مقالاتمناسبات

فرحت الملائكة بمولده فشمتته صلى الله عليه وسلم وضجت الشياطين لما رن والدهم

فرحت الملائكة بمولده فشمتته صلى الله عليه وسلم

وضجت الشياطين لما رن والدهم

نتنسم أريج العطر الفائح، من النسمات الزكية ذات الأريج السائح، في عرسات البوصيري الصادح، بنغمات المُطرَب بنسيج الأدب الواضح، على مقامات سيرة الناصح، بالمحبة الخالصة، في خير العالمين واضحة، يرطق سماء علاها الفكر الثاقب لشيخ الشيوخ سيدي أحمد التجاني ذي المنهج الواضح. طول شهر وأيام، تجديدا لبيعة خير الأنام.

شَـــمَّــتَــتْهُ الأَمْـلاَكُ إِذْ وَضعَتْهُ   وَشَــــفَـتْــنَـا بِـقَوْلِـهَــا الشَّـفَّاءُ

معنى “شمتته الأملاك“: النبي صلى الله عليه وسلم إذ وضعته آمنة.

والتشميت في اللغة هو: التفريح وبه سمي تشميت العاطس تشميتا يقول له القائل رحمك الله وفيه يقول المعصوم سيدنا هارون عليه السلام ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ اَلاَعْدَآءَ﴾ يعني لا تفرحهم. في شمتة الأملاك يحتمل أنه عطس حين ولد صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله فقالت له الملائكة “يرحمك الله” ويحتمل تشميت الملائكة في صلاتهم عليه يوم ولد بقولهم له صلى الله عليه وسلم فإن الملائكة كانت مستشرفة لهذه الولادة العظيمة وحضروها حين وضع، فإنه صلى الله عليه وسلم في الليلة التي ألقيت نطفته في رحم آمنة وقع به تنبيه عظيم في السماوات بأنه ألقي في رحم أمه هذه الليلة حتى في الجنة وعند أهلها وصار به الخبر في جميع نواحي السماوات فرحا واعتناء به صلى الله عليه وسلم، وحين رأى اللعين ذلك رن رنة عظيمة من الغيظ والحزن والكرب الذي حل به أكثر مما حل به من الكرب في الوقت الذي أمر بالسجود لآدم ومعلوم قضيته، وإذا كان اعتناء الملائكة وفرحهم به في ليلة وضع نطفته في رحم أمه فأحرى وأولى أن يعتنوا بحضوره صلى الله عليه وسلم حين خرج للوجود، وكان في قلوبهم في غاية العظمة والجلال من أجل ما علموا من تعظيم الله وإجلاله له صلى الله عليه وسلم.
قوله “وشفتنا بقولها الشفاء“: الشفاء اسم امرأة من نساء قريش كانت حضرت ولادة آمنة رضي الله عنها.
قال: “شفتنا بقولها الشفاء“، يعني أوضحت لنا كثيرا من العجائب التي شاهدتها عند ولادته صلى الله عليه وسلم، أخبرت أنها رأت النجوم تدلت إليه عند ولادته وخرج معه نور عظيم رأوا به قصور بصرى من أرض الشام وهم بمكة، وأخبرتهم أنه ولد ساجدا صلى الله عليه وسلم رامقا طرفه السماء، إلى غير ذلك مما أخبرت به الشفاء من العجائب التي رأت عند ولادته صلى الله عليه وسلم.

    وَتَــدَاعَــى إِيـــوَانُ كِــسْـــرَى وَلَـــــوْلاَ   آيَــــةٌ مِــنْـــكَ مَـــا تَـــدَاعَــى الْـبــِنَـــاءُ

معنى “تداعى“: أي هوى للسقوط إيوان كسرى، والإيوان في لغة الفرس هو المسمى عند العرب قصر المملكة الذي يستقر فيه الملك بما يشتمل عليه من جملة خدمته وحريمه وخدامه ومماليكه وجميع خزائنه، فأصل الإيوان في لغة الفرس وهو الذي فيه الملك بجميع ما يشتمل عليه من خزائنه وحريمه وخدمته – وكان هذا الإيوان في غاية ما يكون من الضخامة والعظم وفيه من الذخائر والكنوز ما لا يعرف له حد ولا مقدار حتى قالوا إن كسرى كانت له اثني عشر ألف امرأة – تداعى للسقوط في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم. وفي تلك الليلة أيضا ما بقي صنم في الدنيا بجميع حذافيرها إلا سقط على وجهه وأصبح ساقطا، وفي ذلك آية وإعلام أنه جاء وقت سقوطها وذهابها أن تعبد من دون الله.
وكسرى لقب لملك الفرس بالعراق كل من ملك الفرس بالعراق يسمونه كسرى، مضى على ذلك اصطلاحهم على هذا الاسم. كما أن من ملك الشام من قبل بني إسرائيل يسمونهم جبابرة وكل من ملك الروم اصطلحوا على تسميته هرقل وقيصر. واصطلحوا على ملوك مصر يسمونهم فراعنة. وملوك حمير باليمن يسمونهم تبابعة. وملوك الترك ببلادهم يسمونهم خاقان. وكل من ملك الحبشة بالسودان يسمونه نجاشي.

قوله “ولولا آية منك ما تداعى البناء” معناه: لولا آية منك يا رسول الله بالإعلام بظهورك عليهم باستيلاء أمتك على ملكهم فهذه هي الآية، ولولا هذه الآية ما تداعى البناء لشدة ضخامته وشدة توثقه واعتناء أهله به، فإن الملك الذي له اثني عشر ألف امرأة من أشراف أهل الأرض دون ما عنده من الحشَمة والخدمَة وما ينوبه في مؤنتهم، فإن مثل هذا الملك لا يسكن في محل يسقط فيه البناء وما سقط إلا بأمر إلهي، فإنه روي أن أبا جعفر المنصور لما أفضت إليه المملكة عزم على هدم إيوان كسرى، فاستشار في ذلك رجلا يقال له خالد بن عرفطة وكان ذا رأي سديد، فلما استشاره وعزم على هدمه قال له لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال له ولم؟ قال له إنه من أعظم الآيات على قوة هذا الدين، فإنه ما رآه ذو عقل ورأي إلا علم ضخامة ملك أهلهم وقوة سلطانهم وثبوت دولتهم وأنهم لم يغلبوا عليه بعجز ولا بضعف ولا بقلة من المال وإنما غلبوا عليه بأمر إلهي لا دافع له، فقال له المنصور ما أبيت عن هدمه إلا ميلا مع العجمية قال له لا، ثم قال إن في هدمه فساد أموال عظيمة فخالفه المنصور وأخذ في هدمه فما هدم إلا سطحا قليلا من سطوحه كان مقبيا فأفسد على هدمه مالا عظيما، فلما رأى ذلك كف عن ذلك الفعل ثم دعا خالدا قال له صرنا إلى قولك قال له خالد إن رأيي الآن أن تبلغ به الماء قال له المنصور ولم؟ قال له إني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه، والهدم أيسر من البناء فكف المنصور وترك وبقي الإيوان على ما كان.

       وَتَوَالتْ بُشْرَى الْهَوَاتِفِ أَنْ قَدْ   وُلِدَ الْمُصطَفَــــى وَحَقَّ الْهَنـَــاءُ

معناه: أنه توالت البشائر على الناس في تلك الليلة بشرت بولادته ونقل من ذلك كثير، وحكاية ملك الفرس معلومة لأن إيوانه انهدم منه أربع عشرة شرافة فلما أصبح ورآها تكمد في قلبه بكمد عظيم وكتمه مع أن إيوانه كان في غاية التدقق، فلما أصبح وجلس في مجلسه وجلس الديوان معه فجاءه البريد من أصحاب نارهم العظمى التي يعبدونها من دون الله بعثوه له يخبرونه بأن النار أطفئت بغير سبب ولم يغفلوا عنها ولا نقص حطبها فلما أخبر بذلك زاد كمده مع ما هو فيه من هم الإيوان، فقال لأهل مجلسه ما هذا فقال له المُوبَذَانُ وهو: القاضي بلغتهم قال له وأنا أصلح الله الملك رأيت في هذه الليلة رؤيا رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت الدجلة وانتشرت في بلادها، فقال له كسرى وما عندك في تأويلها يا مُوبَذَانُ، قال أراه حدثا يأتينا من ناحية العرب فبينما هو كذلك إذ ورد عليه البريد بأن ماء بحيرة ساوة قد غاض في تلك الليلة بلا سبب، ثم ورد عليه البريد بأن وادي السماوة فاض فيضا عظيما، فلما وقع في هذا الأمر بعث إلى عبد المسيح بن بغيلة وكان بالحيرة -بعث إليه كسرى- ليأتيه ليخبره في أمره [بأمر حل به فأتاه] ما أتاه، فلما جلس بين يديه قال له: ما تريد؟ قال له: في نفسي أمر عظيم! قال له: ما هو؟ قال له إنما أريد من الناس من يخبرني بالأمر الذي في نفسي من غير أن يعلمه بذلك، ثم يخبرني ماذا يراد منه! فهناك أثق بخبره، قال له: لا يكون علم هذا إلا عند خال لي يسكن بشرقي الشام، قال له كسرى: فاذهب إليه وسله عما بعثك فيه وماذا يراد منه، فقام من ساعته وسافر إليه وكان بشرقي الشام فلما وصل إليه وجده بآخر زمن من عمره فقال له جلساؤه كلمناه فلم يتكلم لأنه في غمرات الموت فأنشد عبد المسيح عنده:

أصــم أم يـسـمـع غـطــريـف الـيـمن   أم فــاد قــد لــم بــه شــاوي العـنــن
يــا فــاصـل الـخـطـة أعيت من ومن   أتـــاك شــيــخ الـحــي مـن آل شـنن
وأمـــه مــن آل ذئــب بــن حـجـــــن   أزرق نــهــم النــاب   صـرار الأذن
أبــيــض فــضـفـاض الـرداء والبـدن   رســـول قــيــل الـعجم يسري للوسن
يــجــوب بـي الأرض عـلنــداة شزن   لا يــرهـب الــرعـد ولا ريـب الزمن

أنشدها عند رأسه ففتح سطيح عينيه ثم قال عبد المسيح: أتى إلى سطيح على جمل مشيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لخمود النيران ورؤيا المُوبَذَان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت الدجلة وانتشرت في بلادها عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاض وادي بحيرة ساوة، فليست الشام لسطيح شاما يملك منه ملوك وملكات على عدد الشرافات وكل ما هو آت آت، ثم فاضت روحه فلما جاء عبد المسيح إلى كسرى وأخبره بما قاله سطيح فصدقه وقال هذا هو الذي في نفسي، ثم خفف الهم عن نفسه وقال إذا تملك منا أربعة عشر ملكا قد صارت أمورا.

حَــبَّــــذَا عِــقْـدُ سُــــؤْدَدٍ وَفَــخَارٍ   أَنْــتَ فِــيهِ الْـيَـــتِــيـمَةُ الْعَصْـمَاءُ

 

لما ذكر النسب وعلوه قال: “حبذا“: وهذه حبذا كلمة تقولها العرب في الشيء الذي جاء في مطابقة هوى الإنسان، يقال: فيه حبذا يعني ما أحب ذا لنفي مصدره مصدر التعجب، يعني هذا الشرف وهو النسب العالي يعني نسبه العالي، يعني نسبه صلى الله عليه وسلم، صار في صورة العقد وهي القلادة التي يلقيها النساء في أعناقهن من الذهب والياقوت.

قال: “عقد سؤدد“، صار هذا النسب في صورة العقد المنظوم يعني واحدا بعد واحد. قال: “حبذا عقد سؤدد” يعني: عقد شرف وفخار وهو تعظيم الرتبة على الناس.

أنت فيه“: ذلك العقد أنت فيه.

اليتيمة العصماء“، صلى الله عليه وسلم: والمراد باليتيمة هي الياقوتة التي تكون بين الصدفين فريدة. فإن حيتان بحر الهند تطلع في أيام النيسان على سطح البحر. الحيتان والأصداف كلها تطلع على سطح البحر مرتقبين لمطر النيسان فاتحة أفواهها، فأي نقطة سقت في فمها انعقدت ياقوتة في جوفها، والياقوت والجوهر والدر واللؤلؤ كلها أسماء مترادفة إلا أن اصطلحت على تسمية الأحمر بالياقوت، وعلى تسمية صغار الياقوت الأبيض باللؤلؤ، قال سبحانه وتعالى في وصف الحور: ﴿كَأَنَّهُنَّ اَلْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ والمراد: الياقوت الأحمر. ثم قال في وصف الحور أيضا في الآية الأخرى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ فاللؤلؤ إذا كان مكنونا لم تمسه الأهوية والرياح، كان في غاية العلو والشرف والحسن والبهاء.

وقد قلنا إن كل قطرة قطرت في فم حوتة أو صدفة ابتلعتها، فالحوتة تبتلع النقطة والنقطتين والصدفة كذلك تنطبق على ذلك، فمن ابتلعت نقطة تكونت من ذلك ياقوتة أو نقطتين تكونت ياقوتتين وكذلك الصدفة، ثم إن النقطة تكونت مع أختها في جوف الحوت وإلا في جوف الصدفة لا يختلطان، فكل نقطة تتكون لؤلؤة، فمن كانت في جوفها نقطة واحدة تكونت ياقوتة واحدة وهي المسماة عند الناس باليتيمة والفريدة، فإن هذه الياقوتة اليتيمة في غاية المراتب من العلو والشرف والجمال والحسن والخواص، وكل ياقوتة مع غيرها في الجوف من اثنين فصاعدا انحطت مرتبتها عن الفريدة واليتيمة.

شبه الشيخ رضي الله عنه هذا النسب العالي بالعقد المنظوم وهو فيه صلى الله عليه وسلم،  بمنزلة الياقوتة اليتيمة التي هي في غاية العلو والشرف، فإنها عند أهلها يضعونها في أسفل العقد، والعقد من فوقها منتظم بالمناظرة، واليتيمة لا نظير لها فشبهه صلى الله عليه وسلم، باليتيمة في العقد.

قوله: “العصماء” معناه: التي عصمت من مشاركة غيرها في محلها فإنها لم يتكون معها شيء. وفي هذا البيت إشارة إلى تمثيله صلى الله عليه وسلم،  بالياقوتة اليتيمة فإن أبواه صلى الله عليه وسلم،  لم يكن لهما ولد غيره لا ذكر ولا أنثى فشبه بالياقوتة اليتيمة التي تكونت بين الصدفين، فيه تشبيه بديع يعني ذلك النسب الشريف على غاية علوه وارتفاعه صار في منزلة العقد الشريف منتظم من ياقوت وذهب، أنت في ذلك العقد اليتيمة العصماء، والعصماء من وجهين أنها عصمت نفسها من مشاركة غيرها في المحل وعصمت طالبها من الالتفات إلى غيرها، فإن طالب الياقوت إذا وجد اليتيمة لم يلتفت إلى غيرها، كما تقول العرب في المرأة التي في غاية الجمال والحسن ويسمونها عقيلة، يريدون أن من نظر إليها وأدركها عقلت عقله عن الالتفات إلى غيرها، مأخوذة من عقل البعير إذا عقل حبس في محله فهذه هي “العصماء”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى