كلمات الوفود
فاس في 14/15/16 رجب 1435هجري.
كتبه الحاج الحبيب بن حامد “الوفد التونسي”
بسم الله و الحمد لله
و الصلاة و السلام على خير خلق الله
مشايخنا الأفاضل، وعلماءنا الأجلاء ، ساداتنا أحباب الله تعالى، السلام عليكم و رحمة الله و بركاته و تحية خاصة إلى من اجتمعنا بسببه شيخنا الهمام الحاضر معنا على الدوام سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه و قدس سره و متعنا و المسلمين برضاه الدائم امين.
أيها الجمع الكريم، هذه الفرصة العزيزة تؤكد مرة أخرى أن التواصل العلمي و التكامل الفكري حلقة متينة من حلقات الترابط البناء بين المسلمين. فلا يزال التواصل و التأثير ايجابي بين تونس وافريقيا عامة و تونس و المملكة المغربية خاصة. و لقد لعب جامع الزيتونة بتونس و جامع القرويين بفاس دورا رياديا في إرساء الفقه المالكي و العقيدة الأشعرية و تثبيتهما إفريقيا على وجه الخصوص. و لا يزال المدد قائما بيننا على المستوى الفقهي و العقائدي و الصوفي. و هذا اللقاء الثالث شاهد على ما نقول.
فهذا سيدي الحاج علي حرازم برادة الفاسي في تونس يتلاقى مع شيخ الاسلام سيدي إبراهيم الرياحي و يلقنه الطريقة التجانية. و هذا سيدي ابراهيم الرياحي في زيارة إلى المغرب لملاقاة سلطانها و زيارة شيخه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، و هذا شيخنا التجاني يدرس بجامع الزيتونة في تونس و يطلبه الباي للاستقرار فيها، و هذا الحاج الأحسن البعقيلي عالم سوس و خليفة من خلفاء الشيخ رضي الله عنه يبعث بتلميذه الأبر الحاج محمد اقمار السوسي إلى تونس فيستقر بها و يتلاقى مع أعلام الطريقة بها و خاصة سيدي الصادق الرياحي و أكابر علماء الزيتونة، فتكبر و تتوثق عرى المحبة بينهم متسمة بالتعاون و نكران الذات فيجعلون مصلحة الأجيال هي مقصدهم الأعلى و يبارك الله لهم حتى يتربى جيل عرمرم على يد هذا العارف المغربي الجليل سيدي محمد اقمار جاء لتونس عام 1929 و استقر بالعاصمة إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 2002 رحمه الله و جازاه خير الجزاء. تزوج بتونس وخلف الأولاد و الأحفاد و أحبنا و أحببناه لله في الله.
فالله أحمد على هذا التوافق بين دولنا الاسلامية عامة، و الافريقية المغاربية خاصة، و أثمن دور الطريقة التجانية في توثيق هذه الصلة. و الله أحمد على انتشارهذه الطريقة العظيمة القدر و المقدار في تونس بلد التسامح و الإخاء و إني لأشكر نيابة عنكم الساهرين على الشؤون الدينية في تونس على جهودهم المتواصلة في بناء بيوت الله و ترميمها، و إعادة الاعتبار “للزواوي” و فتح ما أغلق منها.
إخواني و أخواتي الكرام يقول الله تبارك و تعالى في الحديث القدسي:
“حقت محبتي للمتحابين فيّ و حقت محبتي للمتواصلين فيّ و حقت محبتي للمتزاورين فيّ و حقت محبتي للمتباذلين فيّ المتحابون فيّ على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون و الصديقون و الشهداء”[1]
هذا الحديث القدسي يحفّز الهمم على زيادة البذل و العطاء و يرتكز في قرائتنا على كلمتين هما أس الطريقة التجانية و قلب رحاها و روح التربية فيها و أصل مقام الاحسان. هاتان الكلمتان هما “حقت” و “فيّ”.
فالتحابب و التواصل و التناصح و التزاور و التباذل إذا لم يكن في الله و لله فإنه لا يؤدي إلى النتيجة التي هي محبة الله الخاصة لفاعله.
و كل عمل غير خالص لوجه الله لا يؤجر صاحبه و لا يذوق منه حلاوة الإيمان، فإذا حق العمل لله حقت محبة الله له.
