فقه الطريقة

الأجوبة العدنانية على بعض مسائل الطريقة التجانية / عدنان زهار

أكد سيدي محمد بنسالم بن سيدي أحمد بن سيدي محمد الكبير بن سيدي محمد البشير بن سيدي محمد الحبيب بن سيدي أحمد التجاني رضي الله على الجميع في إحدى جلساته مع الفقراء التجانيين بفاس المحروسة على ضرورة الاهتمام بالفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه ، لما رأته بصيرته النيرة بنور الحضرة الربانية من ضرورة توسيع أفق الفقير ليستطيع وضع نفسه في ما يتطلبه التطور من التسلح بسلاح العلم النافع القاضي بترسيخ قدم الفقير التجاني فيما التزم به.

وتأتي النفحة الربانية المحمدية الأحمدية بعد حوالي ثلاثين سنة من هذا التوجيه لتنفث في العالمين نفحات العارف بالله سيدي بنسالم عن طريق هذا الطود الشامخ في العلم الحديثي والفقهي والأصلي سيدي عدنان زهار، مجيبا عن كل اشكالات الفقراء التجانيين فيما تجشأته جهات معروفة في طريق التوجه إلى الله.

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الفاتح الخاتم،

الأجوبة العدنانية

على بعض مسائل الطريقة التجانية

المحدث الفقيه الأصولي

الدكتور عدنان زهار

وبعد،

بعث إلي محب محبوب بالسؤال الآتي:

بسم الله. والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن شيخنا التجاني.

1 ـ قيد الشيوخ الدخول في طريقهم بالالتزام، فما سندهم في ذلك؟ وهل من أخل بالالتزام عاص؟

2 ـ نريد تأصيلا لضمانات الشيخ التجاني رضي الله عنه لأتباع طريقه المحمدي؟

شكر الله لكم السعي وأثابكم على حسن تواصلكم

فقلت مجيبا له، مسعفا رغبته، مع علمي أنه أحال مثل هذا على مثلي تواضعا منه، وإحسانا للظن بالفقير، ويعلم الله أنني لست في العير ولا النفير:

أما أولا، فمعلوم أن شيوخ التربية هم الورثة الحقيقيون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بموجب قوله عليه الصلاة والسلام: العلماء ورثة الأنبياء“، فعلم النبوة ظاهر وباطن، والوَرثة على هذا التقسيم أيضا، فالوراثة الظاهرة التي قسَّم تركتَها علماء الرسوم قاصرة على ظواهر الأفعال، وهي على أهميتها والحاجة الماسة لها، لا تصل بالسالك إلى درجة المعرفة التي هي موضوع التكليف بالعبودية، كما ألمح إليه سيدنا ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) حيث قال: ليعبدوني ليعرفوني، وذاك مقام الإحسان.

والدلالة على الله لا يسعف فيه إلا سالكوا طريقه، والدالة أحوالهم على أنهم بلغوا مقامات الأصفياء التي تؤهلهم للتسليك بغيرهم في طريق الاستقامة وإبلاغهم حضرة القدس…

وعليه فوراثهم هذه للحضرة النبوية هي الباطنة، والتي تدل على أن لهم قدم صدق على غيرهم وأنهم من المصطفين الأخيار في الإخبار عن الله والدلالة عليه، بما فَتح لهم من فهم في كلامه العزيز غاب ثلثاه عن كثير من أهل الرسوم، ومن كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وبما لاح لهم من فيوضات الكشف وأنوار الإلهام والتحديث التي صرحت الأخبار وصححت الوقائع والأحداث بتخصيص الله من عباده لها من شاء…

فكل ما جاء منهم تبليغ عن الله ورسوله، ولو اختلفت فيه عباراتهم وتباينت فيه مشاربهم، وتعددت في الإرشاد إليه مناهجهم، فكلهم من رسول الله ملتمس، كما أن نصيب الرحمة في التشريع باختلاف الأفعال من الحضرة المحمدية مرة وباختلاف الفهم عنها في الفعل الواحد مرة أخرى قد أصاب مذاهب الشيوخ والمربين والمرشدين، ولو  أنكره من ضاقت حويصلته لإدراك المعنى الواسع للوراثة النبوية…

فإلزامهم الداخل إلى طرقهم بها وبشروطها هو صميم الدين ولب الشريعة، وأصل أصيل في التربية، وباب منيع للاستقامة، إذ لولا أخذ العهود على المريدين والسالكين في مثل هذا، خصوصا وأن الشياطين تحوم حول قلوبهم لتلهيهم عن طريق الهدى، لما بقي للطريق معنى وما بقي للمشيخة فائدة، فإن الذي يقطع على القلب مادة الالتفات إلى السوى عن رب السماء والثرى هو العهد بالالتزام المطلق بشروط الطريقة وآدابها، وتصحيح الدخول فيها بقطع الطريق أيضا عن الالتفات إلى غير شيخها حسما لكل عبث في السلوك…

والدين كله التزام ومعاهدة وبيعة لله رب العالمين وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم بموجب (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)، وما داموا وارثين له فمعاهدتهم معاهدة له صلى الله عليه وآله وسلم، ومصافحتهم للشيوخ مصافحة له صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الذي لم يتحل بإدراكه كثير من المحرومين فيطعنوا في أسانيد التصوف والتربية، وما علموا أن طعنهم في أصل عظيم من أصول الدين الحنيف…

كما أن الجامع الأمثل بين الشيوخ ومريديهم هو الصحبة، وهي شرط قرآني وسني للسلوك في الوصول، وما الصحبة إلى عهود ومواثيق تطوق بها المتصاحبون، أما إذا كان في الله ولله وإلى الله وعلى الله فهي أثقل تكليفا، كما أشا ر إليه سيدي العربي بن السايح في “مقدماته السبعة” من “البغية”…فلتراجع, والمخل بها مخل بأدب من آداب الطريق وقاطع لحبل المودة ومفسد في طريق السلوك…

وينبني على ما ذكر ضرورة، أن المخل بهذه الآداب عاص آثم أشد العصيان وأكبر الآثام، لإخلافه وعدا قطعه على نفسه أولاً جهة الله، ثم جهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جهة ورثته المحمديين، وقد قال الله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وقال سبحانه (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح: “أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر”؛ وكفى بهذا دلالة على خطورة إخلاف وعود أهل الله ونقض مواثيقهم، خصوصا وأنها في الدلالة على رب العزة، فخُلفها انحراف عن صراطه المستقيم… والله أعلم وأحكم

وأما ثانيافالجواب عن تأصيل شرعي لضمانات الشيخ سيدي أحمد التجاني الجنة لأتباعه عام وخاص:

أما الجواب العام، فكونه رضي الله عنه  ما دل إلا على ما جاء به القرآن والسنة، وما أمر إلا بموجب أحكامهما، إذ طريقته مبنية أولا وأخيرا على المعرفة بالله تعالى بواسطة عقد الوجود والأصل في كل موجود سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان ورده مقسما إلى أقسام ثلاثة: الذاكر والمذكور والواسطة، فالذاكر إذا لحظ نفسه استغفر مائة وإذا مر بالواسطة المبلغة القصدَ الأعظم صلى عليها وسلم مائة إلى أن ينتهي إلى المذكور فيهلل مائة، فطريقة الشيخ رضي الله عنه طريقة جامعة بين المعرفة الإلهية والحقيقة المحمدية والذات البشرية وهذه هي الثلاثية التي ينتظم حولها وبها الخطاب القرآني للمكلفين، لمن أحسن التدبر فيه والتعمق في معانيه…كما أن طريقة الشيخ متشددة في ما شدد فيه الشرع كالصلاة وباقي الأركان، والمحرمات والتنفير منها صغيرها وكبيرها، وطريقة الشيخ مبنية على حسن الاعتقاد في الذات الإلهية والصفات الربانية والأسماء الحقانية على مذهب أهل السنة والجماعة الأشاعرة، وقائمة على تعظيم صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكرهم بكل خير والسكوت عما بدر من آحادهم، وعلى توقير آل بيت النبوة سفن النجاة واعتقاد الخير فيهم وفي ذرياتهم إلى قيام الساعة، وعلى احترام جميع أولياء الله وأصفيائه، مع الحفاظ على خصوصياتهم…كما أن طريقة الشيخ رضي الله عنه منبينة على الحث على مكارم الأخلاق التي دعا لها الدين الحنيف، كما هو مذكور بتفصيل مفيد في “الدرة الخريدة” لسيدي النظيفي رضي الله عنه، وهذه الأعمال والقيم التي حثت عليها طريقة سيدي أحمد رضي الله عنه مضمون لصاحبها الجنة قرآنا وسنة، بنصوص متكاثرة لا حصر لها ولا عد، منها قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ومنها قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)، ومنها قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقوله سبحانه (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) وقوله عز من قائل (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) ومثلها كثير، ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من ضمن لي ما بين لحييه و رجليه أضمن له الجنة “، وقوله عليه الصلاة والسلام: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى”، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: “اضْمَنُوا لِي سِتَّ خِصَالٍ أَضْمَنُ لَكُمِ الْجَنَّةَ . قَالُوا: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ:

لا تَظْلِمُوا عِنْدَ قِسْمَةِ مَوَارِيثِكُمْ . وَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ . وَلا تَجْبُنُوا عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّكُمْ . وَلا تَغُلُّوا غَنَائِمَكُمْ . وَامْنَعُوا ظَالِمَكُمْ مِنْ مَظْلُومِكُمْ”، وغيرها لا حصر له، مما يتعلمه المريد على حصير الزاوية التجانية وبين يدي المقدمين والخلفاء عن الشيخ سيدي أحمد التجاني، فهذا دليلنا العام على صدق ضمانه الجنة لأتباعه لأنه ما حثهم إلا على ما ضمن  الله ورسوله به الجنة للمسلمين.

وأما الجواب الخاص: فهو أن الشيخ الختم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بلغ في مقامات الوصل ما اجتبته به العناية الإلهية واختارته التقديرات الربانية السامية، فحصل له الفتح الأعظم ونال من الله القدر الأفخم، فاجتمع يقظة بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كفاحا وضمن له ولمن على طريقته الجنة، حيث أذن له سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً في تلقين الخلق على العموم والإطلاق وعين له الورد الذي يلقنه في سنة ست وتسعين ومائة وألف 1196هـ ، وهو مائة من الاستغفار ومائة من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رأس المائة وهو عام 1200هـ زاده صلى الله عليه وسلم الكلمة المشرفة لا إله إلا الله .

وأخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً سنة ست وتسعين ومائة وألف بأنه هو مربيه وكافله وأنه لا يصله شيء من الله إلا على يديه وبواسطته صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: لا منَّة لمخلوق عليك من الأشياخ فأنا ممدك على التحقيق فاترك جميع ما أخذت منهم والزم هذه الطريقة من غير خلوة ولا اعتزال عن الناس حتى تصل مقامك الذي وعدت به وأنت على حالك من غير ضيق ولا حرج ولا كثرة مجاهدة.

فلا عبرة بإنكار المنكرين وجحود الجاحدين فقد أنكروا على الأنبياء والمرسلين فضلا عن الأولياء والصالحين، بل الإنكار عليهم دليل على صدقهم لمن فهمه عن قرب. فالاجتماع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابت واقع شرعا وعقلا، وقد صنف في إثباته خيرة العلماء وصدقه أكثر المسلمين، وكان يسوغ فيه الخلاف ويعتبر لولا أن ادعاه جلة الأولياء وخيرة الأصفياء، فعكر على المنكرين إنكارهم وألقمهم حجة تبطل حججهم، والعبرة بما شهدوه لأنه لا يتخلف لا بالبراهين الجدلية المبنية على التخمين فهي تتخلف…

فضمان سيدي أحمد التجاني لأتباعه الجنة إخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا واسطة يقظة لا مناما، والحمد لله الذي جعلنا من أتباع هذا الولي وتحت لوائه، ونسأل الله أن ينفعنا ببركاته آمين والله أعلم…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى