مصادر ترجمته

ترجمة الشيخ سيدي أحمد التجاني من كتاب كشف الحجاب

هذه ترجمة الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه كما جاءت في كتاب كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب لسيدي أحمد بن الحاج العياشي سكيرج

بداية سيدنا رضي الله عنه وأزواجه وأولاده:

واعلم أيضا أن سيدنا رضي الله عنه نشأ في عفاف وصيانة وتقوى وديانة محروسا بالعناية محفوفا بالرعاية مقبلا على الجد والاجتهاد مائلا إلى الرشد والانفراد متطلبا للدين وسنن المهتدين، مشتغلا بالقراءة، معتادا للتلاوة.
حفظ رضي الله عنه القرآن حفظا متقنا في سبعة أعوام على الأستاذ أبي عبد الله سيدي محمد بن أحمد التجاني.
ثم اشتغل بقراءة العلم الشريف فقرأ على جماعة من العلماء الجلة من فحول هذه الملة بعين ماضي وغيرها إلى أن تبحر رضي الله عنه في علم الشريعة.
ثم مال رضي الله عنه إلى طريق الصوفية والبحث عن المعارف الإلهية والأسرار الخفية وسافر في طلب ذلك من بلد إلى بلد حتى بلغ غاية ما قصد بعد أن تلاقى مع جمع من العارفين والأولياء والصالحين رضي الله عن الجميع.
وقد كان زوجه والداه قبل موتهما لما بلغ الحلم رضي الله عنه من غير تراخ منهما في ذلك اعتناء بشأنه وحفظا له من الشيطان وحزبه وصونا لأمره مراعاة للسنة المطهرة بالمبادرة بذلك، وكان تزويجه سنة ثم طلقها سيدنا رضي الله عنه حيث رآها شغلته عن مقصوده الأهم من الجد والاجتهاد وحيث لم توافقه فيما رامه من العبادة وسلوك سبيل الرشاد.

ولما حصل سيدنا رضي الله عنه مقصوده وعلم أن التزويج مطلوب منه بمقتضى الاقتداء بالسنة اشترى رضي الله عنه أمتين مباركتين وتزوج بهما بعد عتقهما ونالتا منه رضي الله عنه الحظ الوافر من المودة التامة التي نالتا بها من الفتح المبين والمقام المكين في الدين ما يبهر العقول ولا يدركه الأكابر من الفحول.
فالأول هي الدرة المكنونة واللؤلؤة المصونة السيدة مبروكة ذات الحزم الشديد والرأي السديد. كانت رحمها الله شديدة البرور بسيدنا رضي الله عنه سامعة له ومطيعة وكان يحبها محبة خاصة لشدة اعتنائها به. لاسيما حين رزقها الله منه الخليفة الكبير والعارف الشهير سيدنا محمد الكبير رضي الله عنه، ولازالت معه على أحسن ما يكون إلى أن توفي سيدنا رضي الله عنه وتوفيت بعده رحمها الله.

والثانية هي السيدة الغالية المتصفة بالهمة العالية السيدة مباركة ذات القلب السليم والفضل العميم والمآثر الفاخرة والكرامات الظاهرة قد اختارها سيدنا رضي الله عنه لنفسه، وطابت له بها أوقات أنسه وكان يحبها رضي الله عنه محبة خاصة لاسيما حين أكرمها الله منه بخليفته الأعظم الجامع بين مقامات العرفان الشائع فضله بالتواتر في سائر البلدان سيدنا محمد الحبيب رضي الله عنه. ولازالت مجدة بالإسراع في كل ما يجلب السرور لسيدنا رضي الله عنه إلى أن توفي سيدنا رضي الله عنه وتوفيت بعده وكانت مع ضرتها السيدة مبروكة في أحسن عشرة مع اتصافهما معا بحسن المعاشرة مع أقارب سيدنا رضي الله عنه ومع من انضم إليهما في داره المباركة على طول الاجتماع، وكذلك كل ما عنده من الخدم والعبيد كانوا على قلب واحد وذلك لشدة اعتناء سيدنا رضي الله عنه بالجميع الاعتناء الشديد مع سر تربيته الساري في الأحرار والعبيد وإذا رأى من لا يؤثر فيه الأدب و لا يتخلق بأخلاق ذوي الحسب يخرجه من داره و لا يقربه وينبه على أفعاله لمن يصحبه.