قال العارف الأحسن البعقيلي:” فإن الله لا يوصل إلا بأربعة حقوق وهي: الشريعة، و العمل بمقتضاها، ووساطة رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم نزع الأغراض مع الله في جميع أعمالك.
و نزع الأغراض معلوم في الطريق كركن أساسي للسلوك و التربية فيها و هو يؤدي إلى التعلق الحقيقي بالله تعالى قلبا و قالبا و عدم الميل و التوكل على سواه مع معانقة الأسباب ظاهرا و الاعتماد على الله باطنا. وهذا هو مقام الإحسان: أن تعبد الله، لا غيره، كأنك تراه إن لم تكن تراه فإنه يراك.
و هذا ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه و سلم شيخنا التجاني كما ذكره صاحب الإراءة[2] قال: فجرده النبي صلى الله عليه و سلم من الغير و الغيرية فقال له خذ هذه الطريقة بلا مشقة و لا حرج و لا عزلة و لا خلوة حتى تصل مقصودك الذي وعدت به في علم ربك و قال و اجتهد في أمرين في النفس و هو عدم الخطور من غير و غيرية في قلبه و عدم القصد و إياك أن تطلب بعملك فتحا و أنت مفتوح عليك فإن طلب الفتح عويق الفتح و قال له إن للحضرة الإلهية بابين باب مفتوح و باب مسدود فإذا برزت العبادة من صاحبها بقصد شيء معها تمر عبادته في الطريق الموصلة إلى الباب المسدود فتحجب عبادته و يحجب صاحبها و إذا برزت من صاحبها من غير قصد شيء معها بأن أتقنها و أحسنها بإفرادها لحضرة مولاه من غير غرض بل بمحض العبودية تمر عبادته إلى الطريق الموصلة إلى الباب المفتوح فتجد الباب مفتوحا و تقبل و يدخل صاحبها و يقبل و يمهد له فرش القبول بأدبه الخ… فعدم قصد غرض ما في العبادة هو إخواني معنى الحديث حقت محبتي للمتحابين فيّ الخ… و يكرّم الله تعالى في هذا الحديث القدسي أحبابه و يدلنا على مكانة المتحابين في الله و هي مكانة يغبطهم عليها النبيون و الصديقين و الشهداء لعظمتها عند الله تعالى و هي أن يعبد العبد ربه حق عبادته خالصة لوجه الله تعالى.
هذا ما أورثه في كل فقير ذوقا و علما و دراية مولانا سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه و أرضاه و على نهجه جميع سادتنا الكرام من سندنا و مددنا من أهل الطريقة التجانية الأحمدية المحمدية من أقطاب و عارفين علماء و مربين كمّل جازاهم الله خيرا و حفظهم في الدارين أورثونا حب الله و رسوله و إتباع نور الله و طريق الحق سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم.
قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } “سورة الذاريات اية 56” فالعبادة إذا هي المهمة الأساسية التي خلق من أجلها الجن و الإنس و مثل الذي يعبد الله عل غرض كمثل من يعبد سواه و إن كان من الراكعين لأأانتالبيبيالساجدين الشاكرين ظاهرا فمن عبد الله حبا في الجنة فقد أشرك الجنة في عبادة الله و من عبد الله خوفا من النار فهو كذلك و من عبد الله طلبا للاخرة فهو من أهل الاخرة فالدنيا من الدنو و الاخرة من التأخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرام على أهل الله“[3] فإن الجنة و النار و الحياة و الموت تحصيل حاصل “جف القلم بما أنت لاق” فمن قصر عبادته على الجنة كان عبدا لها و من عبد خوفا من النار كان عبدا لها و من عبد الله كان عبدا لله ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ” و صفه بأعظم الأوصاف و قربه و نسبه إلى نفسه تعالى.
هذا ما علمنا إياه شيخنا و قدوتنا سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه و هو أن نعبد الله في كل نفس حق عبادته في كل فعل و في كل قول فكل عمل يقوم به الفقير إلى الله إنما يكون خالصا لوجه الله فالطريقة التجانية هي الطريق إلى الله ليست معوجة إلى اليمين و لا إلى الشمال بل هي مستوية مباشرة من القلب إلى الله. و كل مشائخ الطريقة التجانية يعملون على إنارة هذا الطريق، طريق اللا أنا و طريق اللا غرض مع الله في العبادة، طريق الاحسان و طريق السنة و القران و كل شيخ مربي عارف إنما يربي مريديه على معرفة الله لا على كثرة العمل، فمن دلك على كثرة العمل أتعبك و من دلك على غير الله خانك و من دلك على الله نصحك و كلهم يدلون على الله تعالى و لله الحمد و المنة على هذا النفس الغالي المتوارث بينهم. و عن العارفين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنٌ ، وَمَعْدِنُ التَّقْوَى قُلُوبُ الْعَارفين” ج ص 7320.
و المعدن: من عدن فلان بمكان أي أقام فيه، و مركز كل شيء هو معدنه .
فالفقير التجاني لا يسعى إلا للقاء وجه ربه و المثول بين يديه، تستوي الأمور عنده و تكون وجهته واحدة و هي الطريق إلى الله، يعانق الأسباب المعاشية و يتقنها لكنه لا يضعها في بيت الرب، لا يضعها في قلبه، لا يضعها في معدن التقوى بل يكون ظاهره مع الناس و قلبه مع ربه و نبيه و شيخه.
و لا يتأتى هذا الذوق و هذا التحقق إلا لمن حكّم عل نفسه شيخا عارفا بالله يقوم على تربيته حتى يريه شخوصها، و إلا فإنه لا يصل إلى حقيقة معرفة الله و لو عبد عبادة الثقلين.
و الأصل في هذا أنه لم يعرف الله أحد بدون واسطة: لأن الوسائط هم الذين جربوا الطريق و عرفوها و عرفوا أنفسهم و عرفوا ربهم و أمدهم ربهم حتى أصبحوا قادرين على تعريف غيرهم به. فكيف يعرّف به من لم يعرفه؟ فالأنبياء و الرسل وسائط و الكتب السماوية وسائط و العارفون بالله وسائط و كل ما يدل على الله فهو واسطة بين الخالق و المخلوق ككل ما خلق الله فإنما يدل في الحقيقة على الله إن تمعنت فيه.
وسيدنا و مولانا أحمد التجاني و سنده من أقطاب الطريقة التجانية و عارفيها رضي الله عن جميعهم هم من أعظم الوسائط في طريق الله.
و سيدنا و مولانا أحمد التجاني رضي الله عنه هو أعظم هدية وواسطة و نعمة جوهرة العلماء الربانيين بعد كتاب الله العزيز و رسوله صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام رضي الله عن جميعهم.
و كذلك ولاة الأمر من ملوك و رؤساء دول هم كذلك من الوسائط التي يتجلى فيها سبحانه و تعالى و ينفذ بها شؤونه.
و من أعظم النعم علينا أن الشيخ رضي الله عنه كسائر خلفائه وضعنا في علاقة محبة و احترام مع ولاة الأمر و لم يتركنا في اصطدام و لا تناحر معهم. قال القطب التجاني رضي االله عنه: “إياكم و التعرض للولاة فيما أقامهم الله فيه فإن لله عادة جارية إلى الان أن كل من تعرض لهم لا بد أن يمكنهم الله فيه حتى يتصرفوا فيه”.
و أصل هذا أنهم مسلمون مؤمنون محبون للخير طوقهم الله بأمانة صعبة لا بد ان نعينهم عليها قولا و فعلا قال الإمام البعقيلي رضي الله عنه: “فمن تقدمنا من الأمراء و غيرهم هو اود الدين و حملته حتى وصلنا طريا كاننا تلقيناه من فيه “صلى الله عليه و سلم”… فالأمة معصومة من الكفر فما مضى وجب السكوت عنه فالقران فضح من قبلنا و هو اخر كتاب ينزل سترا لعيوب هذه الأمة فمن فضح عيوب هذه الأمة فضح الله عورته و لو في جوف رحله…فكل من يتعرض لولاة الأمر يعلم أنه لا حظ له في العقل فضلا عن الدين فالأمراء من كل عصر…خاصة الله في أرضه يكف بهم الظالم عن المظلوم…” فعليك بتعظيم الأمة كلها خصوصا أهل المغرب فإن لهم مزية عظيمة لا يعقلها إلا العارفون فإنهم عل مذهب الأشعري و هو إمام أهل السنة… و على مذهب مالك الذي هو ‘مام المدينة المنورة فكل ما اشتمل عليه المغرب من المسلمين أولياء لله فالولي من حسنت عقيدته… فلم يكن فيهم من رسخت فيه شبهة عقلية باعتبار الله و باعتبار رسله و كتبه و ملائكته و اليوم الاخر و باعتبار الصحابة فكلهم عدول بل الأمة كلها عدول و باعتبار الأشراف… فلا يوجد بفضل الله رجل أو امرأة في المغرب يبغض صحابيا أو شريفا أو عالما أو أميرا… فأهل المغرب شيعة و أحباب الأشراف لكن مع كمال إتباع السنة بحيث أحبوهم لحبهم و أحبوا الصحابة لحبهم فلا يدخلون بين الأشراف و بين الأصحاب فكمل اعتقادهم في الأشراف و الصحابة و علموا أن الأولى بالأمور من ولاه الله متقدما أو متأخرا فربحوا كيف و قد تهذبوا على يد إمام دار الهجرة…
لا تزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله… فانظر إلى “فاس” و ما اشتملت عليه من العلماء الأحياء و الأموات فما دام أهل المغرب يعظمون الأشراف و العلماء و الأولياء و من سلف الأمة و لا يلعن اخر هذه الأمة أولها يكونون على أتم الأحوال… و من أعجب أمره أنه فتح بالكرامات من بركات عقبة لا بالسيف “لا إكراه في الدين”. فدخل أهل المغرب في الدين محبة و ذوقا و استسلاما فحسن اسلامهم إلى قيام الدهر…
و لنكتفي بهذا القدر أنظره كله في كتاب “رسالة إلى الولدان من فارس أهل الميدان” للبعقيلي رضي الله عنه امين..
و نسأل الله العلي القدير أن ينفعنا جميعا بهذا الجمع المبارك العظيم و يجعله سببا لمزيد الخيرات و الألطافللمسلمين قاطبة و لمزيد الاستمداد من بحر هذا الكنز المطلسم سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه و أرضاه و أستسمحكم في الاختتام بهذه الأبيات للقطب الرباني التونسي سيدي إبراهيم الرياحي[4] قال رضي الله عنه:
اه.. ألــــف على ليـــــــــال تقضت نظمـــــــــت شملنــــــــــــــــــا بأي انتظام
حيث فــاس قرارنــــــــا و هي دار مالدار في حسنها من مســــــــــــــام
مالمصـر و لا لبغداد معنـــــــــــى مشبه لا و لا العراق و شــــــــــــــام
أي سر فيها و أي ســــــــــــــــــــــرور قد قطفنا و أي شرب المـــــــــــــــدام
أي معنى و أي لطف و ظرف و غرام يهاج بالانعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام
و الإمـــــــــــــــــام التجاني أحمد فينا داعيا بالهـدى لدار الســـــــــــــــــــــــلام
يسرج النـــــــــــــــور في القـــــــــــــــــــلوب و يمحو بمياه الغيوب كل ظلام
يسكب الســـــــــــر في سراير قـــوم أصبحوا بالوصال سكــــــــرى غرام
ذاك فان في الله حبــــــــــــا و هذا في جمال النبي بدر التمـــــــــــــــــــــام
يا نفوسا دكت لقهـــــــــــــر التجلي يا عقولا خرت للطف الكـــــــــــــــلام
مدد مدهم به الشيخ جــــــــودا إن جود التجاني في الكون هام
اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق و الهادي إلى صراطك المستقيم و على اله حق قدره و مقداره العظيم
سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين
كتبه الحاج الحبيب بن حامد “الوفد التونسي”
مقدم الطريقة التجانية زاوية باب الخضراء –جامع الحمد تونس-
[1] الجامع الصغير، السيوطي، حديث 2044
[2] إراءة عرائس فلك الحقائق العرفانية بأصابع حق ماهية التربية بالطريقة التجانية، الأحسن البعقيلي.
[3] رواه الديلمي في الفردوس عن ابن عباس قال المناوي فيه جبلة بن سليمان أورده الذهبي في الضعفا وقال ابن معين ليس بثقة. لكن حسنه الإمام السيوطي رحمه الله في الجامع الصغير.
[4] كتاب تعطير النواحي ترجمة العلامة ابراهيم الرياحي