أعلام الطريقةمقالات

العلامة الحاج مَحمد النظيفي رحمة الله عليه بقلم حفيده حسن بن عبد الواحد بن محمد النظيفي

 

                    أعوذ بالله، السميع العليم، من الشيطان الرجيم

                    لسم الله الرحمان الرحيم، والحمد لله رب العالمين،

                    والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط الله المستقيم.

              أيها الإخوة الكرام

               تحلت بنا ذكرى من أعظم الذكريات، ذكرى مولد الحبيب سيدنا ومولانا محمد الرسول الكريم. وأول ما أبدأ به أن أبارك لكم هذه الليلة المباركة، ليلة مولد النبي الكريم، وأحييكم تحية إسلامية بالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

             وبعد

             اخترت، في هذه المناسبة، أن أتحدث عن الشيخ الحاج امحمد النظيفي، الذي كرس حياته للتقرب من ربه ومن حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام. وسيكون حديثي عن بعض خواطري مما علق بذهني من ذكريات جدي رحمة الله عليه الحاج امحمد ابن عبد الواحد النظيفي. وإني لا أريد أن أضيف كتابة تاريخه، فقد أفرد له العديد من الكتاب الصفحات الطوال من كتاباتهم. ما أريد أن أسجله هو ما ارتسم في مخيلتي من ذكريات الطفولة أو ما سمعته مشافهة من الأعمام والعمات، أو ما وصلني من بعض الفقراء.

            والصورة التي أحب أن أرسمها للشيخ النظيفي رضي الله عنه أنه كان معلما مربيا بالدرجة الأولى والأساسية. ولم يكن له طموح في الظهور أو التقرب من الزعامة والسلطة. هاتان الصورتان روح المربي، والنفور من السلطة هما اللتان ظلتا تشغل بالي من حياة الشيخ الجليل الحاج امحمد النظيفي رحمه الله ونفعنا برضاه.

            لقد بدأ حياته النشيطة بالتدريس والتربية والتكوين، فبعد قيامه بالتدريس في بلدته لمدة من الزمان انتقل نزولا عند انتداب معلمه وشيخه إلى أكركور، وهي أنذان تحت سلطة قائد كنتافة. وهناك برزت أكثر مواهبه العلمية، وقدراته المعرفية واجتهاداته في تعليم طلبته وتكوينهم، الأمر الذي جعل قائد كندافة، وقد أعجب بثقافته الفقهية وتبحره في العلوم الشرعية فقها وأصولا، يفكر في أن يسند إليه مهمة القضاء في قيادته. لكن المعلم المربي لم يكن يرى في نفسه الاستعداد لهذه المهمة، ولا القدرة على تحمل أعبائها وتوابعها. فقد كانت نفسه ترهب جميع المناصب السلطوية. أليس هو القائل في خريدته:

         فلا تك قاضيا وعدلا ومفتيا         عريفا وشرطيا وصاحب حسبة.

         وإن سقت للبلوى فبالله فاستعن      وراع حقوق الله في كل خطـة.

         وكن مقسطا عدلا، ولا تك قاسطا     فتجزى بنيران الجحيم الفظيعة.

  وحينما نتمعن في هذه الأبيات نستشم رائحة المربي الذي يقدم نصائحه لأتباعه ومريديه. فهو يحذر من ست مهام يرى أنها جالبة لصاحبها سوء العاقبة. هي القضاء، والعدالة، والإفتاء، والحسبة، والشرطة، والجندية. ولكنه، وهو يعرف بأن كل هذه المهام ضرورية للحياة، ومن تم فإن الإنسان يساق إلى بعضها مكرها، أو باختياره. وهو يرى أنها بلوى لصاحبها، وينصح من ابتلي بها، بعدة أمور: أساسها الاستعانة بالله والتوكل على الله، ثم مراعاة حقوق الله في كل الخطوات التي يخطوها المبتلى في إنجاز مهامه. والثالثة العدل والإنصاف ومجانبة الظلم والتعدي. فمن ابتلاه الله بأمور العباد فعليه بمراعاة هذه الأمور الأربعة: أن يراعي الله في القيام بواجباته، ويتقن أعماله، ويضبط مواعيد الإنجاز، ويحسن الصنعة على أصولهاالمرعية، ويحسن التدبير. ثم عليه بالعدل وأن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يكون منصفا يعامل الجميع على قدم المسواة لا يفرق بين هذا وذاك. وأن يجتنب الظلم والجور واستغلال المنصب والجاه في التجني على عباد الله.

        واشيخ النظيفي رحمه الله يحذر من الرئاسة والزعامة مطلقا، نراه يقول:

          ولا تقربن أخي الرياسة إنها        تطوف بها الشرور من كل جهة

          فلا تركنن لكعبة الشر والردى      وفر كما يفر من أسد بيشة.

  فهذه نصائحه فكيف تعامل معها في حياته. هل كانت مجرد نصائح أم كانت قناعات طبقها في حياته. هنا نلتمس منهاجه التربوي والذي يعتمد الأسوة والاقتداء. أسوق في هذا المجال ثلاث حالات اقتصرت عليها حبا في الاختصار:

            أشرت من قبل أن قائد كندافة أنه قد وجد في الشيخ الحاج امحمد النظيفي ضالته ليكلفه بالقضاء في قيادته. لكن الشيخ كان يرى أنه لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وأنه ينفر من هذا النوع  من الوظائف، وينفر من كل المهام ذات السلطة. القائد قدر، والشيخ قدر، والله يقدر الأقدار. لم يجد الشيخ من حل أمامه سوى أن يحتال لنفسه، فهو لا يجرأ أن يقول للقائد مباشرة لا، وحياءه لم يسعفه في المواجهة بالرفض، فكان عليه أن يلقى حيلة تنجيه دون أن يغضب مخاطبه. ألهمه الله الاعتذار بكونه والأهل قد نووا ونذروا زيارة الولي الصالح مولاي إبراهيم. جهزه القائد بالمركوب والزاد. ولما وصل إلى مقصوده طلب من مرافقيه العودة إلى أشغالهم، لأن أهله يريدون قضاء بعض الوقت في زيارتهم للولي الصالح. ومن تم راسل الشريف شيخه سيدي أحمد أومحمود، وأعلمه نيته القدوم إلى مراكش. فكانت تلك وسيلته للفرار من مطبة التكلف بالقضاء كما كان يريد القائد الكندافي. وكان ذلك من حظ مراكش بحيث أضحت منذئذ مسكنه ومدفنه.

           والحالة الثانية أقتطفها من معسول الشيخ محمد المختار السوسي رحمه الله، يقول: كان الباشا الحاج التهامي الكلاوي يحترم الشيخ، وهو يقصد الشيخ النظيفي، كثيرا على حين أن الشيخ يعلي عليه الهمة، ولا يتردد عليه، ولا يكثر الشفاعة عنده إلا لماما. بل كان لا يتنازل إلى مجالسة أمثال هؤلاء الرؤساء، رفعة للهمة، وتعلقا بربه في كل شيء. وهكذا اشتغل الشيخ بما يعنيه عما لا يعنيه. انتهى كلام الشيخ المختار السوسي. وبذلك نكون أمام الصورة التربوية، فالشيخ النظيفي رضي الله عنه قد تساوى منه الخبر والمخبر وكأن حاله تردد قول الله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. صدق الله العظيم.

           والحالة الثالثة أنه كان من خاصية الشيخ النظيفي رحمه الله أنه لا يبالي بغير ربه، يضيف الشيخ محمد المختار السوسي يقول عنه: وفيما يتعلق بأخبار المترجم له، وهو يتلكلم عن الشيخ النظيفي، التي تدل على أنه لا يبالي بغير ربه أن شيخنا الطاهر محمد الإفراني زاره سنة 1330 هجرية، يوم ورد مراكش في ركاب الهيبة، فلم يعد السلام معه، ثم أعرض عنه مع أنه قدم إليه هذه القصيدة:

             إذا لفحتك هاجرة المصيف       ففر لحضرة الظل الوريف

         مقام العارف البر المرجى ال………رضا المولى محمد النظيفي.

فهو إما متعبد، أو عاكف على المطالعة والمراجعة، وإما منهمك في الكتابة وتصحيح ما يكتبه.

                وفي صدد هذا الاعتكاف وجدت وأنا أتصفح مخطوطة شرح التخميسات تعليقا أثبته الفقيه السيد محمد بن محمد بن علي الكرنيغي رحمه الله ومتعنا برضاه: قرئ الشرح المبارك بحمد الله ، وحسن عونه على مؤلفه حفظه الله ورعاه في سنة 1339 هجرية، في شهر جمادى الثانية على يد سيادة أخ المؤلف سيدي عبد الرحمان النظيفي، وعبد ربه أسير ذنبه، ومنكسر القلب لفرط عصيانه وغفلته، الراجي عفو سيده وحلم خالقه العلي، محمد بن محمد بن علي جبر الله حاله وحال والديه، وحال أهله. آمين. هكذا كان الشيج النظيفي مع خاصته من أصدقائه وأقاربه يمضي معظم أيامه ولياليه بين الطاعة والصلاة والذكر، وبين الكتابة والمطالعة والمراجعة.

                  غير أن هذا لا يعني أن الشيخ النظيفي رحمة الله عليه كان بعيدا عما يجري في البلاد، وكأن ما تأتي به الحوادث مما لا يعنيه. فعندما عم البلاء البلاد، وثارت ثورة أبي حمارة وما جرته على المغرب من ويلات ومن فوضى تهدد البلاد والعباد،  انبرى الشيخ النظيفي للتعبير عن موقفه من هذه الأحداث فجهر برأيه الداعي إلى نصرة السلطان، نصرة الشرعية الدينية والدنيوية، ومناهضة العصيان، والذوذ عن حمى البلاد وطمأنينة العباد، فألف أرجوزته نصرة السلطان. وهي توسل في عشرين بيتا يقول في مطلعها:

              يا ربنا بفضلك العظيم          وحق ما في المصحف الكريم

              وجاه ختم أنبياء الله           عليه والآل صلاة الله

              وجاه ختم أولياء الله           عليه سحب رحمات الله

             انصر أميرنا على الأعادي         واحم به الدين مع الأبادي

             واجعله سيفا من سيوف الله          يصرم أهل الكفر والملاهي.

وبعد الدعاء للسلطان يختم الأرجوزة بهذه الأبيات:

             وبددن شمل أبي حمارة          وكل فتان وذي خسارة

             ومزقنه أيما تمزيق             بجاه خير الخلق والصديق

            ءامين ءامين استجب دعائي       ولا تخيب سيدي رجائي

            سميته بنصرة السلطان         على أبي حمارة الفتان.

   هي مقطوعة، على صغرها، تركت أثرا كبيرا . فقد اعترض عليها بعضهم بالإنكار، وزعموا أن هدفها التقرب من ذوي السلطان، ورأوا فيها تناقضا مع موقفه الذي ظل يدعو إّليه من الابتعاد من ذوي النفود، وأصحاب الحل والعقد. يقول رحمه الله في ذلك: ولما أبرزت الأقدار هذا التوسل العظيم المقدار طعن فيه بعض أهل الإنكار. وكان جواب الشيخ  رحمه الله أنه لما بلغنا ذلك أنشأنا هذه القصيدة تنبيها له من غفلته ورقدته. تقول القصيدة في مطلعها:

             حمدا لمن وعد بالإجابة        جميع من دعاه بالإنابة

والقصيدة تبلغ السبعين بيتا. فهاتان مقطوعتان تتعلقان بنفس الموضوع في نصرة السلطان. الأولى توسل لا تتعدى أبياته العشرين بيتا. أما الثانية ففاقت السبعين بيتا. فلم جاء الرد أطول، وما الذي دفع الشيخ إلى أن يمطط الرد بخلاف القطعة الأصلية.

وأرى أن نزعة المعلم المربي وفراره من مناطق الشعاع السلطوي هما ما يبرر طول الرد. القطعة الأولى كانت توسلا من فقيه رأى أن الدولة التي هو فرد منها يحفها خطر الفتنة، والفتنة أشد من القتل. أما الثانية فهي دفاع عن قناعاته لذا نجده يبسط الحجج والبراهين الشرعية التي تحتم في نظره نصرة السلطان باعتباره السلطة الدينية والدنيوية. والنزعة التربوية جعلته يوجه الخطاب في القطعة الثانية بصيغة المخاطب، وبصيغة النداء: يا صاح ثلاث مرات، ويا أخي ثلاث مرات، ويا إخواني مرة. وهو ينفي عن نفسه أية غاية دنوية. يقول:

         وليس ذا مني من الفضول         كزعم كل ناهق جهول.

         ولا ابتغاء الدنيا من السلطان      والجاه والرتبة في الديوان.

تالله ما لي غرض في أحد     سوى انتصار ديننا المحمدي.

هو تبرؤ صريح من أربع: البحث عن الدنيا، والتقرب من السلطان، والرغبة في الجاه، والرتبة العليا في الدنيا. وإنما مراده ومقصده انتصار للدين المحمدي. هذا ادعاء في حقه ينفيه عن نفسه ويرد عليه، ويدافع عن قناعته ويبرر موقفه.

              لكن هناك دعوى هزت الأوساط، وبلغت أعلى مراتب الدولة، وتدخل فيها العلماء بالمجلس العلمي بفاس، ولاكته الصحافة والسلطات آنذاك السلطة الشرعية ممثلة في السلطان، والسلطة القابضة على زمام الأمور ممثلة في سلطة الحماية. وانبرى لها ثلة من العلماء منتصرين للشيخ النظيفي أو متهجمين عليه.

                 يقول الشيخ ابن العربي العلوي: كانت قضية النظيفي ذلك أن السلطان يوسف رحمه الله رفع إليه بعض مؤلفات هذا الشيخ وفيها أن صلاة الفاتح من كلام الله القديم … فاستنكر السلطان ذلك واستعظمه إلى الغاية وأحال القضية إلى علماء القرويين ليقولوا فيها رأيهم… وبعد أن تحدث عن اجتماع المجلس العلمي، وبعد أن ذكر من حضر منهم ومن وقع الفتوى، وبعد أن مهد لمقدمات الفتوى يختم أنهم أفتوا بأن معتقد هذا إن كان اعتقده كما هو فهو كافر يستتاب ثلاثا وإلا قتل، وإن كان إنما نقله أو غلط في التعبير عن شيء زوره في فكره فإنه يعزر. ثم يضيف عن مآل الفتوى بأن الجواب ذهب إلى السلطان فبقيت القضية مسكوتا عنها من أجل إلحاح الحاج التهامي الكلاوي، وأفهموا الحكومة الحامية والمحمية أن النظيفي ذو أتباع كثيرين وليس بالسهل أن تمسه يد. فترك وشأنه طلبا لدوام الأمن العام. انتهى كلام الشيخ ابن العربي العلوي. هذه صورة قدمها حاقد على الطريقة وعلى الشيخ النظيفي كما فعل غيره من ذوي الأحقاد.

              وهناك صورة أخرى مغايرة يقدمها الفقيه العلامة باشا دمنات السيد عمر المدني المزواري رحمه الله، يقول: إنه ( أي الشيخ النظيفي) رضي الله عنه ممن له القدح المعلى، ورسخت قدمه في الطريقة المثلى، حسبما يشهد بذلك الخاص والعام، ممن خصص لأهل الله بالمحبة والوئام، فإذا كان مدار الكرامات على اتصاف صاحبها بمتابعة الهدى، وتجنب الردى، والتخلق بأخلاق الرضا، فهذا السيد والحمد لله من المثابرين على المفروضات في أوقاتها، وسائر نوافل البر وأعمالها، آناء الليل وأطراف النهار، أو في الظهيرة والأسحار، جادا فيما يعنيه صادا عما لا يعنيه، حقبا متوالية، وأزمنة متطاولة. من نشأته وشبابه إلى أن جاوز من عمره السبعين، وانتهاز حاله بين أمرين: صيام وقيام على مر الأوقات بأنواع الطاعات، زاهدا في الدنيا معرضا عن أبنائها، قائلا:  قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. ثم يردف السيد عمر المدني عن مصير فتوى علماء فاس بالقول: لما وصلت الفتوى لحضرته اليوسفية دام عزه وعلاه، ناولها لصهره الفقيه العلامة الدراكة الفهامة قاضي مراكش الشريف مولاي أحمد العلوي السوسي حفظه الله. فلما قرأها أخذه الحال وقال بصوت عال: سبحانك، هذا بهتان عظيم. والله والله إن هذا الإنسان ما له نظير في هذا الزمان، مقبل على مولاه، معرض عمن سواه. ففرح السلطان بكلامه وعلم أنه الحق، والحق أحق أن يتبع، فرمى ذلك، دام عزه وعلاه في زاويةالإهمال، وطوى ذلك نسيا منسيا، كأن لم يكن شيئا مذكورا.

              فكيف كان رد الشيخ النظيفي في هذه المحنة التي عمت السهل والجبل وجندت لها أقلام في القطر المغربي وخارجه. هل دافع عن نفسه ورد على منتقديه كما فعل في قضية أبي حمارة؟  لا وكلا. المربي يرسل إلى الفقيه السيد عمر المدني المزواري، حين بعث إليه بنسخة من كتابه النصر الواضح، الذي يرد فيه على علماء فاس وفتواهم أبياتا يقول فيها:

             أليس ولي بكـاف لنـا         فنعم الولي العـزيز النصير

             أليس يرانـي ويسمعني        كـفـانـي السـميع القدير

             فقابل بعفو وصـفح أذى      وكن ضمضميا فنعم الصبور

            وقل حسبنا الله ونعم الوكيل    وفـوض إليـه جميع الأمور

            كفيت، وقيت الردى والعنا     جزيت، منحت المنى والسرور

            وصــل بيــاقوتة أبدا     على المصطفى والصحاب البدور.

 أليست هذه نفحة تربوية داعية إلى الاعتصام بالله وبحبله المتين، وداعية إلى الصبر والعفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان. أوليس هذا موقف من يمتلك اليقين التام الكامل متأسيا بحبيبه الذي أفنى عمره في تمجيده ومدحه سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم. أوليس في رسول الله عليه الصلاة والتسليم الإسوة والقدوة. ألم يقل النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأزكى التسليم حين وجد العداء والاعتداء من قريش ومن أهل الطائف متوسلا إلى ربه:

              اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك  لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

بهذا إذن قابل الفقيه الشيخ سيدي امحمد النظيفي المحنة التي أرادوها له في حين أنه كان عنها غائبا في تعبده وانقطاعه إلى ربه.

               أما كتاباته فقد كانت صدى لتلك الروح التربوية فقراءة شعره تمكن من الإحساس بالحرص على التعليم انطلاقا من الأوزان التي يختارها لقصائده وكلها من البحور الخفيفة السهلة حتى يسهل حفظها على المتعلمين، وكذا من اللغة السهلة السلسة التي كان يكتب بها، ثم من حرصه الشديد على أن يرفق كل قصائده بشروح لغوية معجمية والإكثار من الاستشهادات في جميع الميادين التي يتطرق إليها. تتبعت كتاباته نثرا وشعرا ووجدت هذا الأسلوب السهل العربي الفصيح هو الغالب على كتاباته، ذاك أسلوب المعلم الذي يكون همه أن تصل أفكاره إلى قارئه في يسر ودون عناء كبير.

الغاية إذن تربوية تعليمية وهذا الاتجاه هو الذي ظل يشدني في شخصية جدي الشيخ الحاج امحمد النظيفي. يعلق الأستاذ محمد بنشارف ( الرحماني ) على القصيدة الياقوتة الفريدة بأنها خطاب موجه أصلا إلى الفقراء مريدي الطريقة التجانية وسالكيها، خطاب تم التركيز فيه على المرسل إليه، متلقي الرسالة قصد تحقيق الوظيفتين التأثيرية والتوجيهية. ولم يكن ليتأتى ذلك للمرسل لولا اعتماده أسلوب الإنشاء الطلبي بمختلف مواضيعه، ذلك أن هذا الأسلوب استغرق مائتين وتسعة أبيات من مجموع أبيات القصيدة البالغ عددها خمسمائة وسبع وخمسين بيتا أي بنسبة 37,55%. ومن هذه النسبة يشكل الأمر بصيغتيه المعروفتين فعل الأمر واسم الأمر نسبة 70%، في حين شكل النهي بصيغتيه المضارع المجزوم المسبوق بلا الناهية أو بصيغة المضارع المبني على الفتح لاتصاله بنوني التوكيد الشديدة والخفيفة والمسبوق بلا الناهية نسبة 20%. والباقي توزع بين النداء الوارد بأداة يا المضوعة أصلا لنداء البعيد، والتمني بمشيره الأسلوبي ليت المسبوق بأداة التنبيه يا. فالهاجس التربوي التبليغي يسيطر على كتابات الشيخ النظيفي شعرا ونثرا، وصبغ أسلوبه بالمواجهة إذ كانت غايته خطابية موجهة إلى أولئك المريدين الفقراء على اختلاف مستويات تعلمهم.

           وقال غيره عن أسلوب الخريدة: أما أسلوب الكتاب فلقد اعتمد الإمام النظيفي في ألفاظه وعباراته السهولة والوضوح بعيدا عن التكلف والتصنع، على عكس الكتب الصوفية الأخرى من عرضه للأفكار والتراكيب، والموضوعية والدقة في مناقشة مباحثه حتى جاء كتابا سلسا، جعلت لغته مقبولة حتى عند غير الصوفية.

             وحين موته رضي الله عنه رثاه العديد من الشعراء وأقتصر على أبيات الفقيه ابن إبراهيم شاعر الحمراء رحمه الله:

قضى إمام الهدى والعلم والعمل      قضى الإمام النظيفي كعبة الأمل.

قضى فعم الأسى مركشا وسوى      مراكش من أقاصي السهل والجبل

فاسأل تآليفه تنبيك عنه وعن         علومه فهي مثل العارض الهطل.

وتلك في نظري خير شاهد للشيخ النظيفي تآليف نستشف منها الكثير من ثقافته الصوفية، وتبحره في القضايا الفقهية، وفي الخلاف بين المذاهب، وفي سعة معرفته باللغة العربية وغريبها، وتمكنه من النحو والصرف العربيين. ثم هذه القدرة على تسخير كل ذلك في ابيات شعرية سهلة المنال سلسة عسيرة التقليد.

           فليرحم الله الفقيه الجليل الحاج امحمح النظيفي وليمتعنا نحن حفدته ومن تناسل من أبنائه وبناته وحفدته وأسباطه برضاه إلى أبد الأبدين.

           اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. صلاة تجعلنا بها من الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. آمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

          والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

بقلم حفيد العلامة النظيفي

مولاي الحسن بن عبد الواحد

ابن محمد بن عبد الواحد النظيفي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى