اشتهر السلطان مولاي سليمان بالعلم والعدل، وكانت له مجالس طافحة بأعظم علماء المغرب في زمانه، بين فقيه ومحدث ولغوي ومؤرخ وصوفي.
نذكر على سبيل الإشارة الشيخ التاودي بنسودة ومحمد بن عبد السلام الناصري والطيب بنكيران وسليمان الحوات وسيدي حمدون بلحاج وغيرهم كثير…
فهؤلاء هم جلساء السلطان وبطانته؛ كلهم بحار متدفقة من العلوم. لكنه لما عرف مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه بعد انتقاله من الصحراء إلى فاس سنة 1213، اتضح له أن هذا الرجل نسيج وحده قلَّ أن يجود الزمان بمثله فأقبل عليه بكليته.
وقد زكى فراسة السلطان حول الشيخ رضي الله عنه ما كان ينقله له ثلاثة من أخص ندمائه، وهم سيدي حمدون بلحاج وسيدي محمد بن عمرو الزروالي والسيد العباس بنكيران. الذين انتفعوا بمولانا الشيخ رضي الله عنه، فصاروا يثنون عليه في كل محفل ويقسمون أنه لا تحمل البسيطة من هو أعلم من الشيخ التجاني رضي الله عنه…
مجالس مولاي سليمان
وكان السلطان يستدعي الشيخ لمجالسه، ويستعذب تقريراته، التي ترفع اللبس بأفصح عبارة وأبسطها عن عويصات المسائل. ولا عجب إذا أيقظت هذه النفحات نار الغيرة والحسد والإنكار في قلوب بعض المتكبرين، فإن مشيئة الله تعالى اقتضت لأمر هو يعلمه أن يبتلى أوليائه بكل امتحان عسير، لكن السلطان ذو السريرة الصافية علم أن مجيء ولي عظيم القدر إلى المغرب أزعجه البغي والاستبداد إلا أن يقول ربي الله نقمة في طيها نعمة، فهذا الشريف الذي يفيض علما وصلاحا ومُتبع للسنة جملة وتفصيلا في قدومه رحمة للعباد. فلا يجب أن يضيعها، لاسيما والشيخ التجاني يحدث أصحابه عن رغبته الأكيدة في الانتقال بأهله من المغرب إلى الشام.
فعرض السلطان على الشيخ رضي الله عنه أن يسكن أحد قصوره، وهو المعروف (بدار المرايا) بفاس. فقد ذكر المؤرخ “الضعيف” أن مولاي سليمان أنفق على بناء هذا البيت مالا كثيرا، فاستدعى مجلسه العلمي للمناظرة فيه، وذلك على إثر الانتهاء من البناء سنة 1212، وفي السنة الموالية أهدى البيت بكل سخاء للشيخ التجاني رضي الله عنه ليقيم فيه. فأبى الشيخ ذلك إلا بالمقابل، فصار يتصدق كل شهر بمقدار ثمن الكراء. كما أراد السلطان أن يُعِين الشيخ رضي الله عنه على بناء الزاوية فلم يقبل. فازداد إعجاب السلطان بهذا السيد، وعلم أنه على أعلى درجة من الورع.
رعاية السلطان الطريقة
وبعد هذا تاقت نفس السلطان بأن يدخل في سلك المريدين التجانيين. فتريت مولانا الشيخ رضي الله وقتا حتى أخذ الإذن في ذلك من صاحب الطريقة صلى الله عليه وسلم. فاستجاب لرغبة الطالب وبعث له برسالة يبشره فيها بما أعده الله لأهل الطريقة، ويدعوا له بالخير والإعانة على القيام بأعباء الملك. كما أذن له بأمر نبوي في تلاوة بعض الأذكار العالية. ومما زاد مولانا الشيخ رضي الله عنه حبا في الملك ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أنه لا يوجد في الدنيا في ذلك الوقت أمير يسوس رعيته بمقتضى الكتاب والسنة أكثر من هذا الإمام الشريف. وقد اعتنى سيدنا بالملك اعتناء كبيرا، شأنه شأن باقي أخص أصحابه. وكان الواسطة بينهما في تبليغ الرسائل هو الخليفة سيدي الحاج علي حرازم رضي الله عنه. ومن أراد مطالعة رسائل سيدنا للملك فعليه بكتاب كشف الحجاب.
وقد تقبل السلطان نصائح الشيخ رضي الله عنه بصدر رحب، بل صار ينظر إليه نظرة الولد البار لوالدهم، ويستشيره في أمور الدولة، فيشير عليه سيدنا بالنصائح الثمينة الصائبة.
بلغ المولى سليمان بفضل الله مقاما عاليا في الولاية والمعرفة بالله، إلا أن الله ستر ذلك عن غيره باشتغاله بمهام الحكم وإمارة المسلمين، كما يستر الله ولاية العلماء باشتغالهم بالعلم، وولاية الملامتية باشتغالهم بالصنائع والحرف. لم يكن المولى سليمان حاضرا بفاس لما توفي مولانا الشيخ رضي الله عنه، وإنما حضر ولي عهده المولى إبراهيم، ولو حضر لكان على رأس المشيعين لجثمان الشيخ.
ولما استقر السلطان في آخر عمره بمراكش تعرف على بعض أصحاب الشيخ بها، وتوثقت عرى المودة بينه وبينهم، بل لعلهم صاروا يذكرون الوظيفة معه. ولما مات رحمه الله سنة 1238هـ، صاروا يجتمعون في مسجد ابن يوسف الذي أعاد بنائه هذا السلطان الجليل، ويذكرون الوظيفة بقبة تحمل اسمه، كما يفعل بعض فقراء تونس في مسجد الزيتونة العتيق. وبقي الأمر كذلك وأصحاب الشيخ في تزايد إلى أن يسر الله بناء الزاوية الكبرى بمراكش سنة 1262.
وبقي سلاطين وأمراء الأسرة المالكة على عهدهم بالطريقة الأحمدية زادها الله شرفا ورفعة، جريا على سنة أبي الربيع كالسلطان مولاي عبد الرحمن وأولاده سيدي محمد بن عبد الرحمن وأخويه العالمين الجليلين مولاي علي ومولاي عبد العزيز. ثم أنتقل شغف الأشراف بالطريقة إلى الحفدة وحفدة الحفدة إلى اليوم وإلى قيام الساعة إن شاء الله
محمد المهدي الكنسوسي