اعلم أن آداب المريد مع شيخه كثيرة: أولها أن يحبه حبا خالصا لا يشوبه شيء من الكدر ولا يخالطه شيء من النفاق، وأن يحبه هذا الحب الزائد لله ولرسوله، وأن يعتقد ولايته وصلاحيته لخدمة الحضرة الإلهية وكونه عارفا بالله، وهذا يجب عليه التأكد منه قبل الدخول في عهده…
وأما نقض العهد بعد الدخول في بيعته فنفاق وإعراض عن الله، إلا لموجب كأن يصدر من المقدم ما لا تقبله الشريعة من الأقوال أو الأفعال المنافية لحرمة الدين وأساسه، فلا يجوز له البقاء في عهد من نقض الشرع وخالفه، ولو ادعى لنفسه الولاية أو القطبانية، فإنه كذاب دجال لا يجوز إقراره على باطلة، وإلا كان شريكه في الإثم، وقسيمه في الضلال. فمن آداب المريد مع شيخه:
1 – امتثال أوامره واجتناب نواهيه
شريطة أن تكون هذه الأوامر والنواهي داخل حدود الشرع الحنيف.
ففي الحديث عن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرنا في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله» رواه أحمد وأبو يعلى.
وعن أبي عتبة الحولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرجوا أمتي ــ ثلاث مرات ــ اللهم من أمر أمتي بما لم نأمرهم به، فإنهم منه في حل».
وعن ابن مسعود قال: «إنها ستكون عليكم أمراء يدعون من السنة مثل هذه، فإن تركتموها جعلوها مثل هذه، فإن تركتموها جاءوا بالطامة الكبرى» رواه الطبراني.
وعن عمران بن حصين مرفوعا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه الحاكم وأبو عبد الله والإمام أحمد في المسند، وهو حديث مشهور.
فلا يجوز للمريد أن يطيع المبطلين على باطلهم، ولكن يطيع أهل الحق، ويستعمل معهم كل أدب، ومن آداب المريد مع شيخه إيثاره بكل شيء وليس في تخصيص الشيخ بالإيثار شيء من المنكرات كما يعتقد بعض الجهال، فإن الإسلام أمر بالإيثار مطلقا سواء كان المؤثر شيخا أم لا، ففي إيثارك لشيخك مزية أخرى يظهر ذلك في القاعدة المعروفة، وهي أن الإحسان كلما كان من الأقرب كان أفضل وأشرف، والمريد الصادق يعتبر شيخه أقرب إليه من كل أحد، حاشا الله ورسوله، ولأن الشيخ قد يطاع فيما لا يوافق عليه الوالدان من الأمور الشرعية بحكم الشريعة. قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). لقمان، 15.
والدعوة إلى ما ينافي العلم والمعرفة والتوحيد من الوالدين لا تجب الإجابة عليها، بل ولا يجوز إطلاقا أن يجيب الولد إليها، بل عليه أن يطيع شيخه وأستاذه في ذلك أعني في العلم والمعرفة والتوحيد، وما لابد له منه من أمور دين، ولا يكون عاقا بمخالفة أمر والديه المنافي لحكم الله.
قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) يوسف، 40.
فثبت أن الحكم والأمر لله لا يشركه أحد من خلقه في ذلك.
2 – المحافظة على عهده وسره
وعدم تتبع عوراته وعثراته، فإنه بشر وليس بمعصوم ولا بإله، قد يجتهد في بعض الأمور فيصيب، وقد يخطئ، فصوابه من الله، وخطأه من الشيطان والنفس، وهو مأجور في كلا حالتيه.
ومن ذلك عدم ذكره له عند بعض الأعداء أو المبغضين، فإنه قد يصدر منهم ما يؤذيه ويتأذى شيخه بسماعه ويتكدر.
3 – ثبوته معه في جميع أموره
ولو خالفه كل أهل الباطل، فلا يلتفت عن محبته وتعظيمه واعتقاد حرمته، ظاهرا وباطنا.
وليعتقد أن كل أدب يستعمله مع شيخه أنه لولا أن ذلك مما يرضي الله ورسوله ما فعله، ولينوي بذلك امتثال الأوامر الشرعية بحسن الأخلاق ومكارمها، واستعمال الآداب اللازمة بين المسلمين، والحب في الله والبغض في الله وإنزال الناس منازلهم. وأن يكره شيخه بالباطل، وأن يحب من يحبه بالحق، ولا يجوز له أن يكره المسلمين بمجرد امتناعهم عن الدخول في عهد شيخه أو سلوك طريقته. وليعلم أن هناك أوامر شرعية صريحة من الشارع تدعوا إلى محبة المسلمين عموما على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم، وقد زلت أقدام كثير من الناس في هذا الباب فتراهم يميزون أنفسهم عن المسلمين، كأنهم لا ينتمون إلى دين واحد، ولا يدينون بكتاب واحد، وهذا لا يجوز.
ولا تبال أيها العاقل بتصرفات الجاهلين وأساليب المغرضين من بعض الطعانين اللعانين، حسبهم أنهم ليسوا من المؤمنين الكاملين، فالمؤمن الكامل ليس بالطعان ولا باللعان، ولا بالفحاش ولا بالبذيء، يسلم المسلمون من يده ولسانه، يأمن جاره في الحياة بوائقه، لأنه يؤمن بأن: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
ولا يدخل فيما لا يعنيه، وأن الدين دين عمل لا دين أماني، فالذين يسبون أهل الله ويطعنون عليهم بمجرد الظنون والتهم التي لم تبن على أساس من اليقين، هم أناس مغرورون مطبعون على الشر، وهم بمنزلة قطاع الطرق، ولا يجوز التعرض لهم أو الخوض في مجادلتهم ما لم يكن المرء على يقين من السلامة من شرهم، فافهم ذلك، فإنه مفيد.
4 – تصديقه في إخباره وعدم تكذيبه وتوهيمه
لمجرد إخباره بما يخالف علمه المحفوظ عنده.
5 – عدم كذبه عليه جادا أو هازلا
فإن ذلك من أسباب سقوطه من عين الله تعالى.
6 – ألا يكتمه شيئا ليس عليه فيه ضرر
ولا يجوز له إخباره بما لا فائدة في الإخبار به، ولا يجوز إخباره بما يسوءه سماعه من طعن الطاعنين فيه من أعدائه ومنكريه أبدا ولا بد من إخباره بكل ما يعتزم فعله من سفر أو زواج أو إحداث مشروع نافع، وأن يقبل كل أمر أمره به، ولو كان فيه خلاف الفقهاء، متى كان موافقا للكتاب والسنة لأن القوم بنوا على الأصول مع تقيدهم بالمذاهب فإن لهم اختيارات تمسكوا فيها بالدليل الشرعي، علما منهم بأن تقليد الأئمة أمر جائز، وليس بواجب، لا عقلا ولا شرعا، كما هو مبسوط في كتب الأصول.
7 – السعي بنفسه وماله في كل ما يرضيه
مما لا يتنافى وأوامر الشرع الحنيف، وليس للشيخ أن يعتقد فضله على أحد، لا ممن تحته ولا من غيرهم، لأن الكبر من الكبائر، ولابد أن يكون بين التواضع والكبر، بحيث يلبس لكل مقام لباسه، بحسب الهدي المحمدي.
8 – أن يراه أحق بكل خير من نفسه
لا عن جهل وعمى، ولكن عن علم ويقين بأن هذا خلق كريم عام، دعا إليه الإسلام، وحسنه للمسلم إزاء أخيه المسلم، وهذه الآداب بين المريد وشيخ السلوك.
أما مقدم الإعطاء فيطيعه طاعة دون هذه، ولابد للمريد أن يقف بهذه الآداب عند حدودها، فلا يتجاوز حد الاعتدال فيخرج إلى بعض عادات العوام البعيدة عن روح الإسلام وهديه، كما هو مشاهد.
والآداب في حال الجلوس بين يدي المشايخ على عكس ما نراه من بعض الناس، ونرجو لهم من الله تعالى التوفيق، فإن التماوت ليس من السنة، ولا هو من الدين، راجع (ميزان التفاوت بين التواضع والتماوت) فقد وضح فيه مخالفة التماوت والتظاهر بالخشوع في الجلوس في الدرس أو غير الدرس لهدي الإسلام وتعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام.
9 – أن يفاتحه بالكلام بعد مفاتحته له
وأن لا يكثر عليه حتى يمله، ولا يدعوه إلى الخوض في موضوع لم يرد الدخول فيه، وأن يتركه إذا تركه، وأن ينصح له إذا استشاره.
ومن آدابه أيضا أن لا يتجسس لعيوب إخوانه لينقلها إلى شيخه ليوقع بينه وبينهم الفتنة، ولا يجوز للشيخ أيضا أن يسأل بعض المريدين عن عيوب البعض الآخر، فإنه لما ذكر عتبان بن مالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشيم بالسوء ووافقه بعض من حضر من الأنصار، لم يوافقه الرسول عليه الصلاة والسلام، بل قال لهم “إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يقصد بها وجه الله” وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته ولما خاض الأفاكون في قضية الإفك، وذكر فيها صفوان بن المعطل بما لا شر فوقه، ولا أدعى إلى الغضب والانتقام منه، لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتهامات المرجفين الفاسقين، بل اكتفى بعلمه بإيمان الرجل وبراءته، ففي هذا وغيره مما ورد في هذا الباب دليل لا يرقى إليه أدنى شك. على أن الشيخ لا يجوز له تتبع عورات تلامذته، ولا البحث عنها، ولا يقر أحدا ينقلها إليه، ولا يجوز له تصديقها، ولا بأس عليه أن يختلي بالمنقول عنه ليطلعه على ما سمع فإذا أقر أمره بالتوبة والاستغفار أو بما يلزم، وإذا اعتذر قبل عذره، وإذا كذب الخبر عنه بما نسب إليه صدقه، وكل هذا بعد زجر الناقل وإظهار الكراهية لما نقل ومتى فتح المقدم لنفسه هذا الباب وقع فيما لا قبل له به من ضلالات الشيطان وتسويلاته، فإنه لا يتركه حتى يفسد بينه وبين جميع من سلك على يديه بحسن نية وسلامة صدر.
10 – ألا يخاصم مريدي شيخه ولا يبغضهم،
بل يحبهم لأنهم أحباب شيخه ويعظمهم لذلك، ويتبرك بهم، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم وضعيفهم وفقيرهم، ويواسيهم بفضل ماله، ويؤثرهم على نفسه بالمال والعيش واللباس، والمجلس، حتى بالصف الأول إذا رأى أن نفسه تطيب بذلك إلخ.
وليس من الآداب أن يعتقد في شيخه كمالا يشبه كمال الرسل والأنبياء، بل كل اعتقاد لا يشهد له كتاب أو سنة فهو باطل ووبال على المريد، فإن الناس مسئولون عن أقوالهم ومعتقداتهم وأعمالهم، فلا يجوز ارتكاب الشطط في جميع ذلك، ولا يجوز للمقدم أن يتظاهر بشيء من الكرامات أو الخرافات، مما لا يحمل الناس إلى اعتقاد الخصوصية فيه بالباطل، كما هو شأن المدعين الضالين المضلين.
وقولنا (يشبه كمال الرسل …الخ) لا نريد شبه الامتثال والاجتناب والإتباع فهذا جائز بدليل: “أنا شبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم” قاله غير واحد من الصحابة، فهم يتشبهون به في الصلاة وغيرها من الأمور، ولكن لم يقل أحد منهم أنا أشبهكم مقاما برسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنه لا نبي بعده، فأفهم وجه المشابهة المنفية، وإني لولا السائل بعدم التطويل لتتبعت الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، ليطلع عليها الإخوان، ليعرفوا قدر آداب الطريقة التجانية وصلتها بالكتاب والسنة. وهناك آداب كثيرة ذكرت في كتاب (الفتوحات الأحمدية) في آداب المريد مع شيخ التربية.
وهناك آداب شكلية يذكرها بعض متأخري القوم في كتبهم، لا يجوز العمل بها عندنا، لمخالفتها لما نعلم في الشرع المحمدي الحنيف، ومن جملتها: أمر المريد بطاعة شيخه ولو في مخالفة الشرع الحنيف، فهذا الحديث محدث وباطل من القول، وزور من الكلام وشطط من الاعتقاد فإن الجنة والنار ملك لصاحب الشرع وليستا مملوكتين لشيخ المريد، لعمري كيف يوصله إلى الله وهو يصده عن سبيله ومنها وجوب اعتقاد المريد أن للشيخ خصوصيات في الميزان الشرعي ينفرد بها دون سائر الأمة كتحليل بعض المحرمات وسقوط بعض الواجبات، فهذا أيضا باطل فليس لأحد خصوصيات بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وصوفية الحق ضد هذا القول، وضد أصحابه وما أدخله على القوم إلا أعداؤهم، ولا ننفي أن فهم الشيخ قد يكون أعلى بكثير من فهم مريده، ولكن لا يتجاوز ذلك إلى سن تشريعات جديدة وأحكام حديثة تخالف كتاب الله وسنة رسوله.