وقد قال مرة لأصحابه رضي الله عنه كما في إفادة المقدم البركة سيدي الطيب السفياني رحمه الله: أنظروا لي أعطيه خادما ويكون يقدر على القيام بها وقولوا له تتخاصم مع الخدم وأنال البيع اليوم لم نبع والعتق لم نعتق لأمر فأتاه رجل أخبر بأمرها وقَبِلها فدفعها له بصندوق حوائجها وحليها وثيابها وأوانيها وكانت عادة سيدنا رضي الله عنه أن يعطي لعبيده من الأكسية والأطعمة ما لا يعطيه لنفسه.
ورأى يوما بعض خدم بعض الناس مفرطين في كسوتهم ضائعين في أبدانهم مشوهين في لباسهم في زمن الشتاء فقال لأصحابه حاشا الله أرباب هؤلاء المماليك أن يشموا رائحة الإسلام.
وكان يحب أن يترك تحت يده أو يد غيره من الناس خدما بلا تزويج ويقول لأصحابه من يملك الأمة من غير أن يتسرى بها أو يزوجها لغيره أو يبيعها بهذا الشرط فليحط سبحتي ما بيني وبينه شيء وإليه أشار في المنية بقوله:

وصـح عـن هـذا الإمـام مـا          مــن بعـد ذا البـيـــت أتـــى
فـتـارك إمــاءه فــي الضـــر         مـن غيـر تزويج ولا تـرى
أو بيـعهـا بأحــد الشرطيــن        فليـس شــيء بينـه وبينـــي

وهذه الأبيات الثلاثة سقطت من نسخة البغية المطبوعة مع بيتين قبلها وهما:

وسكـر القـالـب شيخنـا أمـر            بتـركـه وعن شرابه زجـر

وكان سيدنا رضي الله عنه يقول من كانت لزوجته خادم فليأمرها بتزويجها أو بيعها بالشرط المذكور وإن أبت يقول لها إن لم تفعلي طلقتك.
كذلك لا يحب أن يترك العبد بلا تزويج وأهدى إليه بعض أصحابه عبدا سباعيا جميلا فأمر رضي الله عنه بعض أصحابه أن يرده إليه معتذرا له ،قل له لا يمكنني تركه داخل الدار وفي خارجها يتضرر. إشارة منه رضي الله عنه إلى التحرر عن إدخال العبيد الدور لئلا يقع فاعل ذلك في مهواة الشرور ومما قيل:

لا ترج من أسود خيرا فإن بني             حـام إذا شبعــت بطونهـم فسقوا
وإن أنـالتـهـم الأيـام مخـمـصــة           لا يبارك الله في أعمالهم سرقوا
مـا ســاد منـهــم فتـــــــى إلا إذا        منه الخصى أو ذوي من عـوده

لكن كان سيدنا رضي الله عنه يخافهم ويخالف قول بعض الشيوخ الجاري على الألسنة الدار المباركة ليس فيها مبارك ولا مباركة وحين يسمعه، يقول: الدار المباركة هي التي فيها مبارك ومباركة.
وكان كثيرا ما يوصي أولاد الإماء على أمهاتهم وقال يوما لأحد ولديه رضي الله عنهما قل أمي حين جاء يشتكي بأمه وسماها باسمها فقيل له إن أولاد الإماء لا يقولون أمي لأمهاتهم فقال رضي الله عنه ذلك عقوق.
وكان رضي الله عنه كثيرا ما يشتري العبيد ويعتقهم في سبيل الله حتى إنه اشترى يوما نحو الخمس والعشرين نفسا وأعتقهم كلهم كما بلغني ذلك عن الثقات ممن خالط أكابر أصحاب سيدنا رضي الله عنه.
وإذا جاءه عبد أو أمة يطلب منه الشراء والعتق يفعل ذلك به، وجاءته يوما أمة وقالت له اشترني لله ولم يكن حاضرا ما يخلصها به فدفع قطعا لبعض أصحابه وقال له بعهم وشاورني فيهم لأخلص بثمنهم خادما أتتني وقالت لي اشترني لله وأنا ما عندي شيء نشتريها به لأن ماله رضي الله عنه كله مصرفه معين فلا يترك عنده شيئا مجانا بل كل شيء بنية شيء وقصده كما في الإفادة.

وكان رضي الله عنه يقف بنفسه في مهمات خدامه و لا يتغافل عنهم فيما لا يضاه الشرع حتى أنه كان لا ينام حتى يسد البيوت على عبيده كلهم ويجعل مفاتيح البيوت عنده في صندوق وفي الصبح يقوم نفسه لحلها كل ذلك حرصا على أداء حقوق المملوك على مالكه.
وكذلك رضي الله عنه كان يفعل بنجليه الكريمين رضي الله عنهما فكان يسد عليهما البيت الذي هما فيه عند نومهما إلى طلوع الفجر. قال البركة المقدم سيدي الطيب السفياني في إفادته حين أراد سيدنا رضي الله عنه تزويج ولديه رضي الله عنهما أمر بإصلاح بيتين من الدار واستعمال قفلين عليهما جيدين وأمر باستعمال صندوق ليستعمل فيه مفاتيح البيتين حين يسدهما على ولديه وأزواجهما من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ويفتح عليهما كما هي عادته الكريمة مع خدامه كل يوم يسد عليهما مع الخدم من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، ويقف إلى أن يخرجوا ليصلوا كل ذلك حزم منه رضي الله عنه.
وبعد سبع سنين أو ثمان أخرجهما من الدار وأمر أمهاتهما إذا دخلوا الدار كل واحدة تقوم مع ابنها حتى يخرج من الدار وحين أخرجهما قام بأمرهما صاحبه الذي كان بالدار الصغرى وجعل لهما فرشين واحد من هذه الناحية والآخر من الناحية الأخرى وجعل بيتا بينهما إلى أن توفي رحمه الله وقرب وفاته تزوجا معا يعني ما مات سيدنا رضي الله عنه حتى زوجهما.

ومن الغرائب أن اليوم الخير من عر أولاد سيدنا رضي الله عنه اجتمع الإخوان عنده رضي الله عنه وطلبوا منه الفاتحة فلما فرغ منها سقطت خصة من خصات الدار عن مكانها حتى ذاع مائها فكان ذلك الجمع آخر عهد بين سيدنا رضي الله عنه وبينهم، ولما عزم سيدنا رضي الله عنه على تزويج أولاده رضي الله عنه صار الآخرون يتسارعون في إهداء بناتهم لأولاده رضي الله عنه وعرضهن عليه فقال معتذرا لهم أولادي لا تليق لهم إلا الصحراء ففيها يصلحون ويعيشون والبنت لا تليق بها إلا الحاضرة فما تمت السنة حتى كانوا قاطنين بها.

وقال رضي الله عنه لبعض خاصة الخاصة من أصحابه حين أراد تزويج ولديه رضي الله عنهما كما في الإفادة ونصها: أحضر أصحابنا غدا إن شاء الله واعقد لمحمد الكبير على فاطمة بنت أخي ونب عني من الطرفين وأحضر أحمد بن موسى يكمل لأخته حسناء واعقد لمحمد الصغير عليها وكانت يومئذ في كفالته وأفرض لهما صداقا قدره لكل واحدة منهما خمسون ريالا روميا وزوج قفاطن أحدهما حرير والآخر ملف وزوج مناصر كتان وأربع محارم حرير كبارا وقطيفة وحايك كبير للغطاء. انتهى.

ولما زوج رضي الله عنه ولديه الأكرمين بهاتين الزوجتين المباركتين أزمع على الانتقال عن فاس حفظها الله من كل باس وعزم على الارتحال إلى القطر الشامي بجميع ما معه من الأهل والعيال بقصد الاستيطان به لما ورد في فله من الأحاديث عن سيد الأكوان عليه الصلاة والسلام فبينما هو رضي الله عنه قد أخذ أهبة السفر ولم يبق له إلا الخروج لهذا الوطن وقد نزل بأصحابه بسبب هذا الأمر من الحيرة والنكد ما يذهل الوالد عن الولد حتى كادت أن تفتت أكبادهم وتنصرع أفئدتهم وتذوب أجسادهم وصاروا يرتقبون توديعه الذي هو في الحقيقة توديع أرواحهم وتشبيعه الذي هو تشبيع مادة حياة أشباحهم إذ أشرق عليهم نور غرته وطلع عليهم بهاء محياه الكريم وسنا طلعته فبشرهم بما هو الشفاء مما دهاهم والترياق لما عراهم وأخبرهم بما نفخ به في رميم أحوالهم الحياة الهنية في حالهم ومآلهم وذلك بأن قال لهم رضي الله عنه وأرضاه: إن أولياء الغرب أبو أن يفقدوا من بين ظهرانيهم نوره وسناه فطلبوا من حضرة سيد الوجود ورغبوا إليه صلى الله عليه وسلم في بقاء وجوده العيني وشخصه المشهود بين الأغوار من قطرهم المبارك والنجود لأنه صلى الله عليه وسلم مربيه وكفيله وإليه يستند من أمره كثيره وقليله فأجابهم صلى اله عليه وسلم لمطلبهم، وأسعفهم بمرغبهم فأذن له صلى الله عليه وسلم في المقام وعدم الترحال فلم يمكنه إلا الانقياد والامتثال فعند ذلك قرت به في الحضرة الفاسية المباركة الدار وألقى من يده عصى التسيار وزال عن جميع الكرام ما كان قد روعهم بين الأنام.
وكان رضي الله عنه يقول حين يضيق خاطره من أمور الخلق ويرى إعراضهم عن الحق: والله لولا خوف الله ندعو على أولياء المغرب لأنهم تسببوا له في سكنى فاس بعد أن كان قصده أن يسكن الشام كما تقدم.

وفاته رضي الله عنه:
ثم بعد كمال العرس المبارك السعيد، وطرح عصى السفر بين القريب والبعيد أحس سيدنا رضي الله عنه بذاته وازدياد حرارته الملازمة له طول أواته من السر الذي ناله في المقام الذي ارتقى له وفي الليلة التي توفي فيها رضي الله عنه قال لبعض الإخوان انظر لي خمسة من أصحابنا يبيتون معي الليلة. ثم أمره رضي الله عنه بترك ذلك كما في الإفادة، وقال أنا لا أستغني عن الخدم في الليل والرجال والنساء لا يمكن جميعهم، وصبيحة تلك الليلة عند الفجر قبضه الله تعالى إليه، وذلك صبيحة يوم الخميس السابع عشر من شوال عام ثلاثين ومائتين وألف وعدد سنى عمره ثمانون سنة رضي الله عنه وحضر خروج روحه جماعة من الإخوان وذل بعد أن صلى الصبح اضطجع على جنبه الأيمن رضي الله عنه ثم دعا بماء فشرب منه، ثم عاد إلى اضطجاعه على حالته، فطلعت روحه الكريمة من ساعته، وصعدت إلى مقرها الأقدس.

وحضر جنازته المباركة ما لا يكاد يحصى من علماء فاس وصلحائها وفضلاءها وأعيانها وأمرائها. ولو لم يكن صاحبه أمير المؤمنين مولانا سليمان قدس الله سره بالحضرة المراكشية، لحضر بنفسه جنازته مع من حضر وصلى عليه إماما العلامة الأوحد والمفتي الماهر الأمجد أبو عبد الله سيدي محمد بن إبراهيم الدكالي، نسبة إلى الإمام التونسي الشهير وازدحم الناس على حمال نعشه المبارك الميمون وكسروه بأثر دفنه أعوادا صغارا ادخروها للتبرك بما حل فيه من السر المصون، ثم وضع في ضريحه والقلوب منفطرة لفقده وكل حاضر دموعه جارية على خده، وذلك بموضعه المعلوم بزاويته المباركة رضي الله عنه.

وبالجملة بعد هذا – كما في البغية – فقد أجمع من حضر موته على أن ذلك اليوم، يوم مشهود، تساوى به في الازدحام على تشييع جنازته وحملها وحضور الصلاة عليه المعتقد والمنتقد، والمقر والجحود، هنيئا لتلكم الحضرات الشريفة المنورة بما ضمته من أعظامه الطيبة الزاهرة المطهرة، ثم هنيئا فهنيئا لا ينحصر تعداده وتكراره، لمن ضمه جواره وإن نزحت به في المشاهد داره، وشملته عنايته وأنواره، وإن شط به مزاره، جعلنا الله بمحض فضله في جواره الذي لا يضام، في هذه الدار وفي دار المقام، بجاه ما له عند ربه سبحانه من أكيد الذميم وعظيم الحرم آمين. انتهى.
وإلى تاريخ وفاة سيدنا رضي الله عنه أشار صاحب المنية بجمل حروف عجز هذا البيت:

وحيـن مـات شيـخنـا ذو الشـان           مــات الإمـام العـارف الربانــي

ورمزت له بقولي (قطن الختم) وبقولي أيضا (دفن القطب المكتوم جلا بفاس) وفي هذا الأخير الإشارة إلى موضع دفنه وهو فاس حرصها الله من كل باس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى