ذكر الشيخ التجاني رضي الله عنه أوصافا دقيقة للسادة الصوفية الذين جمعوا بين نتاج العقل البرهاني، والشهود الروحي في أسمى درجات الصفاء الخالية من أشواب الأوهام جمعها الشيخ مسعود في مزهرية الشذى التجاني
قال الشيخ في جواهر المعاني في أوصاف السادة الصوفية:
(فمن جمع بين صفاء العلم، في أعلى مرتبة من الشهود الجامع لعلم اليقين وعين اليقين، وصفاء العمل، في أسمى مرتبة من الإخلاص، وصفاء الحال، في ذروة الصدق، والحب الإلهي والمحبوبية، فادعه من الربانين، أو قل من الصديقين، أو ادعه ((صوفيا)) فلا جناح عليك، فالمسمى واحد وإن اختلفت الأسماء)
وقال رضي الله عنه:
(السفر إلى الحق عز شأنه، هو حقيقة التزكية، وهو المقصود في صحبة الصالحين والأخذ عنهم، وهو صلب طريق السادة الصوفية رضوان الله عليهم وإن تدرج السالك، من رتبة “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه” في منازل: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل” هو بداية الدخول في طريق الغربة، وطلب الحق غربة، والتحقق بآية (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) حتى يصل إلى مقام المحبوبية “إن معي ربي سيهدين”).
وقال رضي الله عنه:
(وكلما ازداد العبد كمالا، فقد اقترب ممن لا كمال إلا كماله الذاتي المطلق، ونهاية الوصول، التحقق بكمال المرتبة. ولما كان الممكن عبدا لله، فكماله كمال عبوديته لمولاه، وهي أعلى مرتبة في شكر المنعم سبحانه، “وقليل من عبادي الشكور”. وقد قال تعالى “قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى” مثنى: إن وجدت من يعينك في طريق السير إلى ربك عز شأنه، فإن لم تجد، فسر إلى الله فردا، فإن مولاك لا يضيعك. وما أحسن أن يكون الرفيق عارفا بالطريق).
وقال رضي الله عنه:
(إذا تجردت الروح عن الجسد، وخرجت عن نطاق المادة، ثم عن نطاق لباسها البرزخي، ثم لباسها الملكوتي، ثم لباسها الجبروتي، وعن جميع أرديتها، فكانت روحا مجردة عن جميع أستارها، وكافحت الحقيقة بالنور الذي منحها الحق سبحانه، فقد صحت لها المشاهدة. وبدايتها المكاشفة: وهي شهود الحقائق من وراء حجاب رقيق فإذا زال ذلك الستر، زج بالعبد في عين الجمع، وهو الفناء، وليس المراد بالمكاشفة عند القوم، المكاشفات الكونية مما يصح اطلاع فاسق عليه من مساتير الوجود. ويدخل في ذلك ما يراه النائم تنويما مغناطيسيا، وقراءة الأفكار، وما تنقله الجن لمن يصحبونه، وما يصل إليه أهل الرياضات، وإن صح أنه يطلع السالك على ما اطلعوا عليه ولكنه لا يقف عنده. وقد أجمع القوم رضي الله عنهم، على أن من كان همه كشف الغيوب الكونية، والتصرف بواسطة روح أو بالهمة- ويمثل لها في المشاهدة بالعائن – فلا يعتبر سالكا إلى الله تبارك وتعالى. والمكاشفة الحقيقة، إنما هي في مجالي الأسماء الربانية. ومقتضاها الانكسار والافتقار إلى الله، والفرح بالله، والبعد عن الدعوى، والانصباغ الحق بمقتضى الكمالات الحقية).
وقال رضي الله عنه:
(المعرفة: الإحاطة بعين الشيء كما هو. وهي بهذا المعنى لا تصح لمخلوق فالإحاطة بكنه الحق سبحانه ممتنعة عليهم. والمحدود لا يدرك ما هو أوسع منه حدا، فكيف يدرك غير المحدود؟ وقال صلى الله عليه وسلم: – وهو أعلم الخلق بالله – سبحانك أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك وإنما يراد بها: الوصول إلى ما يمكن إدراكه من كماله المقدس عن الحدود، بالتعريف الإلهي الظاهر بالخبر والباطن بالفيض الرباني: والتحقق بالأدب اللائق بنا مع الحق سبحانه. وكل ما ازداد العبد قربا من الحق ازداد علما وخشية، قال تعالى “إنما يخشى الله من عباده العلماء” الخشية الكاملة، والعلماء بالله الذين شهدوا كشهادة الملائكة. السالك سائر إلى ربه بين الخوف والرجاء، فإذا دنا كان حاله القبض والبسط، فإذا دنا كان حاله الهيبة والأنس. وحال السالك في البداية: إني ذاهب إلى ربي سيهدين. فإذا دنا كان حاله: إن معي ربي سيهدين. فإذا أخذه الحق عنه، كان سيره في الله لا يشعر إلا به عز شأنه. فإذا رده الحق إلى وعيه، كان سيره عن الله تعرفا وتصرفا (وما فعلته عن أمري). فرجوعه لنفسه وللخلق لا بنفسه، وإنما هو رحمة مهداة. فالمعرفة أن تكون بالله في جميع حالاتك. وهي مقام الوراثة الكاملة للمصطفى صلى الله عليه وسلم الوراثة الحسية والروحية، والتحقق بالخلافة عن الحق سبحانه (وإنك لعلى خلق عظيم) – “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”).
وقال رضي الله عنه:
(ومن تحقق بلغة الملكوت والقدس الأعلى لا يخفى عليه التجلي الأحدي في السموات والأرض وفي كل شيء، ويدرك الخطاب الأقدس، ويفهم المراد فيه فهو مع الله بالله).
وقال رضي الله عنه:
(فهذا هو الإذن الإلهي الخاص الذي يعنيه الصوفية رضي الله عنهم. وهل يمن الله على عبده فيسمعه النداء بفضله؟ ليت شعري كيف يكون حاله؟ وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبي بن كعب: “إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك – لم يكن الذين كفروا-” قال: وسماني؟ قال: “نعم”. فبكى. رواه الشيخان والترمذي. فلسانهم لسان حق. وقلوبهم، قلوب حق. ويدهم يد حق. ونظرهم نظر حق. فهم الربانيون، حكماء فقهاء. والفقه الحق فقه الأرواح والأسرار. قال تعالى “ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون” ).
وقال رضي الله عنه:
(اعلم أيها الأخ أنه لابد لكل فن من فنون العلم من قواعد يضبط بها فيفزع في مشكلات أحكام كل فن وشوارده وغرائبه ونوادره إلى قواعده فكما للفقه قواعد وللإعراب قواعد تنبني عليه أحكامها ويرجع إليها في ضبط قوانين كل منهما، كذلك لأهل الكشف والتحقيق وعلم الأذواق ضوابط وقواعد عليها ينبني صحيح أمرهم ويعرف بها فاسده من صحيحه ويرجع إليها عند ورود المشكلات والشوارد والنوادر لضبط أحكامه ومقاصده).
2٬543