردشة وفض المجالس.
فلنكن إذن، في مستوى المهمة المنوطة بنا داخل منظومة الشرع وتحت مظلة الأدب واللياقة والذوق السليم. ويرحم الله هذه الأمة التي بُعثت لتهذب الأخلاق وتُعيد إلى الفطرة.
السيدة زينب أبوعقيل نجلة الحاج الأحسن البعقيلي رضي الله عنه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى