إن عناية الله وحفظه لهذه الطريقة السنية، تقيض لها من يجدد أمرها، ويحافظ على عهدها، ويراقب مدى تطبيقها لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ونهجه القويم، ومن أحرص على ذلك من أبناء الشيخ التجاني المضمون لهم المعرفة التامة بالله عز وجل؟! فهم رعاتها والحامون لحماها.
اتفق علماء ومقدموا الطريقة المذكورين في نهاية الرسالة مع سيدنا ومولانا محمد الكبير التجاني بن سيدي محمد البشير بن سيدي محمد الحبيب بن مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنهم، بعدما بينوا له ما حدث في أمر الذكر في الزاوية الكبرى المباركة من اختلاط النساء والأحداث بالرجال في الزاوية أثناء ذكر حضرة يوم الجمعة، وما يصحب ذلك من تكفيف ورفع الصوت بما لا يعني، وخروج جل المشاركين في الحلقة عن آدابها من رفع القدمين عن الأرض وغيرها من السلوكات المنافية لآداب الذكر على الطريقة الخلُّوتية التي كانت عليها الحضرة منذ زمن الشيخ رضي الله عنه.
فطلبوا من سيدنا جعلها سردا، فدخل رضي الله عنه الموضع الذي كان يتعبد فيه بدار الفاضل الجليل الكريم المبجل سيدي عبد القادر القباج بحومة بسبع لويات بفاس المحروسة، ومكث فيه ثلاثة أيام لا يكلم أحدا ولا يجتمع بأحد، إلى أن رآى جده مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له أن يجعل الهيللة سردا وعند ذلك خرج إلى الناس وأخبرهم الخبر وكتب كتابه بمنع الهيللة على الطريقة الخلُّوتية فعند ذلك رجع الأخوان إلى قوله، وكتب رضي الله عنه كتابه هذا الذي بين يديك أيها القارئ كما هو عند صاحب كتاب المغير: ابراهيم بن صالح بن يونس الحسني بطابعه (المغير ص: 479).
كما ضمنها رضي الله عنه نصائح أخرى، وأهمها ترك الحلقة في الجنائز والولائم. وهذا نص الرسالة:
“بعد البسملة والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والطابع الشريف. من عبد ربه الراجي من فضله بلوغ الأماني في الدنيا ودار التهاني: محمد الكبير بن مولانا البشير بن مولانا محمد الحبيب بن القطب المكتوم والبرزخ المختوم سيدنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنهم وعنا بهم آمين. إلى كافة الفضلاء أحبابنا فقراء فاس من غير تخصيص، كبيرا وصغيرا كل واحد باسمه وعينه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يفيض عليكم فيض العناية ويكسوكم حُلَل القبول والإقبال منه وأن يجعل المحبة الكاملة من الشيخ رضي الله عنه وعنايته الكافية التامة فيكم وفي بنيكم ما تناسلوا بوجه لا يمكن فيه المحو والتبديل، إنه ولي ذلك والقادر عليه يليه.
إننا حللنا بهذه الحضرة الفاسية ذات الخيرات المتكاثرة والمحاسن الفاشية بقبول زيارة شيخنا رضي الله عنه. رأينا أمورا تفعل في الزاوية المباركة غير جارية على الطريقة المستقيمة، مع علمكم أن الشيخ رضي الله عنه لم يأمر بذلك ولم يرضه، منها:
1- حضور النساء بالزاوية: ولا يخفى ما في حضورهن من الفتنة والفساد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء…» (الحديث).
والعجب ممن يُقرهُن على الحضور في الزاوية وجلوسهن بحيث يتوسمن وجوه الداخلين والخارجين منه، وبحيث يسمعن صوت الحادي وهو يعلم ما في ذلك من المفسدة المحققة، مع ما يعلمه من سيرة سيدنا الشيخ رضي الله عنه القائل: “إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع، فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه”. ومنها:
2- أنكم اتخذتم الزاوية مثل الدور والحوانيت، وحديث الدنيا والاجتماع فيها حلقاً حلقاً للقيل والقال والغيبة والنميمة وكل ما نهى الله عنه.
وقد قال الله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) (الحج 30)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وبيعكم وشرائكم»، وقال عليه الصلاة والسلام: «الكلام في المسجد بغير ذكر الله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الرقيق»، وقال عليه الصلاة والسلام: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم من حاجة». ومنها:
3- ذكر عصر يوم الجمعة، يجتمع الفقراء، البعض يذكر والبعض يتكلم بالكلام الدنيوي كأنها في حقهم غير لازمة مع أنها من جملة الأذكار اللازمة في الطريقة الأحمدية. ومنها:
4- ما اشتملت عليه حلقة الذكر يوم الجمعة، على ما رأينا من الأمور الشنيعة والقبيحة من التمطيط في الذكر حيث يخرج فيه إلى حد الغناء المنافي للخشوع، أو إلى اللحن الذي لا يصوغ كترك المد الطبيعي في ذكر الهيللة وغيرها.
وقد كان أصحاب سيدنا الشيخ رضي الله عنه يذكرون على الكيفية المذكورة بالقرب منه، فسمعهم مرة فعلوا شيئا من ذلك فزجرهم ونادى بأعلى صوته أي شيء هذا – أي شيء هذا – لا إله إلا الله – لا إله إلا الله. ومنها:
5- التصفيق بالأيدي، وفعل شيء من الحركات التي تسقط العمامة والرداء، وحضور الأحداث دينا وسنا لأنهم مظنة الفتنة ولاسيما إن كان ذا وضاءة وصوت حسن واتخاذه حاديا للقوم، فإن الأمر فيه خطر جدا، وتجنب مثل هذا في كل مجلس واجب ولاسيما في مجالس الذكر التي يتعرض فيها لما يرد على القلب من الفتح والسر، فإن اصطلح القوم على الصياح والغناء بالأشعار في حلقة الذكر فذرهم في خوضهم يلعبون. وقل إنا لله وإنا إليه راجعون.
وعليه فنأمر جميع الإخوان بالوقوف على الجادة في هذه الحلقة من ذكر الهيللة سردا بالجلوس قبل الغروب بساعة في الزاوية المباركة.
كما نأمرهم بترك الحلقة في الجنائز والولائم لما في ذلك من الخروج عن مشروعيتها1.
فهذا الذي أوصيكم به ونأمركم به ولا أظن أن أحدا ممن يقف على هذا الذي ذكرنا يكابر فيه أو تشرئب نفسه إلى البحث فيه لأنه الصراط المستقيم المأمور باتباعه دون التي تتفرق بمتبعها عن سبيل الحق والهدى.
ومن أراد الخروج والخلاف عما ذكرناه فإن المقدم يكتب لنا ونحن له بالمرصاد، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (الشعراء: 227).
وإني أسأل الله لكم ولأولادكم أن يوفقكم للخير ويعينكم عليه وأن يتولاكم بعنايته وولايته وأن يُتم للجميع ما به أنعم، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. عن إذن الداعي لكم بخير سيدنا المذكور أعلاه صانه الله ورعاه كتب بفاس يوم 18 رجب الفرد عام 1337هـ /أبريل 1919م.
ثم وافق عليه المقدمون والعلماء الآتي ذكرهم وهم:
العلامة: السيد عبد الكريم بن العربي بنيس.
العلامة: الفاطمي الشرادي.
القاضي: السيد عبد السلام السرغيني.
العلامة: الشريف سيدي محمد الحجوجي.
العلامة: السيد مولاي أحمد بن المأمون البلغيثي.
العلامة: الشريف مولاي عبد السلام بن عمر العلوي.
المقدم: الشريف مولاي العربي ابن المحب العلوي.
المقدم: السيد ادريس بن عبد القادر السعودي.
العلامة: سيدي محمد بناني.
العلامة: سيدي أحمد سكيرج.
رحم الله الجميع.”
انتهى كتاب سيدي محمد الكبير التجاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1]– بلغني عنكم أمورا اخترعتموها في الطريقة برأيكم مع علمكم أن الشيخ لم يأمر بذلك، ولم يرضاه. منها: أنكم تقرؤون الوظيفة على الأموات في الديار على الفقراء وغيرهم
“سيدي محمد البشير بن سيدي محمد الحبيب.
الرسالة 96 كتاب الجواهر الأحمدية في الرسائل التجانية / خطية مصورة ص: 219.
مؤرخة ب: ربيع II 1314هـ /شتنبر 1896 م.
– ” كما أننا نأمركم بترك الحلقة في الجنائز والولائم لما في ذلك من الخروج عن مشروعيتها”
سيدي محمود بن سيدي محمد البشير.
الرسالة 98 المصدر السابق نفسه. ص: 225.
مؤرخة ب: 25 شعبان 1337 هـ /ماي1919م.