كتب أصحاب الطريقةمقالات

شِفاءُ السَّقيمِ بمولدِ النبيِّ الكريمِ للعلامة الْحسنِ بنِ عمرَ مزُّورِ

شِفاءُ السَّقيمِ

بمولدِ

النبيِّ الكريمِ

 

للعلَّامةِ المُحقِّقِ

أبِي عليٍّ سيِّدي الْحسنِ بنِ عمرَ مزُّورِ

 

 

 

منشورات مشيخة الطريقة التجانية

1440 هـ  ــــــ  2018م


العلامة:

سيدي الحسن بن عمر بن الحاج إدريس مزور

(1286-1376 هــ /1869-1957 م)

 

العلامة الفقيه المقدم سيدي الحسن بن عمر بن الحاج إدريس مزور، فقيه مالكي من العلماء بالحديث، من أهل مكناس، ومن مشايخ مصنف: “دليل مؤرخ المغرب الأقصى”[1].

ولادته:

ولد عام 1286-1376 هـــ، بمدينة فاس[2] العلامة الكبير، الوطني الغيور، “المشارك، المحصل المدرس، الفصيح النفاعة، يملي أول الدرس بعبارة تكتب من لفظه كأنه يؤلف مع حلاوة وذلك مع كبر سنه”[3].

مكانته العلمية وشيوخه:

أقبل على طلب العلم بالقرويين سنة 1302 هـــ، فأخذ عن كبار شيوخها قرأ القرآن الكريم، وكان يحفظ السبع، وقرأ العلوم على عدد من كبار الشيوخ، وأجازه الشيخ العربي بن إدريس العلمي الموساوي (تــ 1320 هـــ)…، إلى غير ذلك من الأشياخ الذين حوتهم فهرسته المسماة: ” إتحاف الأعيان بأسانيد العرفان[4].

وبالنسبة لتصوفه فقد كان تجانيا الطريقة، بل كان من كبار مقدميها، أجازه فيها سيدي العربي العلمي، وسيدي محمد بن عبد الله الحسني البوكيلي، كما أجازه في التقديم المقدم البركة سيدي محمد بن العربي العلوي الزرهوني والعلامة سيدي محمد كنون[5].

وقد كانت له مواقف وطنية، منها أنه كان من جملة الموقعين على عريضة الاستقلال عام 1944 م، كما كان له اتصال بالسلطان محمد الخامس حيث كان بجانبه إبان الأزمة التي كانت بينه وبين المقيم العام الفرنسي، حاثّا إياه على التمسك بالثوابت الوطنية وعدم الاكتراث لتهديدات المستعمر الذي قرر خلعه ونفيه، مبشرا إياه بالنصر والعودة، وهذا ما أكده تلميذه ابن سودة قائلا: “وفي هذه الفتنة الأخيرة التي أدت إلى خلع جلالة الملك محمد الخامس عن عرش أسلافه الكرام، أظهر صاحب الترجمة شجاعة نادرة مع كبر سنه، وامتنع من التوقيع على خلعه، وأدى ذلك إلى عزله عن التدريس بكلية القرويين ومنعه من راتبه الشهري، وجلس في داره معظما محترما تؤمه الوفود من كل حدب لأجل الرِّواية والأخذ عنه، ولما رجع جلالة الملك محمد الخامس من منفاه جعله رئيسا لكلية القرويين لكنه لم يزاول الأشغال لمرض ألمَّ به وتوفي منه”[6].

تلامذته:

من بين تلامذته العلامة عبد السلام ابن سودة حيث قال في حقه: “أخذت عنه وجلست في درسه واستفدت منه، وقد أجازني إجازة عامة نصها: “بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم، الحمد لله هادي من استهداه، وأستند عليه في جميع أموري، وكافي من استكفاه، وأعتمد عليه في الورود والصدور…، أما بعد: فقد أجاز كاتبه ذو العجز والفضول، المفتقر لرحمة مولاه الغني الشكور، الحسن بن عمر مزور، السائل الذي شمّر عن ساعد الجد في طلب العلم وتعلمه، والغوص عن كشف دقائقه وتفهمه، الفقيه النبيه، العلامة الأمجد، سيدي عبد السلام ابن الفقيه الأجل، سيدي عبد القادر ابن سودة، في جميع مروياته ومسموعاته، معقولا ومنقولا، فروعا وأصولا، مما تداوله وتعاطاه علماؤنا الأعلام، وأئمتنا الأفاضل الكرام، إجازة مطلقة غير مشوبة إن شاء الله برياء أو سمعة..[7].

كما تتلمذ عليه أيضا العلامة سيدي إدريس بن محمد بن إدريس العراقي، والعلامة سيدي الحسن بن الصديق الغماري.

مؤلفاته:

له مؤلفات عديدة منها:

+ السيوف المهندة السنان لمستعمل التبغ من الإخوان.

+ الحلل الزنجفورية على البردة البوصيرية في جزءين.

+ حاشية على تأليف الشيخ الطيب بن كيران في حرف “لو“.

+ شرح منظومة الشيخ الطيب بن كيران في المجاز والاستعارة.

+ تقييد في النهي عن إغلاق المتاجر يوم الجمعة إلا في وقت النداء.

+ وفهرسة جامعة لشيوخه سماها: “إتحاف الأعيان بأسانيد العرفان” استهلها بقوله: “الحمد لله الذي حفظ الشريعة المحمدية بحفظ أسانيدها…الخ،

فرغ من كتابتها سنة 1366 هـــ 1948م، تقع في نحو سبع كراريس توجد منها نسخة في الخزانة الأحمدية بمكناس، عليها خط المؤلف بالإجازة لصاحب الدليل[8].

وفاته:

بعد حياة مليئة بالعطاء توفي- رحمه الله تعالى- في الساعة الثانية من ليلة الخميس فاتح شوال عام 1376 هـــ، إثر مرض ألمّ به، ودُفن يوم العيد بعد صلاة العصر بزاوية كائنة قرب درب ابن سالم الذي كان يسكن فيه بالطالعة[9].

  حورية بن قادة
باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد
للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

 

 

 

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

الحمدُ للَّه الذي فتحَ أقفالَ العالمِ بنورِ الذاتِ الأحمديَّةِ،  وجعلَهُ السَّارِيَّ في الكلِ بمادَّتِه النُّورَانِيَّةِ،  فأمدَّه بهِ منهُ في الصورِ الروحانِيةِ والجسمانيةِ. وخلعَ عليه بُرودَ عنايتِهِ تفضلاً بصفَةِ المحْبوبيَّةِ،  فثَبتَ للحقيقةِ المحمدَّية على سائرِ الحقائقِ السبْقيَّةُ،  فَهُو النورُ الموصوفُ بالتقَدُّمِ والأُوُّليَةِ،  فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك مظهرَ ذاتِ العزَّةِ والعَظمةِ والكبرياءِ والألوهِيَّةِ،  وَمشْـرِقَ ذاتِ الْجَلالِ والجمالِ والكمالِ والربوبيةِ،  والسرُّ الذي انشقتْ منهُ أسرارُ الذاتِ،  والنورُ الذي انفلقتْ منهُ أنوارُ الصفاتِ،  والروحَ الجامعَ لأسرارِ عوالمِ الملكِ والملكوتِ،  والسـرَّ الساطعَ من عرشِ عوالمِ الحقِّ والجبروتِ،  والقطبَ الجامعَ لشمسِ كواكبِ الحضـراتِ،  والفردَ الواحدَ المشارَ إلى جوهرِ روحهِ بجميعِ الإشاراتِ،  والبدرَ الطَّالعَ من فوقِ سماواتِ الأفراحِ، والفجرَ اللاَّمعَ بجميعِ المسرَّاتِ والبشاراتِ والأفراحِ،  والنورَ الذي نظرَ إليهِ الرَّبُّ جلَّ جلالُه فخلقَ منهُ الأكوانَ أجمعينَ، وجعلَه محلَّ نظرِهِ من العالمينَ.

وأشهدُ أنَّه اللهُ الذِّي لا إلهَ إلَّا هوُ الواحدُ الأحدُ المنزَّهُ عنْ الُمشَابهَة والِمثْلِيَّة،  فيِ الذَّاتِ والصفاتِ والأفعالِ الاختراعِيَّة،  وأشهدُ أنَّ سيدنَا ومولانَا وذُخرنَا وملاَذَنَا وَهادينا وملْجَأَنَا ومُمدَّنا ومُنقِذنا ومُكمِّلنَا ونَاصحَنَا وَحبيبِنَا ونبيَّنا محمداً عبْدُه وَرسولُه الذي جعلَه عرْشَ المطالعِ الرَّحمانيَّة،  وسماءَ المشارقِ الربانيَّة،  وفلكَ اللَّطائفِ الصمْدانِيَّة،  وشمسَ المعارفِ الرحمانيَّة،  وغوثَ العجائِبِ النُّورانيَّة،  وبحرَ الحقائقِ الملكوتِيَّة سرُّ أسرارِ الَمعقُولاتِ، ونورُ أنوارِ المحسوساتِ، النُّورُ الساطعُ فيِ كلِّ ذرَّةٍ منْ ذرَّات المكوِّناتِ،  والسـرُّ اللاَّمعُ في كلِّ لمحةٍ من لمحاتِ المخلوقاتِ،  نعمةُ ربِّ العالمينَ،  وعطيَّةُ أكرمِ الأكرمينَ،  المنزَّلُ عليه القرآنُ المبينُ، المخاطبُ بهذا الخطابِ المتينِ )وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ( [الأنبياء: الآية 107].

فَسبحانَ منْ جعلَهُ نوراً ساطعاً في جميعِ الموجوداتِ وحِرْزاً حصيناً لمنْ تمسَّكَ بأذيالِهِ في جميعِ اللَّحظاتِ وفتحَ بهِ أعيناً عُمياً،  وآذاناً صمّاً،  وقلوباً غُلفاً.  فأَزالَ به ظلماتِ الجهلِ والريْبِ، وأزاحَ به عن قلوبنا وَصْمَ العيبِ،  وأنارَ به قلوبَ المؤمنينَ،  وهدَى بهِ إلى سُبيلِ المقرَّبينَ صلى اللّه عليه وسلَّمَ وعلى آله وأَصحابِه وأزواجِه وذريَّتِه صلاةً تدومُ بدوامِ الذَّاتِ الأَحْديَّةِ الرحمانِيَّة،  وتبقَى ببقاءِ الفردانيَّة الصمْدانيِّة،  عددَ ما أحاطَتْ بهِ ذاتُ الألوهِيَّة والربوبِيَّة وتعلقَ به العِلمُ المحيطُ في سابقِ الأزليَّةِ.

أمّا بعدُ، فهذه بعوْنِ اللّهِ تعالى لَطيفةٌ من لطائفِ نفحاتِ العواطفِ الرحمانيَّة ومنحةٌ من منحِ مواهبِ العطايا الربانِيَّة،  تُنْبِئُ عن إشراقِ أنوارِ الذاتِ الأحمَّدِية ولوامعِ ضوءِ فجْرِها علَى سائرِ البرِيَّة،  مَنْ جمعَ اللّهُ فيه سائرَ الكمالاتِ الباطنَةِ والظاهرَةِ،  وخصَّه بكوْنِه الُممِدَّ لأهلِ الدنيا والآخرةِ.  أشرفُ الموجوداتِ منزلةً وأعلاها وأكرمُها مكانَةً وأسنَاهَا،  منْ هوَ سيِّدُ الأولينَ والآخرينَ والملائكةِ المقربِينَ أكملُ رسلِ اللّهِ،  وأفضلُ خلقِ اللّهِ،  المخصوصُ بالشفاعَةِ العظمَى يومَ الدِّينِ،  والمنصوصُ عَلَى عمومِ رسالتِه إلى العالمينَ،  صاحبُ اللواءِ المعقودِ،  والحوضِ المورودِ،  والمقامِ المحمودِ،  الذي يَحْمَدُه فيه الأولونَ والآخرونَ، ويحتاجُ إلى جاهِهِ يومئِذٍ الأنبياءُ والمرسلونُ،  صاحبُ المعجزاتِ الباهرةِ،  والكراماتِ الفاخرَةِ،  والفضائِلِ التِي لا تُحصَى،  والشمائِل التي لا يُمكنُ أنْ تُستقْصَى.

فبالِغْ وأكثرْ لنْ تُحيطَ بوصفِه

 

وأيْنَ الثُّريا مِنْ يدِ الُمتنَاوِلِ

أعْيا الورَى فهمُ معنَاهُ فليْسَ يُرى

 

في القربِ والبعدِ فيهِ غيرُ منفَحِمِ

وسمَّيْتُه « شِفَاءَ السَّقِيمِ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ »،  ومِنْ فضلِ مولاَنَا ذِي الطَّولِ والامْتنانِ،  الجوادِ الكريمِ الرحيمِ الرحمنِ،  أَسْأَلُ أنْ يجعلَه لنَا ذَخيرةً نفوزُ بها مِنْهُ بالرحمةِ والرِّضْوَانِ والانخراطِ في سلْكِ ذَوِي الحضْرَةِ المحمَّدِيَّة سيدِ بَنِي عَدْنَانَ،  وأنْ أكونَ منْ أهلِ وِدَادِهِ وقُرْبِهِ ومشاهدَة ذاتِه الأحمدِيَّة وحزْبِه:

فَأَنْتَ رَسُولُ اللّهِ أعظمُ كائنٍ

 

وأنْتَ لِكُلِّ الخَلْقِ بالحَقِّ مُرْسَلُ

عليْكَ مَدَارُ الخَلْقِ إِذْ أَنْتَ قُطْبُهُ

 

وَأَنْتَ مَنَارُ الحَقِّ تَعْلُو وتَعْدِلُ

فؤَادُكَ بَيْتُ اللّهِ دارُ علومِه

 

وبابٌ علَيْه مِنْهُ للْحَقِّ يُدْخَلُ

ينابيعُ علمِ اللّهِ منْهُ تَفجرَتْ

 

فَفي كُلِّ حيٍّ منْهُ للَّهِ مَنْهلُ

مُنحتَ بفيضِ الفضلِ كلَّ مُفضَّلٍ

 

فكلٌ لهُ فضلٌ به منْكَ يَفضُلُ

نظمْتَ نِثارَ الأنبياءِ فتاجُهمْ

 

لديْكَ بأنواعِ الكمالِ مُكلَّلُ

فيا مَدَّةَ الإِمْدادِ نُقطةَ خَطِّهِ

 

وَيا ذِرْوَةَ الإِطلاقِ إِذْ يَتَسَلَّلُ‏

مُحالٌ يَحُولُ القلبُ عَنْكَ وَإِنَّنِي

 

وحَقِّكَ لاَ أَسْلُو ولاَ أَتَحَوَّلُ

عليكَ صلاةُ اللّهِ منْهُ تَواصَلَتْ

 

صَلاَةَ اتِّصالٍ عنكَ لاَ تتنصَّلُ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

مَعشرَ الإسلامِ،  وأمّةَ سيِّد الأنَامِ،  اعْلموا أنَّ سيِّدنا محمداً صلى اللّه عليه وسلم هُوَ اللَّطِيفَةُ النُّورانِيَّةُ،  والرقيقةُ الروحانيَّةُ،  التي تجلَى بها الرَّبُّ جلَّ جلالُه وعزَّ كمالُه،  في سابقِ أزليَّتِه،  عَلى مُقْتَضَى عِلْمِه وإرادتِه قبلَ أنْ يوجِدَ الأكوانَ ويُنْشِى‏ءَ منْها مَا يكونُ أو كانَ،  قبضَ قبضَةً من نورِه- أي نورِ خلقِه- وأضَافَه إلى نَفسِه تَشْـريفاً لظهورِه وقالَ: « كُونِي محمداً،  رسولاً رحيماً رءوفاً ممجداً ».  فكان صلى اللّه عليه وسلم النورَ العجيبَ،  والسرَّ الغريبَ الذي سلخَ اللهُ منه العوالِمَ كلَّها،  والمخلوقاتِ بأسرِها،  فمنه انْبَجَسَتْ عيونُ الأرواحِ،  وظهرتْ الصورُ والأَشباحُ،  فطلعَ بالملإِ الأعلَى مُمِدّاً للعوالمِ كلِّها وأصلاً للمكوَّناتِ علَى عمومِها،  فهو روحُ الأكوانِ وحياتُها وسرُّ وجودهَا وفائدتُها،  ولذا كان صلى اللّه عليه وسلم في الموجوداتِ شمسَ الجمالِ،  وفي المخلوقات حيطَةَ الكمالِ،  والنُّقْطَةَ التي عليها يدورُ محيطُ الأسماءِ والصفاتِ الجلائلِ،  والقبْضَةَ التي عليها يدورُ محيطُ الأواخرِ والأواسطِ والأوائلِ،  فهو أولُ موجودٍ برزَ من كُنْ بسرِّ القدرَةِ الصمَديَّة.  وأشرفُ محمودٍ حباهُ اللّهُ بالتَّأْهلِ لمعرفَةِ الصِّفَة الأحديَّة،  ولما هبَّتْ نسماتُ تلكَ اللَّطائفِ الصمْدانيَّة،  وفاحَتْ نفحاتُ تلكَ العجائبِ الرحمانِيَّة،  نادَى منادِي جلالِ الحضـراتِ العليَّةِ في منازِلِ تلكَ الكواكبِ الشانيَّةِ: )إِنِيَ أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلَّا أَنَا رَبُّ العَالَمِينَ،  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ (.

قالَ في المواهبِ اللَّدُنِّيَّة: اعلمْ يَا ذَا الْعَقْلِ السليمِ والمتصفِ بأوصافِ الكمالِ والتَّتْميمِ،  وفَّقنِي اللّهُ وإياكَ بالهدايَةِ إلى الصـراطِ المستقيمِ،  إِنَّه لما تعلقتْ إرادةُ الحقِّ بإيجادِ خلْقهِ وتقْدِيرِ رزْقِه أبرزَ الحقيقَةَ المحمديَّةَ منَ الأَنْوَارِ الصمَدِيَّة في الحضـرةِ الأحديَّةِ،  ثُمَّ سلَخَ منها العوالمَ كلَّها علْوِيِّها وسفْلِيِّها على صورَةِ حُكْمِه،  كما سبقَ في ‏سابِقِ إرادَتِه وعِلْمِه،  ثُمَّ أعلمَه بنبوَّتِه وبَشَّرَه برسالَتِه هذَا وآدَمُ لمْ يكنْ إلَّا كمَا قالَ: بين الرُّوحِ والْجَسَدِ،  ثمَّ انْبَجَسَتْ منهُ صلى اللّه عليه وسلم عيونُ الأرواحِ فظهرَ بالملإِ الأعلَى وهُوَ بالمنْظَرِ الأجْلَى،  وكَانَ لهُمُ المورِدَ الأحلَى،  فهو صلى اللّه عليه وسلم الجِنْسُ العالي على جميعِ الأجناسِ،  والأبُ الأكبَرُ لجميعِ الموجوداتِ والنَّاسِ،  ولما انتَهَى الزَّمانُ بالاسمِ الباطنِ في حقِّه صلى اللّه عليه وسلم إلى وجودِ جسمِه وارتباطِ الروحِ به،  انتقلَ حكمُ الزمانِ إلى الإسمِ الظَّاهرِ فظهرَ محمدٌ صلى اللّه عليه وسلم بكُلِّيتِه جسماً وروحاً فهو صلى اللّه عليه وسلم وإن تأخرتْ طينَتُه فقدْ عُرفتْ قيمتُه فهو خزانَةُ السِّرِّ،  وموضعُ نفوذِ الأمرِ،  فلاَ ينْفُذُ أمرٌ إلا منْه. ولا يُنقَلُ خيْرٌ إلّا عنْهُ.

أَلاَ بأَبِي منْ كانَ ملِكاً وسيِّداً

 

وآدَمُ بينَ الماءِ والطِّينِ وَاقِفُ

فذاكَ الرَّسولُ الأَبْطَحِيُّ محمدٌ

 

لَهُ فِي العُلاَ مجدٌ تَلِيدُ وطَارفُ

أتَى بزمانِ السعدِ في آخرِ المدَى

 

وكَانَ لهُ في كلِّ عصـرٍ مواقِفُ

أتَى لانْكِسارِ الدَّهْرِ يَجبُرُ صَدْعَهُ

 

فَأَثْنَتْ عليهِ أَلْسُنٌ وعَوَارِفُ

إِذَا رَامَ أَمْراً لاَ يَكُونُ خِلاَفُهُ

 

وَلَيْسَ لِذَاكَ الأَمْرِ فِي الْكَوْنِ صَارِفُ

انتهى.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

ولما نَظَرَ الرَّبُّ جَلَّ جَلاَلُهُ،  وَعَزَّ كَمَالُهُ،  منْ حضـرَةِ الرُّبوبِيَّةِ إِلَى صورتِهِ صلى اللّه عليه وسلم الرُّوحِيَّةِ صارتْ كأَنها نِصفْينِ فخلقَ منْ نصفِهَا الْمُقابِلِ للْيمِينِ الجِنَانَ وجعلَهَا دارَ السعادَةِ للمؤمنين،  ومنْ نصفِها المقابلِ للشِّمالِ النيرانَ،  وجعلها دارَ الشقاوَةِ للكافرينَ،  وأبرزَ الربُّ جلتْ عظمَتُه،  وتقدسَتْ أَسماؤُه وصفَاتُه،  منْ فيضِهِ صلى اللّه عليه وسلم العرشَ والكُرْسِيَّ واللَّوحَ والقلمَ والسماءَ والأرضَ والجنةَ والنارَ وجميعَ العالمَ واخْتُلِفَ في أوَّلِ الْمَخلوقاتِ بعدَ النُّورِ المحمديِّ والصحيحُ أنَّهُ الماءُ ثم العرشُ ثم القلمُ.

قال في المواهبِ اللَّدُنيَّةِ ما نصُّه: روى عبدُ الرزاقِ بسندِه عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللّهِ الأنصارِي رضي اللّه عنه قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَخْبِرْنِي عنْ أولِ شي‏ءٍ خلقَهُ اللَّهُ تعالَى قبلَ الأشياءِ،  قال صلى اللّه عليه وسلم: « يا جابرُ إنَّ اللّهَ تعالَى خَلَقَ قبلَ الأشياءِ نورَ نبيِّكَ من نورهِ فجعلَ ذلكَ النورَ يدورُ بالقدرَةِ حيثُ شاءَ اللّهُ عزَّ وجَلَّ ولمْ يكنْ في ذلكَ الوقْتِ ‏لَوحٌ ولا قلمٌ ولا جنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا جنِّيٌ ولا إنسِيٌّ فلما أرادَ اللّهُ عزَّ وجلَّ أنْ يخلقَ الخلقَ قسَّمَ ذَلكَ النورَ أربعةَ أجزاءٍ،  فخَلقَ منْ الجزءِ الأولِ القلمَ،  ومنَ الثانِي اللوحَ ومنَ الثالثِ العرشَ،  ثم قسمَ الرابعَ أربعةَ أجزاءٍ فخلقَ منَ الأولِ حملَةَ العَرْشِ،  ومنَ الثانِي الكرْسِيَّ،  ومنَ الثالثِ باقِي الملائكَةِ،  ثم قسمَ الجزءَ الرابعَ أربعةَ أجزاءٍ،  فخلقَ منَ الأولِ السماواتِ،  ومن الثاني الأرضينَ،  ومن الثالث الجنةَ والنارَ،  ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنينَ،  ومن الثاني نور قلوبهم وهو المعرفة باللَّه عز وجل،  ومن الثالث نور أُنْسِهم وهو التوحيد لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه » الحديث.  اهـ.

قال الزرقاني في شرحه: ولم يذكر أي المصنِّفُ الرابعَ من هذا الجزء فليراجع من مُصَنَّفِ عبد الرزاق مع تمام الحديث  اهـ.  لكن ورد أن الباقي من نوره أُودِعَ في صلب آدم بعد أن خُلِقَتْ منه أرواح الأنبياء.  والإضافة في قوله في الحديث من نوره للتشـريفِ والإِشعارِ بأنه خلقٌ عجيبٌ وأن له شأنا على حد قوله تعالى: )ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ(‏ [السّجدة: الآية 9] وليسَ المرادُ أنَّ ذاتَه تعالى مادةٌ خَلَقَ نورَ النبيِّ صلى اللّه عليه وسلم منها تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً،  وإنَّما المعنَى تعلُّقُ إرادتِه بلا واسطةِ شي‏ءٍ في وجودِه.  وقولُه: قسَّمَ ذلك النورَ أربعَة أجزاءٍ،  أيْ زادَ فيه لاَ أنَّه قسَّم ذلك النورَ الذِّي هو نورُ المصطفى إذِ الظَّاهرُ أنَّه حيثُ صوَّرَهُ بصورَةٍ مماثلَة لصورَتِه التي سيُصَيَّرُ عليها لاَ يَقسِمُه إليهِ وإلَى غيرِه.  راجعِ الزرقانِيُّ.

ونقلَ العلاَّمةُ ابنْ مرزوقٍ في شرحِ البردَةِ عنْ أحكامِ ابنِ القطَّانِ عن عليٍّ زينِ العابدين عن أبيه الحُسينِ عنْ عليٍّ كرَّمَ اللّهُ وجهَهُ: أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم قالَ: « كنْتُ نوراً بينَ يدَيْ رَبِّي قبلَ خلقِ آدمَ بأربعَةَ عشرَ ألْفِ عامٍ »،  أي مُصوراً علَى شكلٍ خاصٍ منْ نورٍ بينَ يدَيْ ربِّي أيْ فِي غايَةِ القرْبِ الْمَعنويِّ منْه تعالى.

وَذكرَ ابنُ مرزوقٍ في شرحِ البردَةِ أيضاً عنْ أبِي العبَّاسِ العزْفِي في كتابِ الدُّرُّ الْمُنظمِ عنْ علِي رضي اللّه عنه قال: قلْتُ: يا رسولَ اللّهِ مِمَّ خُلقْتَ،  فأَطْرَقَ وعليْه عرقٌ كالجُمانِ ثُمَّ قالَ: « يا عليُ لما عُرجَ بِي إلى السماءِ وكنْتُ منْ ربِّي عزَّ وجلَّ كقابِ قوسيْنِ أو أدْنَى وأَوْحَى إلي مَا أوْحَى،  قلتُ: يا ربِّ مِمَّ خلقْتنِي،  فقالَ: يا محمدُ وعزَّتي وجلالِي لولاَكَ ما خلقتُ جنَّتي ولا ناري،  فقلت: يا رب مِمَّ خلقتني،  فقال: يا محمدُ لما نظرْتُ إلى صفاءِ بياضِ نورٍ خلقتُه بقدْرَتِي وأبْدَعتُه بحكمتِي وأضفتُه تشـريفاً لَهُ إلى عظَمتِي،  استخرجْتُ منهُ جزءاً فقسمْتُه ثلاثةَ أقْسامٍ فخلقتُك أنت وأهْلَ بيتكَ من القسمِ الأوَّلِ،  وخلقْتُ أزواجَكَ وأصحابَك منِ القسمِ الثانِي،  وخلقْتُ منْ أحبَّكَم منَ القسمِ الثالثِ،  فإذا كانَ يومُ القيامَةِ عادَ كلُّ حسبٍ ونسبٍ إلى حسبِه ونسبِه وردَدَتُ ذلك النورَ إلى نورِي فأدْخلْتُك أنْتَ وأهلَ بيتِك وأزواجَك وأصحابَك ومن أحبَّكُم جنتِي برحمتِي فأخْبرهُمْ بذلكَ يا محمدُ عنِّي ».

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أمَّةَ خيرِ الرسلِ والأنبياءِ،  وأشرفِ الأصفياءِ والاتقياءِ،  اعلموا أنه قد رَوَى أبو سعدٍ في شرفِ المصطفى وابنُ جوزِي في الوفاءِ وذكرَه العارفُ الربانِيُّ عبدُ اللّهِ بنُ أبِي جمرةَ في كتابهِ بهجةَ النفوسِ ومِن قبلَه الإمامُ الخطيبُ أبو الربيعِ ابنُ سَبْعٍ في كتابِه شفاءُ الصدورِ ونصه: رُوِّيَ أنَّهُ لما شاءَ الحكيمُ خَلْقَ ذاتِه صلى اللّه عليه وسلم المباركَةِ المطهرةِ أمرَ اللّهُ جبريلَ (عليه السلام) أنْ ينزلَ إلى الأرضِ وأنْ يأتِيَهُ بالطيِّنَةِ التي هي قلبُ الأرضِ وبهاؤُها ونورُها فهبطَ جبريلُ في ملائكةِ الفردوْسِ وملائكةِ الرَّقِيعِ الأعلَى فقبضَ قبضةً منْ موضعِ قبرِ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهي بيضاءُ منيرةٌ فعُجِنَتْ بماءِ التسنيمِ وغمستْ في معينِ أنهارِ الجنةِ حتَّى صارتْ كالدُّرَّةِ البيضاءِ ولهَا نُورٌ وشعاعٌ عظيمٌ ثم طافتْ بها الملائكةُ حولَ العرشِ وحولَ الكرسيِّ وفي السماواتِ وفي الأرضِ والجبالِ والبحارِ فعرفتِ الملائكةُ وجميعُ الخلقِ سيِّدَنَا محمداً صلى اللّه عليه وسلم وفضْلَهُ قبلَ أنْ تعرِفَ آدمَ (عليه السلام)،  فلما خلقَ اللّهُ آدمَ (عليه السلام) وضعَ في ظهرهِ قبضةَ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلمَ فسَمِعَ آدمُ في ظهرهِ نَشِيشاً كَنَشِيشِ الطيرِ فقالَ آدمُ: يا ربِّ ما هذا النَّشِيشُ،  فقالَ: هذَا تَسْبِيحُ نورِ محمدٍ خاتمِ الأنبياءِ الذي أُخرجُهُ من ظهرِكَ فخذْهُ بعهدِي وميثاقِي ولا تُودِعْهُ إلَّا في الأرحامِ الطَّاهرةِ.  فقال آدمُ: أيْ رَبّ قَدْ أخذْتُه بعهدِكَ أنْ لاَ أُودعهُ إلّا في الْمُطهَّرينَ منَ الرجالِ والمحصناتِ منَ النساءِ.  فكانَ نورُ محمدٍ صلى اللّه عليه وسلم يتلأَلأُ في ظَهْرِ آدمَ (عليه السلام) وكانتِ الملائكةُ تَقفُ خلفَه صفوفاً ينظرونَ إلى نُورِ محمدٍ صلى اللّه عليه وسلم ويَقُولُونَ سُبْحَانَ اللّهِ استحساناً لما يَرَوْنَ،  فلما رأَى آدمُ ذلك قالَ: يا ربِّ هؤلاءِ ينظرونَ خلفِي صفوفاً،  فقال الجليل سبحانه: يا آدمُ ينظرونَ إلى نورِ خاتمِ الأنبياءِ الذي أُخْرِجُه منْ ظهركَ،  فقالَ: يا ربِّ أَرِنِيهِ.  فأراهُ اللّهُ إياهُ فآمنَ بهِ وصلى عليه مشيراً بِأُصْبُعِهِ – ومِنْ ذلك الإِشارَةُ بالأُصْبُعِ بِلاَ إلهَ إلَّا اللّهُ محمدٌ رسول اللّهِ في الصلاةِ – فقالَ آدمُ: يا ربِّ اجعلْ هذا النورَ في مُقَدَّمِي كي تستقبلَنِي الملائكةُ ولاَ تستدْبِرَنِي.  فجعلَ ذلكَ النورَّ في جَبْهَتِهِ فكانَ يُرَى في غُرَّةِ آدمَ كدارَةِ الشمسِ في دَوَرَانِ فلكِهَا وكالبدرِ في تمامِهِ وكانتِ الملائكةُ تَقِفُ أمامَهُ صفوفاً تنظرُ إلى ذلكَ النورِ ويقولونَ: سبحانَ ربِّنا استحساناً لما يرونَ،  ثمَّ إِنَّ آدمَ (عليه السلام) قالَ: يا ربِّ اجعلْ هذَا النورَ في موضعٍ أراهُ.  فجعلَ اللّهُ ذلكَ النُّورَ في سبَّابَتِه فكانَ آدمُ ينظرُ إلى ذلكَ النُّورِ،  ثمَّ إنَّ آدمَ قال: أيْ ربِّ هل بقِيَ منْ هذَا النورِ في ظهرِي شي‏ءٌ،  فقالَ: نعمْ بقي نورُ أصحابِهِ فقالَ: أيْ ربِّ اجعلْهُ في بقيةِ أصَابعي فجعلَ نورَ أبِي بكرٍ في الوسْطَى،  ونورَ عمرَ في البِنْصَرِ،  ونورَ عثمانَ في الخِنْصَرِ،  ونورَ عليٍّ في الإبهامِ.  فكانتْ تلكَ الأنوارُ تتلألأُ في أصابعِ آدمَ ما كانَ فِي الجنةِ فلما كانَ خلِيفَةً في الأرضِ انتقلتِ الأنوارُ منْ أصابعهِ إلَى ظَهْرِهِ. انتهى.

وذكرَ الإمامُ المحدِّثُ أبُو جعفرٍ عمرُ بنُ أيوبَ الملقبُ ابنَ طَغْرَبَكٍّ في كتابِه الدُّرُّ النَّظِيمُ في مولدِ النبيٍّ الكريمِ:أنَّه رُويَ لما خلقَ اللّهُ تعالَى آدمَ ألهمَهُ أنْ قالَ: يا ربِّ لمَ كنيتَنِي أباً محمدٍ،  قالَ اللّهُ: تعالى يا آدمُ ارفعْ رأسكَ.  فرفعَ رأسهُ فرأَى نورَ محمدٍ في سُرادقِ العرشِ- أيْ حولَه -،  فقالَ: يا ربٍّ ما هذا النورُ،  قال: هذا نورُ نبيٍّ منْ ذريَّتكَ اسمُه في السماءِ أحمدُ وفي الأرضِ محمدُ لولاهُ ما خلقتُكَ ولاَ خلقْتُ سماءً ولاَ أرضاً  اهـ.

ويؤيدُه في الجمْلَةِ مَا رواهُ الحاكمُ في صحِيحِه عن سيدنا عمرُ رَفَعَهُ: إنَّ آدمَ (عليه السلام) رأَى اسمَ محمدٍ مكتوباً علَى العرشِ وإِنَّ اللّهَ تعالى قالَ لادمَ: لو لاَ محمدٌ ما خلقْتُكَ.

وللَّهِ درُّ الشيخِ صالحٍ بنْ حُسَيْنِ إذْ قالَ:

وكانَ لدَى الفردَوْسِ في زمنِ الصِّبَا

 

وأثْوابُ شملِ الإِنْسِ مُحْكَمَةُ السَّدَى

يُشَاهِدُ في عدنٍ ضياءً مُشَعْشِعَا

 

يَزيدُ علَى الأَنوارِ في الضَّوءِ والهُدَى

فقالَ إلهِي ما الضياءُ الذِّي أرَى

 

جنودُ السما تَعْشُو إليهِ تردُّدَا

فقالَ نبيٌّ خيرُ منْ وطئِيَ الثرَى

 

وأَفضلُ منْ في الخيرِ راحَ أو ِاغْتَدَى

تَخيَّرْتُه من قبلِ خلقكَ سيِّداً

 

وألْبستُه قبلَ النبيِّينَ سؤدَدَا

وأعدَدْتُّه يومَ القَيَامَةِ شَافعاً

 

مُطاعاً إذا ما الغيرُ حادَ وحُيِّدَا

فيشْفعُ في إنْقَاذِ كلِّ مُوَحِّدٍ

 

ويُدْخِلُه جناتِ عدْنٍ مُخلدَا

وإنَّ لهُ أسماءَ سَمَّيْتُهُ بهَا

 

ولكِنَّنِي أَحببتُ منْهَا مُحمدَا

فقالَ إلهِي امْننْ عليَّ بتوبةٍ

 

تَكُونُ علَى غَسلِ الخطيئَةِ مُسعدَا

بحُرمَةِ هذَا الاسْمِ والزُّلْفَةِ التِّي

 

خَصَّصْتَ بهَا دونَ الخَلِيقَةِ أحمدَا

أقلْنِي عثارِي يَا إلهِي فإنَّ لِي

 

عدواً لعيناً جارَ في الْقَصْدِ واعتَدَى

فتابَ عليْهِ ربُّه وحماهُ منْ

 

جِنايةِ مَا أخطاهُ لاَ مُتعمِّدَا

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أَمَّةَ أشرفِ المُكَوَّناتِ وأعظمِ المخلوقاتِ، اعلمُوا أنَّهُ مِمَّا يجبُ علَى كلِّ مُكلفٍ أنْ يعلمَ مَا بِهِ يُشْخَّصُ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم ويُعْرَفُ منْ اسمِهِ ومكانِه ونسبِه وزمانِه كمَا قال في المراصدِ:

وعِلْمُ ما به يُشَخَّصُ وَجَبَ

 

منْ وطنٍ واسمٍ ووقتٍ ونسبْ

فأمَّا أسماؤُه صلى اللّه عليه وسلم فكثيرةٌ،  أنْهاهَا ابنُ الْعربِي المعافِرِي وَغيرُهُ إلَى ألْفِ اسمٍ،  وأشْهَرُهَا سيِّدُنا محمدٌ،  ولذلكَ قُرِنَ بالاِسمِ الأعظمِ في الشهادَتْينِ ويليهِ سيِّدُنا أَحمدُ.

وأمَّا وطَنُهُ صلى اللّه عليه وسلم فقدْ وُلِدَ بمكةَ ذاتِ الشـرفِ والفضلِ المبينِ، وبقيَ بهَا إلى أنْ بعثَهُ اللّهُ علَى رأسِ الأربعينَ.  وبعدَ تتابُعِ الوحْيِ أقامَ بهَا عشرَ سنواتٍ ثم هاجرَ إلى المدينةِ ذاتِ البركةِ والخيراتِ وبقِيَ بها عشرَ سِنينَ وشهْرَيْنِ وتُوَفِيَّ بها وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ بلاَ مَيْنٍ:

ألاَ يا رسولَ اللَّهِ شرَّفْتَ طيبةَ

 

ومكةَ لما صِرْتَ طَرْزَ حُلاَهُمَا

حَلَلْتَ بهذِي مرةً ثم مرةً

 

بهَذِي فَطَابَ الواديانِ كِلاَهُمَا

وأما زمنُ ولادتِه صلى اللّه عليه وسلم فالأَكثرونَ على أنَّه عامَ الفيلِ جزماً والمشهورُ بعدَ وقْعتِه بخمسينَ يوماً لأنَّ قصةَ الفيلِ كانتْ تَوطئَةً لنبوَّتِه ومُقَدِّمةً لظهورِه وبعثَتِه،  وقيلَ ولدَ قبلَه وبه جزمَ صاحبُ الإبريزِ نقلاً عنْ شيْخِه العارفُ باللَّهِ سيدي عبدُ العزيزِ قائلاً “وبوُجودِه صلى اللّه عليه وسلم في مكةَ ذاتِ الشـرفِ الجليلِ طردَ اللَّهُ عنها أصحابَ الفيلِ فجعلَ كيدهُمْ في تَضليلٍ”.

وأما نَسبُه منْ جهةِ أبيهِ الطاهرِ البدرُ الكاملُ الباهرُ فهو صلى اللّه عليه وسلم سلالةُ الطيبينَ الطاهرينَ ونتيجةُ الكرامِ الموحدينَ النبيُّ العربيُّ القرشيُّ الهاشميُّ المنتخبُ منْ خيرِ بطونِ العربِ وأعرقِها في النسبِ أبُو القاسمِ سيِّدُنا ومولانَا محمدٌ صلى اللّه عليه وسلمَ بنُ عبدِ اللّهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمٍ بنِ عبدِ منافٍ بنِ قصيٍّ بنِ كلابٍ بنِ مرَّةَ بن كعبٍ بنِ لؤيٍّ بنِ غالبٍ بنِ فهرٍ بنِ مالكٍ بنِ النَّضرِ بنِ كنانةَ بنِ خزيمةَ بنِ مدركةَ بنِ إلياسٍ بنِ مضرٍ بنِ نزارٍ بنِ معدٍ بنِ عدنانٍ. فهذَا نسبُه الذِّي وقعَ علَيْه الإِجماعُ،  وما زادَ عليْه فَفيهِ بين المؤرخِينَ اختلافٌ ونزاعٌ،  لكنَّ الإِجماعَ على أنَّ عدنانَ منْ ذرِّيةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ وما فوقَهُ أمْسكَ عنْه كلُّ عالمٍ نبيلٍ. وقدْ كرِه الإمامُ مالكٍ رفعَ النسبِ إلى آدمَ لما وردَ في ذلكَ.

رَوَى ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ وغيرُه عنْ ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما قالَ: كانَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذَا انْتسبَ – أيْ ذكرَ نسبَه لمْ يُجاوزْ عدنانَ – ثمَّ يُمسكُ ويقولُ: « كذَبَ النَّسَّابونَ » مرتَيْنِ أوْ ثلاثاً.

وفي روايةٍ: « لا ترفعونِي فوقَ عدنانٍ ».  وحينئذٍ فهو صلى الله عليه وسلم مخلوقٌ منْ نطفةٍ كسائرِ البشرِ بلاَ رَيْبٍ ولا يَلحقُ جانِبُه الكريمُ بسببِ ذلكَ وصمٌ ولا عيبٌ ونطفتُه التي منها تكونُ طاهرةً بالإجماعِ فلا يجْرِي فيها مَا في طهارَةِ المنِيِّ منَ النِّزاعِ فهيَ مُستثْنَاةٌ منْ ذلكَ الخلافِ المقررِ كمَا نقلَهُ الإمامُ العُقْبَانِيُّ عنِ المحققينَ ذوِي النظرِ وبهِ يتضِحُ بُطلانُ مَا زعمَه منْ لاَ يُعتدُّ بقولِه ولاَ يُعتبرُ مِنْ أنَّه صلى اللّه عليه وسلم لمْ يُخلقْ منْ نطفةٍ كسائرِ البشـرِ وإِنَّمَا هو صلى اللّه عليه وسلم كآدمَ وعيسَى (عليهما السلام) وكفرَ منْ قالَ بتَكَوُّنِه منها من كلِّ فاضلٍ وإمامٍ وليسَ الكفرُ إلا فيمَا افْتراهُ جزماً لنَفْيِه النَّسبَ الشريفَ الثابتَ له حتماً،  الواجِبُ علَى أمَّته معرفتُه لتعْيينِ شخصهِ الأطهرِ كيفَ ولا يحصلُ الإيمانُ به إلا بالتَّعْيِينِ المعتبرِ.

وقد ثبتَ بالتواتُرِ عنه صلى اللّه عليه وسلم وأجمعَتْ عليه الملَّةُ الإسلاميةُ،  أنَّه صلى اللّه عليه وسلمَ ابنُ عبد اللّهِ بنِ عبدِ المطلبِ بُنوَّةً حقيقيَّةً،  ولا يكونُ ابنَه إلا إذَا كانَ منْ نطفتِه.  قالَهُ الإمامُ المَسنَاوِيُّ في بعضِ أجوبتِه وسيِّدِي المهدِي الفاسيُّ في شرحِ دلائلِ الخيْراتِ والشَّيْخُ سيِّدي يوسفُ الفاسيُّ كمَا نقلَهُ في المِرْآةِ.

وأما نَسَبُهُ صلى اللّه عليه وسلم منْ جهَةِ أمِّهِ المَصونَةِ والدرَّة اليتِيمَةِ المَكْنُونَةِ فهو سيِّدُنا محمدٌ ابنُ سيِّدتِنَا ومولاتِنا آمنةَ بنْتِ وهبٍ بنِ عبدِ منافٍ بنِ زُهرةٍ بنِ كلابٍ الذي هوَ أحدُ أجدادِه منْ قبلِ والدِه بلاَ ارْتيَابٍ فهو مُلْتَقَى نسبِه منَ الأُمِّ والوالِدِ وقدْ فازَ منْ عرفَهُ بكلِّ خيْرٍ وسعدٍ، ويَرحمُ اللَّهُ بعضَ أشياخِنَا إذْ يقولُ منْ قصيدَةٍ لَهُ طويلةٍ:

يا ربِّ بالهادِي النبيِّ محمدٍ

 

وأبِيهِ عبدِ اللَّهِ أكْرَمِ والدِ

وبشيْبَة الحمدِ الرِّضَى وبهاشِمٍ

 

وكذَا بعبدِ منافهِمْ كنْ مُسْعِدِ

وكذَا قُصيٍّ معْ كِلابٍ مُرَّةٍ

 

وَبكَعْبِهِمْ أَرجُوا بُلوغَ المقصدِ

وكذَا لؤيٍّ غالبٍ معْ فِهْرِهِ

 

وَبِمالكٍ والنَّضْـرِ عالِي المَقعدِ

وكنانةٍ وخزيمةٍ وبمدركٍ

 

إلياسٍ معْ مُضـرٍ يدومُ تَصَعُّدِ

وكذَا نزارٍ معْ معدٍ الأصليِّ   وكذاكَ عدنانٍ ختامِ القُعْدُدِ

وكذَا بأزواجِ النبيِّ توسُّلِي

 

فبجاههنَّ أرُومُ نيلَ الأسْعَدِ

إلى أن قال:

فبجاههمْ يا ربِّ يسِّـرْ مقْصَدِي

 

واختمْ بخيرٍ يَا إلهِي وأَسْعِدِ

واغفرْ بفضلِكَ يَا غَفورُ ذنوبنَا

 

والْطفْ بنَا يا ربَّنَا بمُحمدِ

صلى عليه اللَّهُ وعلى آلهِ

 

وعلى صحابتِهِ الكرامِ العُبَّدِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

اعْلموا يا معشـرَ الأمّةِ الإسلاميةِ وأشرفَ الأممِ الماضيَّةِ،  أنَّ هذَا النسبَ الطاهرَ،  والعقدَ الفاخرَ الباهرَ طهرَهُ اللَّهُ منْ سفاحِ الجاهليةِ وحمَى ساحتَهُ منَ الأفعالِ الدنيَّةِ،  لِمَا رَوى البيهقِيُّ في سننِه عنْ ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلمَ قالَ: « ما ولدَنِي منْ سفاحِ الجاهليةِ شي‏ءٌ ما ولدَنِي إلاَّ نكاحُ الإسلامِ ».

وروى الإمامُ أحمدُ والطبرانِيُّ في مُعجمِه الأوسطِ وابنُ عساكرَ وأبُو نُعَيْمٍ عنْ سيِّدِنا عليٍّ بنِ أبِي طالبٍ كرَّمَ اللَّهُ وجهَهُ أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلمَ قالَ: « خرجْتُ منْ نكاحٍ ولمْ أخرجْ منْ سفاحٍ منِ لدنْ آدمَ إلى أنْ ولدنِي أبِي وأمِّي لمْ يُصبْنِي منْ سفاحِ الجاهليةِ شي‏ءٌ ».

وروى أبُو نُعَيْمٍ عنْ ابنِ عباسٍ رضي اللّه عنهما أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلمَ قالَ: « لمْ يلتقِ أبوايَ قطُّ علَى سفاحٍ ولمْ يزلِ اللَّهُ ينْقُلُنِي منَ الأصلابِ الطيبَةِ إلى الأرحامِ الطاهرةِ مُصفىً مهذباً لا تَتَشَعَّبُ شُعْبَتانِ إلاَّ كنْتُ في خيْرِهِمَا ».

وأخرجَ ابنُ سعدٍ وابنُ عساكرَ عنْ هشامٍ بنِ محمدٍ بنِ السائبِ الكلبِي عنْ أبيهِ قال: كتبْتُ للنبيِّ صلى اللّه عليه وسلم خمسُمائةِ أمٍّ فمَا وجدْتُ فيهنَّ سفاحاً ولاَ شيئاً ممَّا كانَ في أمرِ الجاهليةِ.

قالَ الإمامُ السُّبْكِيُّ: لمْ يقعْ في نسبِه صلى اللّه عليه وسلم إلاَّ نكاحٌ صحيحٌ مُسْتَجْمِعٌ لشرائطِ الصِّحَةِ كنكاحِ الإسلامِ الموجودِ اليومَ.  قالَ بعضُ العلماءِ: وهذَا منْ أعظمِ العنايَةِ به صلى اللّه عليه وسلم أنْ أجرَى اللَّهَ سبحانَهُ نكاحَ آبائِهِ علَى نمطٍ واحدٍ وِفْقَ شريعتِه.

وروى ابنُ مَرْدَوَيْهِ عنْ أنسٍ رضي اللّه عنه قالَ: قرأَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلمَ: )لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ(‏ [التّوبة: الآية 128] بفتحِ الفاءِ وقالَ: « أنَا أنْفَسُكُمْ نسباً وصهراً وحسباً ليْسَ في آبائِي منْ لدنْ آدمَ سفاحٌ كلُّنا نِكاحٌ ».

حفظَ الإلهُ كرامةً لمحمدٍ

 

آباءَهُ الأمجادَ صوناً لاسمِهِ

تَركُوا السِّفاحَ فلمْ يصبْهُمْ عارُهُ

 

منْ آدمٍ وإلى أبيِه وأُمِّهِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أمةَ خيرِ البشرِ، وأفضلِ منْ تقدمَ وتأخرَ،  ممَّا يتَعيَّنُ اعتقادُه على الصوابِ ويتحتَّمُ الجزْمُ بلاَ ارتيابٍ أنَّ اللَّهَ تعالى كمَا طهَّرَ منَ السفاحِ نسبَه عاليَّ القدرِ والشأنِ قدْ صانَهُ وحماهُ منَ الشركِ وعبادةِ الأوثانِ منْ لدنْ سيِّدنا آدمَ وزوجِه حواءَ إلى سيِّدنَا عبدِ اللّهِ ومولاتِنَا آمنةَ الغراءَ.
قال الفخرُ الرازِي: آباءُ النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى آدمَ علَى التَّوحيدِ لمْ يكنْ فيهمْ مشركٌ بدليلِ قوله صلى اللّه عليه وسلم: « لمْ أزلْ أُنْتقلُ منَ الأصلابِ الطَّاهرينَ إلى الأَرحامِ الطاهرَاتِ والمشركونَ نجسٌ كمَا قال تعالى »،  فوجبَ أنْ لاَ يكونَ أحدٌ منْ أجدادِهِ مشركاً  اهـ.

وقال الرازِي أيضاً في تفسيرِ قوله تعالى: )وتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ( [ الشّعراء: الآية 219] نقلاً عنْ بعضِ العلماءِ إِنَّ المعنَى أنَّ نورَ سيِّدنا محمدٍ صلى اللّه عليه وسلم كانَ ينْتقلُ منْ ساجدٍ إلى ساجدٍ منْ آدمَ إلى أنْ ظهرَ صلى اللّه عليه وسلم وهوَ يدلُّ علَى أنَّ جميعَ آباءِ النبي صلى اللّه عليه وسلم كانُوا مسلِمينَ  اهـ.

وأما مَا أخرجَهُ البزارُ والطبرانِي وأبُو نُعَيْمٍ عنِ ابنِ عباسٍ في تفسيرِ قوله تعالى: )وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ( [الشّعراء: الآية 219] منْ نبيٍّ إلى نبيٍّ حتَى أخْرَجْتُكَ نبياً فليسَ المرادُ منْهُ أنَّ جميعَ أجدادِهِ أنبياءَ،  وإنَّمَا المرادُ أنَّ فيهمْ أنبياءَ وهم ستةٌ: آدمُ،  وشيثُ،  وإدريسُ،  ونوحُ،  وإبراهيمُ،  وإسماعيلُ (عليهم السلام).  فإنْ قيلَ الإجماعُ علَى أنَّ عدنانَ منْ ولدِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ فيكونُ سيدنا إبراهيمُ منْ أجدادِهِ صلى اللّه عليه وسلم وآزرُ أبُو سيدنا إبراهيمَ كانَ كافراً.

الجواب – كما قال ابنُ حجرٍ-: أنَّهُ أجمعَ أهلُ الكتابَيْنِ التوراةِ والإنجيلِ علَى أنَّ آزرَ عمُّ سيدنا إبراهيمَ لاَ أبوهُ بلْ لو لمْ يُجْمِعُوا عليه لوجبَ عليْنَا أنْ نعتقدَ أنَّه عمُّه لئلاَّ يخالفَ الأحاديثَ الدالةَ علَى توحيدِ جميعِ آبائِه صلى اللّه عليه وسلم وقدْ تقرَّرَ أنَّ العربَ تُسمِّي العمَّ أباً ويشهدُ له قوله تعالى: )وإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ‏( [البقرة: الآية 133] ولا شكَّ أنَّ إسماعيلَ عمُّ يعقوبَ لاَ أبوهُ.  وأما سيدنا عبْدُ المطلبِ فهوَ وإنْ أدركَ النبي صلى اللّه عليه وسلم لكنَّهُ ماتَ قبلَ بعثَتِه فهوَ على ملَّةِ سيدنا إبراهيمَ (عليه السلام).  ويرحمُ اللَّهُ الحافظَ شمسَ الدينِ بنَ ناصرٍ الدمشقِيِّ إذْ قالَ:

تَنَقَّلَ أحمدُ نوراً عظيماً

 

تلأْلأَ ي جباهِ السَّاجدينَ

تنقلَ فيهمْ قرْناً فقرناً

 

إلى أنْ جاءَ خيرَ المرسلينَ

والقائلُ ما زالَ نورُ محمدٍ متنقلاً

 

في الطيبينَ الطاهرينَ ذوِي العُلاَ

حتى لعبدِ اللَّهِ جاءَ مطهَّراً

 

ووَجْهُ آمنةَ بدَا مُتَهَلِّلاً

والإمامَ البوصيْرِيَّ إذْ قال:

نسبٌ تحسبُ العلاَ بحِلاَهُ

 

قَلَّدتها نجومَها الجوزاءُ

حبذَا عقدُ سؤددٍ وفخارٍ

 

أنتَ فيهِ اليتيمَةُ العصماءُ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أُمةَ خاتمِ الأَنبياءِ والرسلِ الكرامِ،  وممدِّ الكلِّ ولبنةِ التمامِ. اعلمُوا أنَّه لما كانَ صلى اللّه عليه وسلم ثمرةَ شجرةِ الكونِ، وسرَّ معنَى كلمةِ كُنْ،  وُدرَّةَ صدفةِ الوجودِ،  ونورَ كلِّ مُكَوَّنٍ موجودٍ،  ولمْ يزلْ نورُه الباهرُ ينتقلُ منْ طاهرٍ إلى طاهرٍ بوصيةٍ منْ سيِّدنا آدمَ (عليه السلام) لأَعظمِ أولادِهِ وأشْبَههمْ بهِ علَى التَّمامِ سيِّدِنا شيثَ عظيمِ القدرِ والجاهِ،  الُمستغرقِ أنفاسَهُ في طاعةِ مولاهُ،  أنْ لاَ يضعَ هذا النورَ الطاهرَ،  والسـرَّ الباهرَ الفاخرَ إلَّا في الطيباتِ المطهَّراتِ منَ النساءِ الباهراتِ،  ومنْه لأشدِّ أولادهِ شبهاً به سيِّدِنا أَنُوشٍ – ومعناهُ الصادِقُ عملاً بعهدِ اللّهِ وميثاقِهِ السَّابقِ – ولمْ تزلْ تلكَ الوصيَّةُ جاريةً على ممرِ الأزمانِ والأيامِ والنورُ ينتقلُ للغُرَرِ الكريمةِ والطيبِ منَ الأرحامِ إلى أنْ أوصلَهُ مولانَا الكريمُ إلى سيِّدِنا عبدِ اللّهِ الفخيمِ وأرادَ سبحانهُ وتعالَى إبرازَ هذَا السـرَّ المصونَ السارِيَّ فِي الظهورِ والبطونِ منْ عالمِ الخفاءِ إلَى عالمِ الظهورِ،  ليتمَّ بذلكَ كمالُ الصفاءِ ومزيدُ السـرورِ،  ألْهَمَ جدَّهُ سيِّدَنا عبدَ المطلبِ – واسمُه شيبةُ الْحَمْدِ[10] – فخرجَ بولدِه سيِّدِنا عبدِ اللَّهِ ذِي الفخارِ والمجدِ حتَّى أتَى به وهبَ بنَ عبدِ منافٍ بنَ زُهرةَ وهوَ يومئذٍ سيِّدُ قبيلةِ بنِي زُهرةَ فخطبَ منْه السيدةَ آمنةَ لولدِهِ سيِّدِنا عبدِ اللَّهِ فزوجَهُ إِيَّاهَا وهي يومئذٍ أفضلُ امرأةٍ في قريشٍ نسباً وموضِعاً.

قالُوا: فدخلَ عليها سيِّدُنا عبدُ اللَّهِ حينَ ملَّكَها – أَيْ تزوَّجَ بها – مكانَهُ في شعْبِ أبِي طالبٍ عندَ الجمَرةِ الوسْطَى يومَ الجمعَةِ أوْ الإِثنينِ منْ أولِ رجبٍ،  فحملَتْ برسولِ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم وقدْ رُويِّ عنْ سيِّدِنا العباسِ أنَّه لما بنَى عبدُ اللَّهِ بآمنةَ أحصوْا مائتَيْ امرأةٍ منْ بنِي مخزومٍ وبنِي عبدِ منافٍ مُتْنَ ولمْ يتزوجْنَ أسفاً علَى ما فاتَهُنَّ منْ عبدِ اللّهِ وأنَّه لمْ تبقَ‏ امرأةٌ في قريشٍ إلَّا مرِضَتْ ليلةَ بنَى عبدُ اللَّهِ بآمنةَ وما أحسنَ قولَ سيِّدي علِي وفاءَ:

سَكَنَ الفؤادَ فعشْ هنيئاً يا جسدْ

 

ذاكَ النَّعيمُ هوَ المقيمُ إلى الأبدْ

أصبحتَ في كنفِ الحبيبِ ومنْ يكنْ

 

جارَ الكريمِ فعيْشُهُ عيشٌ رَغدْ

عشْ في أمانِ اللَّهِ تحتَ لوائهِ

 

لاَ خوْفَ في هذَا الجَنَابِ ولا نكدْ

لا تخْتَشِ فقراً وعندَكَ بيتُ مَنْ

 

كلُّ المُنَى لكَ منْ أياديهِ مَدَدْ

ربُّ الجمالِ ومُرسِلُ الجدْوَى ومنْ

 

هُوَ فِي المحاسنِ كلِّها فردٌ أحدْ

قطبُ النُّهَى غوثُ العوالِمِ كلِّها

 

أعلَى علِيٍّ سارَ أحمدَ مَنْ حمدْ

روحُ الوجودِ حياةُ منْ هو واجدٌ

 

لولاهُ مَا تمَّ الوجودُ لما أُجِدْ

عيسَـى وآدمُ والصدورُ جميعُهمْ

 

همْ أعينٌ هو نورُها لمَّا وردْ

لوْ أبصـرَ الشيْطانُ طلعةَ نورِهِ

 

في وجهِ آدمَ كانَ أوَّلَ منْ سجدْ

أو لوْ رأَى النَّمرودُ نورَ جمالهِ

 

عبدَ الجليلَ معَ الخليلِ ومَا عندْ

لكنْ جمالُ اللَّهِ جلَّ فلاَ يُرَى

 

إلَّا بِتخصِيصٍ منَ اللَّهِ الصمدْ

فابْشـرْ بمنْ سكنَ الجوارحَ منك يا   مَنْ قدْ ملأْتَ منَ المُنَى عيناً ويدْ

عينُ الوفَا معْنَى الصَّفَا سرُّ الندَى

 

نورُ الهدَى روحُ النُّهى جسدُ الرَّشدْ

هوَ للصلاةِ معَ السلامِ المُرْتضـَى

 

الْجَامعُ المخصوصُ ما دامَ الأبدْ

‏ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أَيها المستغرقُ في محبةِ هذا النبيِّ الكريمِ،  المشغوفُ بسماعِ أحوالِ مولدهِ الفخيمِ،  ومَا ظهرَ عندَ الحملِ به منَ خوارقِ العاداتِ وعجائبِ الإرهاصاتِ والمبشراتِ،  فقدْ قالَ في المواهبِ اللَّدنِّيةِ: ولما حملتْ آمنةُ برسولِ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلمَ ظهرَ لحملِهِ عجائِبٌ ووُجدَ لإيجادِه غرائبُ،  فذكرُوا أنَّه لما استقرَّت نطفتُه الزكيَةُ ودرَّتُه المحمديِةُ في صدفِ آمنةَ القرشيَّةَ نودِيَ في الملكوتِ ومعالمِ الجبروتِ أنْ عطِّرُوا جوامعَ القدْسِ الأسنَى وبخِّرُوا جهاتِ الشـرفِ الأعلَى وأفرِشُوا سِجاداتِ العباداتِ في صِفَفِ[11]‏ الصفاءِ لِصوفِيَةِ الملائكةِ المقربِينَ أهلِ الصدقِ والوفاءِ،  فقدْ انتقلَ النُّورُ المكنونُ إلى بطنِ آمنةَ ذاتِ العقلِ الباهرِ والفخرِ المصونِ،  فقدْ خصَّصها اللهُ تعالى القريبُ المجيبُ بهذا السيِّدِ المصطفَى الحبيبِ، لأنها أفضلُ قومِها حسباً وأنجبُ وأزكاهُمْ أخلاقاً وفرعاً وأطيبُ.

وقال سهلُ بنُ عبدِ اللَّهِ التَّسْتُرِي فيما رواه الخطيبُ البغدادِي الحافظُ: لما أرادَ اللَّهُ خلقَ محمدٍ

صلى اللّه عليه وسلم في بطنِ آمنةَ ليلةَ رجبٍ وكانتْ ليلةَ جمعةِ أمرَ اللّهُ تعالى فِي تلكَ الليلةِ رضوانَ خازنَ الجنانِ أنْ يفْتحَ الفردوسَ ونادَى منادٍ في السماءٍ والأرضِ: ألاَ إنَّ النورَ المخزْونَ المكنونَ الذي يكونُ منه النبيُّ الهادِي في هذِهِ الليلةِ يستقرُّ في بطنِ آمنةَ الذِي يتمُّ فيهِ خلْقُهُ ويخرجُ إلى الناسِ بشيراً ونذيراً.

وفي روايةِ كعبٍ الأحبارِ أنَّه نودِيَ تلكَ الليلةَ فِي السماءِ وصِفاحِها والأرضِ وبقاعِها: أنَّ النورَ المكنونَ الذي منْه رسولُ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم في بطنِ آمنَةَ، فيَا طُوبَى لهَا ثمَّ يا طوبَى.  وأصبحَتْ يومئذٍ أصنامُ الدنيا منكوسةً وكانتْ قريشُ في جدْبٍ شديدٍ وضيقٍ عظيمٍ فاخضـرَّتِ الأرضُ وحملَتِ الأشجارُ وأتاهمْ الرِّفْدُ منْ كلِّ جانبٍ فسمِّيَّتْ تلكَ السنةُ التي حُملَ فيها برسولِ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم سنةَ الفتحِ والابتهاجِ.

وفي حديثِ ابنِ إسحاقٍ: أنَّ آمنةَ كانتْ تُحدثُ أنَّها أُتِيَتْ حينَ حملتْ بالنبيِّ صلى اللّه عليه وسلم فقيلَ لها: إنَّكِ حملْتِ بسيِّدِ هذِه الأمّةِ.  وقالتْ أيضاً – كما رواه ابنُ إسحاقَ-: مَا شَعَرْتُ بأنِّي حملْتُ بِه ولاَ وجدْتُ ثقلاً ولاَ وحَماً بسببِه إلاَّ أنِّي أنْكَرْتُ رفعَ حيْضَتِي وأتانِي آتٍ وأنا بينَ النَّائِمةِ واليَقْظَانَةِ فقالَ: هلْ شعُرْتِ بأنكِ حملْتِ بسيِّدِ الأنامِ ؟ ثمَّ أمهلنِي حتَّى إذَا دنتْ ولادتِي أتَانِي فقالَ: قولِي أُعيذُه بالواحدِ منْ شرِّ كلِّ حاسدٍ ثمَّ سمِّيه محمداً.  وفي روايةٍ للبيقَهِي: أَعيذِيه بالواحدِ منْ شرِّ كلِّ حاسدٍ في كلِّ بَرٍّ عاهدٍ وكلِّ عبدٍ رائدٍ يرُودُ غيرُ رائدٍ فإنَّه عبدٌ حمِيدٌ ماجدٌ حتَّى أرَاهُ أثَرَ المشاهدِ.

وروَى أبو نُعيمٍ عن ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما قالَ: كانَ منْ دلالَةِ حملِ آمنةَ برسولِ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم أنَّ كلَّ دابةٍ لقريشٍ نطقتْ تلكَ الليلةِ وقالتْ: حُملَ برسولِ اللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم وربِّ الكعبةِ وهوَ إمامُ الدنيا وسراجُ أهلها. ولمْ يبقَ سريرُ لملكٍ منْ ملوكِ الدنيا إلاَّ أصبحَ منكوساً وفرَّتْ وحوشُ المشـرقِ إلى وحوشِ المغربِ بالبشارةِ،  وكذلكَ أهلُ البحارِ يبشِّرُ بعضُهمْ بعضاً، ولهُ في كلِّ شهرٍ منْ شهورِ حمْلهِ نداءٌ في الأرضِ ونداءٌ في السماءِ أنْ أبْشـرُوا فقدْ آنَ أنْ يظهرَ أبُو القاسمِ صلى اللّه عليه وسلم ميموناً مباركاً.

عن يحيَى بنِ عائذٍ قالَ: بقِيَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم في بطنِ أمِّهِ تسعةَ أشهرٍ كُمَّلاً لاَ تشْكُو وجعاً ولاَ مغَصاً ولاَ ريحاً ولاَ مَا يعْرضُ لذواتِ الحملِ منَ النِّساءِ،  وكانَتْ تقولُ: واللَّهِ ما رأيتُ منْ حملٍ هوَ أخفُّ منه ولا أعظمُ بركةً. ولما تمَّ لها من حملِها شهرانِ – على الأرجحِ المشهورِ – تُوَفِيَّ أبُوهُ سيِّدُنا عبدُ اللَّهِ وكانَ قدْ رجعَ ضعيفاً معَ قريشٍ لما رجعُوا منْ تجارَتِهمْ ومرُّوا بالمدينةِ فتخلَّفَ عندَ أخوالِ أبِيهِ بنِي عدِيٍّ بنِ النَّجارِ فأقامَ عندَهمْ مريضاً شهراً فلمَّا قدِمَ أصحابُه مكةَ سألَهمْ عبدُ المطلبِ عنْه فقالُوا: خلَّفنَاهُ مريضاً.  فبعثَ إليهِ أخاهُ الحارثَ أوِ الزبيرَ فوجدَهُ قدْ تُوُفِّيَ ودفِنَ في دارِ التَّابِعةِ.  والتابعةُ اسمُ رجلٍ منْ بنِي عدِيٍّ بنِ النَّجارِ،  وقدْ وردَ أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم نزلَ في هذِهِ الدارِ معَ أمِّهِ حينَ أتَتْ به لزيارَةِ أخوالِ أبيهِ.

وذكرَ ابنُ عباسٍ: أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم لما دخلَ المدينةَ بعدَ الهجرةِ نظرَ إلى دارِ رجلٍ منِ بنِي عدِيٍّ بنِ النَّجارِ وقالَ: هاهنا نزلتْ بِي أمِّي وفي هذهِ الدَّارِ قبرُ أبِي.  انتهى.

وهيَ اليومَ مسجدٌ وعلَى القبْرِ ضريحٌ يزارُ،  وقدْ زُرْنَاهُ فضلاً من اللَّهِ تعالى،  فللَّهِ الحمدُ.  ولما تُوُفِّيَ قالتْ زوجتُهُ آمنةُ ترثيهِ:

عفَى جانبُ البطحاءِ منْ آلِ هاشمٍ   وجاورَ لحداً خارجاً في الغمائمِ
دعتْهُ المنايا دعوةً فأجابَها   وما تركتْ في الناسِ مثلَ ابنِ هاشمِ
عشيةً راحوا يحملونَ سريرَهُ   تعاوَرَهُ أصحابهُ فِي التزَاحُمِ
فإنْ تكُ غالبَتْهُ المنونُ ورَيْبُها   فقدْ كانَ معطاءً كثيرَ التراحُّمِ

ويُذكرُ عنْ ابنِ عباسٍ أنَّه: لما تُوُفِّيَ سيِّدُنا عبدُ اللَّهِ قالْت الملائكَةُ: إلهنَا وسيِّدنا بقِيَ نبيُّكَ يتيماً، فقالَ اللَّهُ تعالَى: أنَا لهُ حافظٌ ونصيرٌ.

وقيلَ لجعفرِ الصادقِ: لمَ يُتِّمَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم – أيْ مَا حكمةُ ذلكَ -،  فقالَ: لئَلَّا يكونَ عليهِ حقٌ لمخلوقٍ.  نقلَهُ أبُو حيَّان في البحرِ.  والمرادُ الحقوقُ الثَّابِتَةِ بعدَ البُلُوغِ،  لأنَّ أمَّهُ ماتتْ وعمُرُه ستَ سنينَ،  ولِيُعلمَ أنَّ العزيزَ منْ أعزَّهُ اللَّهُ وأنَّ قوَّتَه ليستْ منَ الآباءِ والأمَّهاتِ ولا منَ المالِ بلْ منَ الملكِ القادرِ المفْضالِ:

أخذَ الإلهُ أبَا الرسولِ ولمْ يزلْ   برسولِه الفردِ اليتيمِ رحيما
نفسِـي الفداءُ لمفردٍ في يُتْمِه   والدُّرُّ أحسنُ ما يكونُ يتيما
يا عاشقينَ لحسْنِه وجمَالِهِ   صلُّوا عليْهِ وسلِّموا تسليما

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

أيها المحبُّ الصادقُ،  المتشوِّفُ الشائِقُ لِمَا ظهرَ عنْدَ ولادةِ زيْنِ الخلائقِ (عليه السلام) منَ العجائِبِ والخوارِقِ، فقدْ قالَ في المواهبِ اللَّدنِّيةِ،  وذكرَ أبو سعدٍ النيسابورِيُّ في كتابِهِ “المعجمُ الكبيرُ”،  كمَا نَقلَهُ عنْه صاحبُ كتابِ السعادَةِ والبشرَى عنْ‏ كعبٍ في حديثِه الطويلِ ورواه أبو نُعَيْمٍ من حديثِ ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما قالَ: كانتْ آمنَةُ تحدِّثُ وتقولُ: أتانِي آتٍ حينَ مرَّ بِي منْ حمْلِي ستةُ أشهرٍ في المنامِ وقالَ لِي: يا آمنةُ إنكِ قدْ حمَلْتِ بخيرِ العالمينَ فإذَا ولدْتِه فسمِّيهِ محمداً واكْتمِي شأنَك.  قالتْ: ثم أخذَنِي مَا يأخذُ النساءَ ولمْ يعلمْ بي أحدٌ،  لا ذكرٌ ولا أنثَى،  وإني لوحيدَةٌ في المنزلِ – قال بعضُ العلماءِ: لعلَّ هذَا كانَ قبلَ حضورِ أمِّ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ،  وهي الشفَّاءُ،  وأمُّ عثمانَ بنِ العاصِ وهي فاطمَةُ بنتُ عبدِ اللَّهِ الثَّقَفِيةُ -،  ثُمَّ قالتْ آمنَةُ: وعبدُ المطلبِ فِي طوافِهِ،  فسمعْتُ وجْفَةً – أي هدَّةً عظيمةً – وأمراً عظيماً هالَنِي،  ثمَّ رأيْتُ كأَنَّ جناحَ طائرٍ أبيضَ قدْ مسحَ علَى فؤادِي فذَهبَ عنِّي الرُّعبُ وكلُّ وجعٍ أجدُه،  ثمَّ الْتفتُّ فإذَا أنَا بشـرْبَةٍ بيضاءَ فتناولْتُها – وفي رواية: فإذا أنَا بشَرْبة بيضاءَ ظنَنْتُها لبناً – وكُنْتُ عطْشَـى،  فشـربْتُها فإذا هي أحَلْى منَ العَسلِ،  فأصابَنِي نورٌ عالٍ ثمَّ رأيْتُ نِسْوةً كالنخْلِ طوالاً كأنهُنَّ منْ بناتِ عبدِ منافٍ يُحدِقْنَ بي، فبينما أنا أتعجَّبُ وأقُولُ: واغَوْثَاهُ منْ أينَ علمْنَ بِي- قالَ في غيرِ هذِه الروايةِ: فقلْنَ لِي: نَحْنُ آسيةُ امرأةُ فرعونَ،  ومريمُ ابنةُ عمرانٍ وهؤلاءِ منَ الحورِ العينِ. قالَ بعْضُ العلماءِ: ولعَلَّ الحكمةَ في حضورِ مريمَ وآسيةَ كوْنُهُما تَصيرانِ زوجتَيْنِ لهُ صلى اللّه عليه وسلم في الجَنَّةِ معَ كَلْثَمْ[12] أختِ موسَى (عليه السلام)،  وقدْ حمَى اللَّهُ هؤلاءِ النسوةِ أنْ يطأَهُنَّ أحدٌ.  فقدْ رُوِيَّ أنَّ آسيةَ لما زُفَّتْ إلَى فرعونَ أخذَهُ اللَّهُ عنها وكانَ هذَا حالُهُ معها وقدْ رضِيَ منها بالنظرِ إليْهَا – قالت آمنةُ: واشتَدَّ بِي الأمرُ وإنِّي أسْمَعُ الوَجْبَةَ في كلِّ ساعةٍ أعظمَ وأهولَ مما تَقدمَ،  فبينما أنا كذلك إذَا بدِيبَاجٍ أبيضَ قدْ مُدَّ بينَ السماءِ والأرضِ،  وإذَا بقائلٍ يقولُ: خُذَاهُ – يعنِي إذَا وُلِدَ – عن أعينِ النَّاسِ.  قالت: ورأَيْت رجالاً قدْ وقَفُوا في الهواءِ بأيْدِيهِم أباريقُ منْ فضةٍ،  ثمَّ نظَرْتُ فإذَا أنا بقطْعةٍ من الطيرِ قدْ أقبلَتْ حتَّى غطَّتْ حجْرتِي،  منَاقِيرُهَا منَ الزُّمُرُّدِ وأجنحَتُهَا منَ الياقوتِ،  فكشفَ اللَّهُ عنْ بصـرِي فرأَيْتُ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها ورأيْتُ ثلاثَةَ أعلامٍ مضروباتٍ،  علماً بالمشرقِ وعلماً بالمغربِ وعلماً علَى ظهْرِ الكعبَةِ،  فأخذنِي المخاضُ،  فوضعْتُ سيدَنَا محمداً صلى اللّه عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وعظَّم.

السّلامُ عليكَ يا مَنْ افتَتَحَ مولاَهُ بنورهِ جميعَ الأكوانِ وجعَلَهُ المُمِدَّ لكلِّ منْ يكونُ أو كانَ يا سيَّدَنا محمدْ،  صلّى اللّه عليك وعلى آلك وسلّم.

السّلامُ عليكَ يا من خلعَ عليه مولاهُ بُرُودَ عنايتِه فضلاً وإحساناً وتوَّجَهُ بتاجِ رضاهُ وكرامتِه سراً وإعلاناً يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ أسبلَ عليه مولاهُ رداءَ فضلْهِ العميمِ وخاطبَهُ بقولهِ: )وإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ( [القلم: الآية 4 ] يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا مَنْ جعلَهُ مولاهُ أشرفَ المخلوقَاتِ أجمعينَ وخَاطَبَهُ بقولِه: )وَماأَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ( [ الأنبياء: الآية 107] يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ نبَّأَ مولاهُ روحَه وآدمُ بينَ الرُّوحِ والْجسَدِ،  كما قالَ ونوَّهَ إذْ ذَاكَ بعليِّ قدْرِه وما لهُ عنْدَهُ منَ الرِّفْعَةِ والكمالِ يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ جعَلَهُ مولاهُ صاحبَ السِّـرِّ الكامِلِ الأَبْهَرِ،  والوجهِ الجميلِ الأقمرِ،  الذِي لما وضعتْهُ أمُّه آمنةُ خرجَ كاليَاقوتَةِ النُّورَانِيَّةِ يفوحُ رِيحهُ كالمسْكِ الأذْفَرِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ جعَلَهُ مولاهُ إِكْسيرَ بواطنِ المُخْلِصينَ،  وقال فيه جدُّهُ عبدُ المطلبِ: رأيتُ الكعْبَةَ ليلةَ وِلادتِه خرَّتْ ساجدةً وقالتْ: اللَّهُ أكبرُ طهَّرنِي ربِي منْ أنجاسِ المشـركينَ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ هبَّ نَسيمُ مولِدِه في جميعِ الأقْطَارِ، والعالَمِ العُلوِيِّ والسُّفلِيِّ والبرِّ والبحارِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ أشرقَ نورُ مولدِه علَى الكونِ فاكْتسبَ عزّاً وشرفاً،  وراقَ عيْشُ المحبِّينَ وصفْاً،  وزهقَ الباطلُ واخْتفَى،  وظهرَ مصباحُ الإيمانِ ومَا انْطَفَى،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ أظهرَهُ مولاهُ خاتمَ الأنبياءِ والرُّسْلِ الكرامِ،  ومنَحَهُ بما لم يعطِ غيرَه منْ جميعِ الأنامِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ طهَّرَه مولاهُ منْ جميعِ الأدْرانِ والأَدناسِ ثمَّ اصطفاهُ أكملَ الموجوداتِ وأَجملَ الناسِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ حلَّاهُ مولاهُ بالكمَالاَتِ البَاطنَةِ والظَّاهِرَةِ،  وجعَلَهُ سيِّدَ أهلِ الدُّنيا وسَيِّدَ أهلِ الآخرةِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ تفضَّلَ عليه مولاهُ بمواهبِه فانْتشـرَ نورُه علَى الكونِ وَسطعَ،  ومنحَهُ بالأخلاقِ الكاملَةِ فعلاً علَى الكُلِّ وارتفعَ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ لولاهُ ما خُلقَ العرشُ والكرسيُّ واللوحُ والقلمُ ولا السماوَاتُ والأرضُ بلْ ولاَ أُخرِجَتِ الدُّنْيَا منْ طَيِّ العدمِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ أطْلعَهُ مولاهُ سراجاً وقمراً منيراً،  وأرسلَهُ لجمِيعِ المخلوقاتِ بَشيراً وَنَذيراً،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ أنقذَنا بهِ مولانَا منْ ظُلماتِ الشِّرْكِ والجهلِ والطغيانِ،  وهدانَا به إلى أَكْملِ المِللِ وأشرَفِ الأدْيانِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا خيرَ منْ جاهدَ لإعلاءِ كلمَةِ اللَّهِ فاقْتحمَ الملاحِمَ وصدَعَ بأمْرِ اللَّهِ فلَمْ تأْخُذْهُ في اللَّهِ لوْمَةَ لائمٍ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا خيرَ منْ عبدَ اللَّهَ وله تذَلَّلَ وخضعَ،  وأفضلَ منْ طافَ وسعَى وصامَ وسجدَ للَّهِ ورَكعَ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا خيرَ منِ امتثلَ أمرَ مولاهُ،  في سرِّه ونجْواهُ،  وتَهجَّدَ شكراً للَّهِ حتَّى تورمَتْ قدَمَاهُ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منِ اجتبَاهُ مولاهُ لحَضْرَتِه وخَصَّهُ بمزيدِ قُرْبِه ومعرفَتِه،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ مَنَحَهُ مولاهُ بما لمْ يعطِه أحداً منْ خَلِيقتِه وخَصَّهُ بعظيمِ رؤيتِه ومُشاهدتِه،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ هوَ موصوفٌ بالكرمِ والجودِ،  وصاحِبَ المقامِ المحمودِ والحوضِ المورودِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ بيدِه لواءَ الحمدِ يومَ القيامَةِ،  ويَحتاجُ إلَى جاهِه يومئذٍ جميعُ الأنامِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ إليه يُهْرَعُ عندَ اشتدادِ الأهوالِ والأزماتِ،  فتنْحَلُّ ببركتِه عقَدُها وتُكشفُ الغُمَّاتِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ يُنادَي إذَا عصفَ الصـراطُ بأهلِهِ: وَامحمَّدَاهُ،  فيقومُ منْ شدَّةِ إشفاقِه قائلا: ربِّ أمَّتِي وجبريلُ آخذٌ بحُجْزاهُ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ يقولُ: أنَا لَها،  حينَ يُلجِمُ الناسَ العرقُ يومَ الفزَعِ،  فيُنادَى منْ حضـرَةِ الحَقِّ: ارْفَعْ رأسكَ واشْفَعْ تُشفعْ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ إليه يلجأُ المضْطَرُّ عنْدَ نزولِ المُلِمَّاتِ والخطوبِ،  فتزولُ عنْه ويظفرُ بالمنَى والمرغوبِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ بجاهِه يَتشفَّعُ المذنبُ العاصِي،  فيَغفرُ لهُ جميعَ الزلاتِ منْ بيدِه الاخذُ بالنواصِي،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ يا منْ قالَ فيه مولاهُ في كتابِه الذكرِ الحكيمِ: )لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ( [التّوبة: الآية 128]،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ أيها النبيُّ الكريمُ،  والرسولُ الفخيمُ،  ممَّنْ شرَّفَك وعظَّمكَ مولاكَ العظيمُ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ صلى اللّه الخ.

السّلامُ عليكَ أيها الفاتحُ الخاتمُ الصـراطُ المستقيمُ،  منْ مولاكَ الرَّبِّ الكريمِ، الرحمنِ الرَّحيمِ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

السّلامُ عليكَ منْ أهلِ العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ وكلِّ ما خلقَ اللَّهُ بكلِّ سلامٍ أوجدَه اللَّهُ،  يَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدْ،  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَسَلَّمْ.

ويرحمَ اللَّهُ القَائلَ:

ظهرَ الحبيبُ فكانَ أولَ منْ ظهرْ   وبدَا علَى الأكوانِ نوراً وانْتشـرْ
وعليْه منْ سرِّ الجلالِ مهابةٌ   وجمالُ مولانَا بصورَتِه ظهرْ
ظهرَ الوجودُ به علَى إطلاقِهِ   فهْوَ الضِّياءُ لكلِّ شخصٍ في البَصـرْ
أعنِي بذلكَ حضـرةَ القدسِ الذِي   سمَّاه ربُّ العرشِ أحمدَ فِي السورْ
وجلَا به عنَّا ظلامَ بطونِنَا   وبهِ ظهرْنا بالمعانِي والصُّورْ
حمداً لمولانَا الكريمِ إلهِنَا   بوجودِه أعنِي بذاكَ أبَا البشـرْ
محمدٌ محمودٌ حُمِدَ في مدْحِه   يفنَى الزمانُ وفيه مَدْحٌ لمْ يذكرْ
صلَّى عليه اللَّهُ والصحبِ الذي   أعناقُهمْ مثلَ اللآلِي والدُّررْ

والقائلَ:

وُلِدَ الحبيبُ وخدُّه متورِّدٌ   والنُّورُ منْ وجنَاتِه متوقِّدُ
ولدَ المتوَّجُ بالكرامَةِ والرِّضَى   والطاهِرُ الشَّهْمُ الكريمُ السيدُ
جبريلُ وافَى عندْ ذلك أمَّهُ   فِي زِيِّ طيْرٍ والملائِكُ تشهدُ
بجناحِه مَا زالَ يمْسحُ بطْنَها   فبدَا النبيُّ الهاشمِيُّ محمَّدُ
قالتْ ملائكَةُ السماءِ بأسْرِها   وُلدَ الحبيبُ ومثْلُه لاُ يولَدُ
يا عاشقينَ تولَّهُوا في حسْنِه   هذَا هوَ الْحُسْنُ الجليلُ المفردُ

ثمَّ قالتْ آمنَةُ رضي اللَّهُ عنها عقبَ مَا سبقَ: فنَظَرْتُ إليه،  فإِذَا هُوَ ساجدٌ قدْ رفعَ اصْبُعَيْهِ كالمتضـرِّع المبتَهِلِ،  ثمَّ رأيتُ سحابةً بيضاءَ قدْ أقبلَتْ منَ السماءِ حتَّى غشيَتْهُ فغيَّبتْهُ عنِّي،  ثمَّ سمعتُ منادياً ينادِي: طُوفُوا بهِ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها وأدخلُوهُ البحارَ ليعرفُوه باسْمِهِ ونعتِهِ وصُورتِه ويعلَمُوا أنَّه سُمِّيَ فيها: الماحِي،  لاَ يبْقَى شي‏ءٌ منِ الشـركِ إلَّا مُحِيَ في زمَانِهِ،  ثمَّ انْجَلَتْ عنهُ فِي أسرعِ وقتٍ. لكنْ قالَ فِي المواهبِ اللدُّنِّيَةِ: إنَّ هذَا الحديثَ متكلمٌ فيِهِ.

لمولدِ خيرِ الرُّسلِ أَحْمَدَ أصبحَتْ   وجُوهُ الهدَى وَضَّاحةً مُتَبَلِّجَة
وأشرقتِ الدنيا بأنوارِ بدرِه   وعادتْ بِه أرْجَاؤُها مُتأرِّجَة
وإيوانُ كسـرَى أُسقطَتْ شُرفاتُه   وحلَّتْ عُرَى أبراجِهِ المتبرِّجَة
ونيرانُ بيتِ الفرسِ باخَ لهيبُها   وكانتْ لديْهِمُ ألفَ عامٍ مُؤَجَّجَة
وكمْ آيةٍ جاءَتْ قريبَ قدُومِه   تنيرُ منَ الحقِ المطهَّرِ منْهَجَه
عليه منَ الرحمنِ أزْكَى تحيةٍ   بِأفضلِ تِيجانِ الصلاةِ متوَّجَة

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

هذا،  ومما ظهر من العجائب والخوارق،  عند ولادة هذا النبي أشرف الخلائق،  ما أخرجه الطبراني والبيهقي وابن عبد البر عن عثمان بن أبي العاص عن أمه فاطمة بنت عبد اللّه الثقفية، قالت: لما حضـرت ولادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيت – أي ببصـري – البيت – أي الذي ولد فيه حين وقع صلى اللّه عليه وسلم من بطن أمه قد امتلأ نورا ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع عليّ.

قال الحافظ في الفتح،  وشاهده حديث العرباض الذي أخرجه الإمام أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية: أن أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام.

وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة رضي اللّه عنهما قالت: لقد رأيت،  أي رؤية عين بصرية،  ليلة وضعه،  نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها،  أي ببصـري،  على خرق العادة،  وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء بن يسار وابن عباس: أن آمنة بنت وهب رضي اللّه عنها قالت: فلما فصل مني،  تعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج معه نور أضاء له ما بين المشـرق والمغرب،  ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.  ورواه أيضا ابن عساكر وذكره السيوطي في الخصائص.

وفي قبضه التراب إشارة لغلبته أهل الأرض،  وفي رفع رأسه إلى السماء إشارة إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها ولارتفاع شأنه وعلوّ قدره وكل سؤدد.

وروى ابن سعد أيضا عن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد اللّه: أن أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت لما ولدته: خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام فولدته نظيفا ما به قذر.

وأخرج أبو نعيم: أن آمنة قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام.  نقله السيوطي في الخصائص.  ومن هذه الأحاديث وشبهها يعلم أنه صلى اللّه عليه وسلم خرج من المحل المعلوم للولادة بدليل خروج النور منه وبه يعلم بطلان قول من زعم أنه خرج من ثقبة تحت السرة،  ومن زعم أنه خرج من شقها الأيمن من غير فرج.  قال الإمام المسناوي: وكل ذلك لا أصل له ولا شك أنه لو وقع لنقل تواترا لكونه مما تتوفر الدواعي على نقله لأنه خارق للعادة وهو إن كان لا مانع منه عقلا لكنه لم يقع،  والأحاديث ظاهرة في خلافه واللّه أعلم.
قال الحافظ الشيخ عبد الرحمن بن رجب في كتابه لطائف المعارف: خروج هذا النور عند ولادته صلى اللّه عليه وسلم إشارة إلى ما يجي‏ء من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وزالت به ظلمات الشـرك.  قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ‏ [المائدة: الآية 15] الآية،  وإضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه إشارة إلى ما خص به الشام من نور نبوّته وأنها دار ملكه. قال كعب الأحبار: إن في الكتب السالفة: محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام،  فمن مكة بدت نبوّته وإلى الشام انتهى ملكه،  ولهذا أسري به صلى اللّه عليه وسلم إلى بيت المقدس كما هاجر قبله إبراهيم إلى الشام،  وفيها ينزل عيسى ابن مريم وهي أرض المحشر والمنشر.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم في صحيحهما كلهم عن عبد اللّه بن حوالة الصحابي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «عليكم بالشام فإنها[13] خيرة اللّه من أرضه،  يجتبي إليها خيرته من عباده ».  وإلى تنقل نوره صلى اللّه عليه وسلم في الأصلاب الطيبة والأرحام الطاهرة وما وقع ليلة الميلاد من إضاءة القصور وامتلاء البيت بالنور أشار سيدنا العباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم لما دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة مقدمه من غزوة تبوك في رمضان وبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس وقال له سيدنا العباس: يا رسول اللّه أتأذن لي أمتدحك،  قال له: « قل لا يفضض اللّه فاك»[14]، فقال:

من قبلها[15] طبت في الظلال[16]‏ وفي   مستودع‏[17] حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشـر   أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد   ألجم نسـرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم   إذا مضـى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما   في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من   خندف[18]‏ علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر   ض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو   ر وسبل الرشاد نخترق

ومن عجاب ولادته،  ما رواه الطبراني أنه لما وقع على الأرض وقع مقبوضة أصابع يديه مشيرا بالسبابة كالمسبّح بها.  ومنها ما في سيرة الواقدي أنه صلى اللّه عليه وسلم تكلم في أول ما ولد وفي الروض للسهيلي عن الواقدي: أول ما تكلم به النبي لما وجد: جلال ربي الرفيع.  وفي رواية: لما وقع على الأرض رفع رأسه وقال بلسان فصيح: لا إله إلّا اللّه وإني رسول اللّه.  وعند ابن عائد: أول ما تكلم به: اللّه أكبر كبيرا والحمد للَّه كثيرا وسبحان اللّه بكرة وأصيلا.  ويمكن الجمع بأنه تكلم بالجميع لكن يؤخذ من بعض الروايات أن الذكر الأخير تكلم به عقب فطامه من الرضاع،  ومنها نطق الملائكة عند ولادته بالصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم كما ذكرته أم عبد الرحمن بن عوف،  وهي الشفاء،  قابلته صلى اللّه عليه وسلم،  قالت: لما ولدت آمنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقع على يدي فاستهل فسمعت قائلا يقول: رحمك اللّه، وأخبرت أنها رأت النجوم نزلت إليه عند ولادته وأنه خرج منه نور عظيم رأوا به قصور بصـرى من أرض الشام وهم بمكة،  وأنه ولد ساجدا رافعا طرفه إلى السماء وأن الملائكة عند ولادته نطقوا بالصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم.

وقد فسّر العارف باللَّه تعالى القطب الرباني أبو العباس مولانا أحمد التجاني رضي اللّه عنه التشميت في قول البوصيري: شمتته الأملاك بصلاتهم عليه. وملخص كلامه أنه يحتمل أن مراد الناظم بتشميت الملائكة صلاتهم عليه يوم ولد بقولهم له: صلى اللّه عليه وسلم،  فإنه صلى اللّه عليه وسلم في الليلة التي ألقيت نطفته في رحم آمنة وقع به تنبيه عظيم في السماوات وفي الجنة

بأنه ألقي في رحم أمه آمنة هذه الليلة اعتناء به صلى اللّه عليه وسلم وحين رأى اللعين ذلك رنّ رنة عظيمة بسبب الغيظ الذي حصل له فإنه أعظم من الغيظ الذي وقع له حين أمر بالسجود لادم فلما قرب خروجه للوجود وجاء وقت الولادة حضرت الملائكة،  ولما وجد صلوا عليه صلى اللّه عليه وسلم.

ما نال فخر الرسول المصطفى بشـر   كلا ولا حام حول قدره أحد
يا عاشقين صلّوا على المختار من مضـر   فبالصلاة عليه يدرك الخير والرشد

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

ومما ظهر من الخوارق والأمر العجيب يوم ولادة هذا النبي الحبيب،  ما وجد من التبشير به من المنجّمين والرهبان،  وما وقع من سقوط الأصنام وهتف الجان وخمود نار فارس على التمام،  وكانت لم تخمد قبل ذلك ألف عام،  وسقوط أربع عشـر شرفة من إيوان كسـرى بعد الارتجاج والانصداع،  وغيض ماء بحيرة ساوة مع ما فيها من كثرة المياه والاتساع.

أخرج الحاكم ويعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما في فتح الباري عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر فيها،  فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: يا معشـر قريش،  هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا: لا نعلم،  قال:
انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف الفرس،  لا يرضع ليلتين لأن عفريتا من الجنّ وضع يده على فمه.  فانصرفوا فسألوا،  فقيل لهم: قد ولد لعبد اللّه بن عبد المطلب غلام.  فذهب اليهودي معهم إلى أمه فقالوا: أخرجي المولود ابنك، فأخرجته لهم وكشفوا عن ظهره فلما رأى اليهودي العلامة خرّ مغشيا عليه،  فلما أفاق قالوا: ويلك ما لك ؟ قال: ذهبت النبوّة من بني إسرائيل أما واللّه ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشـرق والمغرب.

وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان،  أعقل ما رأيت أو سمعت،  إذا يهودي يصـرخ ذات غداة: يا معشر يهود،  فاجتمعوا إليه قالوا: يا ويلك ما لك ؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة.

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم لكن بسند ضعيف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصا من أهل الشام أتاه اللّه علما كثيرا وكان يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم،  هذا زمانه.  فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه.  فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا في صومعته فناداه فأشرف عليه فقال له عيص: كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين ويبعث يوم الاثنين ويموت يوم الاثنين.  قال: ولد لي الليلة مع الصبح مولود،  قال: فما سمّيته؟ قال: محمّدا،  قال: واللّه لقد كنت أشتهي هذا المولود فيكم أهل هذا البيت بثلاث خصال تعرفه، فقد أتى عليهن منها أنه طلع نجمه البارحة وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد.

وروي: لما ولد صلى اللّه عليه وسلم أصبحت أصنام الدنيا كلها منكوسة وأصبح غرس إبليس ساقطا، فلما رأى ذلك صرخ صرخة اجتمعت إليه الشياطين فقالوا: يا سيدهم ما الذي دهاك ؟ فقال لهم: هذا محمد بن عبد اللّه مبعوث بالسيف القاطع يبطل عبادة الأوثان ويدعو إلى الرحمن الذي لا يأتي موضعا من المواضع إلّا وجدنا ذكره.

وعن عكرمة أنه لما ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورأى إبليس تساقط النجوم قال لجنوده: قد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا،  فقال له جنوده: لو ذهبت إليه فخبلته.  فلما دنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث اللّه جبريل فركضه برجله ركضة وقع بعدن.
وذكر أرباب السير عن عبد المطلب قال: كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت من أماكنها وخرّت سجدا وسمعت صوتا من جدار الكعبة يقول: ولد محمد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار ويطهر من عبادة الأصنام،  ويأمر بعبادة الملك العلّام.

وروي أن صنم قريش انكبّ على وجهه فأقاموه وردوه ثم انكبّ على وجهه مرتين أو ثلاثا،  فهتف بهم هاتف بصوت جهير،  وأنشد:

ردى لمولود أنارت لنوره   جميع فجاج الأرض بالشـرق والغرب
وخرّت له الأوثان طرا فأرعدت   قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
ونار جميع الفرس ساخت وأظلمت   وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصارت عن الكهان بالغيب جنّها  

 

فلا مخبر عنهم بصدق ولا كذب
فيا لقصـي ارجعوا عن ضلالكم   وهبّوا إلى الإسلام والمنزل الرحب

وروي عن عثمان بن أبي العاص أن أمه فاطمة الثقفية رضي اللّه عنها قالت: سمع هاتف يهتف على جبل الحجون ليلة ولادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ينشد:

فأقسم ما أنثى من الناس أنجبت   ولا ولدت أنثى من الناس واحدة
كما ولدت زهرية ذات مفخر   مجنبة لؤم القبائل ماجدة

وروى البيهقي وأبو نعيم والخرائطي وابن عساكر وابن جرير كلهم من حديث مخزوم بن هاني عن أبيه: وأتت عليه مائة وخمسون سنة،  قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتجس[19]‏ إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام،  وغاضت بحيرة ساوة،  الحديث.

هذا،  وولد صلى اللّه عليه وسلم مختونا – أي على صورته مسـرورا،  أي مقطوع السـرّة – كحيلا نظيفا طيبا لا دم فيه،  مدهونا بين كتفيه خاتم النبوّة.

فعن صفية بنت عبد المطلب أنها قالت: كنت قابلته حين ولد فرأيت فيه ست علامات،  الأولى: رأيته حين سقط على الأرض وقع ساجدا،  والثانية: لما رفع رأسه قال بلسان فصيح: لا إله إلّا اللّه إني رسول اللّه.  والثالثة: رأيت البيت مستضيئا من نوره قد غلب ضوؤه ضوء السراج.  والرابعة: أردت أن أغسله فهتف بي هاتف: يا صفية لا تتعبي نفسك فإنّا أخرجناه مغسولا طاهرا طيبا.  والخامسة: أردت أن أعرف أذكر أم أنثى فوجدته مختونا مسـرورا.  والسادسة: أردت أن ألفه في لفافة فوجدت على ظهره خاتم النبوّة بين كتفيه.

وروى الطبراني في الأوسط وابن عساكر من طرق عن أنس رضي اللّه عنه: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: « من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي ».  صححه الضياء المقدسي في المختارة،  وحسّنه مغلطاي ورواه أبو نعيم بسند جيد عن ابن عباس. وقيل: ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه وصنع له مأدبة وسمّاه محمّدا،  رواه الوليد بن سلم عن مالك والأوزاعي والثوري وغيرهم،  لكن قال العرقي: سنده غير صحيح.

وقيل: ختنه جبريل ( عليه السلام ) عند حليمة السعدية حين طهّر قلبه بعد شقّه.  ورواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من حديث أبي بكرة لكن قال الذهبي: هذا الحديث منكر،  فالأقوال الثلاثة أرجحها الأول واللّه أعلم. وفي التعبير بالختان تجوز لأنه القطع ولا قطع هنا،  وإنما المراد وجد على هذه الهيئة.  انظر المواهب.  قال ابن القيّم: وليس الختان من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم فإن كثيرا من الناس،  الأنبياء وغيرهم،  ولد مختونا.  اهـ.

وقد ولد من الأنبياء على صورة المختون غير نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم ستة عشر،  نظم الجميع البلقيني بقوله:

وفي الرّسل مختون لعمرك خلقة   ثمان وتسع طيّبون أكارم
وهم زكريا شيث إدريس يوسف   وحنظلة عيسـى وموسى وآدم
ونوح شعيب سام لوط وصالح   سليمان يحيى هود يس خاتم

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

هذا،  واختلف في الشهر الذي ولد فيه،  والمشهور أنه ربيع الأول ثاني عشر منه،  وعليه عمل أهل مكة قديما وحديثا في زيارتهم في هذا الوقت موضع مولده بمكة المعروف الآن بمسجد المولد،  وهو الذي عليه العمل مشرقا ومغربا.  وبالغ ابن الجوزي فحكى عليه الإجماع وقيل: لليلتين خلتا منه،  وقيل لثمان وهو اختيار أكثر أهل الحديث،  وقيل: ليلة السابع،  وهو الذي ذهب إليه القطب سيدي عبد العزيز كما نقله عنه تلميذه في الإبريز.  كما اختلف في وقته من ليل أو نهار،  فقيل: نهارا وصححه بدر الدين الزركشي والعراقي وجماعة،  وقيل: ليلا،  أي في آخره قبيل الفجر،  وقيل: ليلا قبيل الفجر وتأخر خلاص أمه إلى طلوع الفجر وهو الذي جزم به القطب سيدي عبد العزيز كما نقله عنه تلميذه سيدي أحمد بن مبارك في الإبريز،  ونصه: وسألته رضي اللّه عنه،  هل ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلا أو نهارا ؟ فقال رضي اللّه عنه: الذي في الواقع و نفس الأمر أنه صلى اللّه عليه وسلم ولد في آخر الليل قبيل الفجر وتأخر خلاص أمه إلى طلوع الفجر.  والمدة التي بين انفصاله صلى اللّه عليه وسلم من بطن أمه وانفصال الخلاص منها هي ساعة الاستجابة في الليل التي وردت بها الأحاديث وفخّمت أمرها وأشعرت بتعظيمها وامتداد حكمها إلى يوم القيامة،  وفي تلك الساعة يجتمع أهل الديوان من أولياء اللّه تعالى من سائر أقطار الأرض وفيهم الغوث والأقطاب السبعة وأهل الدائرة رضي اللّه عنهم أجمعين،  ويكون اجتماعهم بغار حراء خارج مكة وهم الحاملون لعمود نور الإسلام،  ومنهم يستمد جميع الأمة،  فمن وافق دعاؤه دعاءهم في تلك الساعة أجاب اللّه دعوته.  اهـ.

ولا يخفى عليك أنه يمكن التوفيق بين تلك الأقوال بكلام سيدي عبد العزيز المذكور فلا يبقى بينها خلاف واللّه تعالى أعلم.  قالوا: ووافق مولده من الشهور الشمسية نيسان وهو برج الحمل لعشـرين مضت منه،  قيل: ووافق طلوع الغفر وهو ثلاثة أنجم صغار إحدى منازل القمر وهو مولد النبيين ومنتهى العلم إلى اللّه تعالى،  واتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين كما أنه نبئ يوم الاثنين وخرج من مكة مهاجرا يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين.

ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس قال: ولد المصطفى صلى اللّه عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ورفع صلى اللّه عليه وسلم الحجر يوم الاثنين،  اهـ،  أي لما بنى قريش الكعبة سنة خمس وثلاثين من مولده صلى اللّه عليه وسلم،  واختصموا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه حتى أعدوا للقتال،  ثم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة – وكان أسنهم -: يا معشـر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول داخل من باب هذا المسجد – يعني باب بني شيبة – يقضـي بينكم.  فكان صلى اللّه عليه وسلم أول داخل،  فقالوا: هذا الأمين رضينا.  وأخبروه الخبر،  فقال: « هلم إليّ ثوبا »،  فأتي به فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده ثم قال: « لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا » ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى اللّه عليه وسلم.

وذكر السهيلي: أن إبليس لعنه اللّه حضـر معهم في صورة شيخ نجدي لما حكّموا النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال لهم: قد رضيتم أن يضع هذا الركن الذي هو شرفكم غلام يتيم دون أن يضعه ذوو أنسابكم.  فكاد يثير شرّا بينهم،  ثم سكتوا.  ثم إن حديث ابن عباس المذكور فيه إرسال صحابي لأنه لم يدرك ذلك وكان في الهجرة ابن ثلاث سنين ويؤخذ من هذا الحديث أفضلية يوم الاثنين على سائر أيام الأسبوع – أي إلّا يوم الجمعة – والكلام في نظائر يوم الولادة لا فيه بنفسه فإنه أفضل من يوم الجمعة ومن سائر المواسم،  وقد كان يوم الجمعة معظما عند العرب،  ويوم السبت عند اليهود،  ويوم الأحد عند النصارى،  فعظّم اللّه يوم الاثنين بولادة النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه ليكون خاتمة الأيام المعظّمة كما أنه صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين.

قال العارف باللَّه تعالى القطب مولانا أحمد التيجاني رضي اللّه عنه: تفكرت في اختصاص سيد الوجود صلى اللّه عليه وسلم بيوم الاثنين فتبين لي أنه لما كان هو الوجود الثاني لم يتقدمه إلا الوجود القديم وكذلك هذا اليوم هو الثاني من الأيام لم يتقدمه إلا يوم الأحد فلهذا كان تقلّب أطواره صلى اللّه عليه وسلم في يوم الاثنين،  فيه ولادته وفيه هجرته وفيه دخوله لطيبة وفيه أرسل،  وكذلك سيدنا آدم ( عليه السلام ) في اختصاصه بيوم الجمعة وتقلّب أطواره فيه لمناسبة وجوده فيه لأن سيدنا آدم هو الوجود الأخير وهو المعبر عنه عند العارفين بالتجلّي الأخير واللباس الأخير وهذا اليوم هو الأخير من الأيام التي خلق فيها خلقه تعالى،  خلق السماوات والأرض في ستة أيام في اليوم السابع قال تعالى: ثم استوى على العرش على ما أراد وعلم ولم يخلق فيه مخلوقا فلهذه المناسبة كانت أطوار سيدنا آدم ( عليه السلام ) من خلق ودخول الجنة وخروج منها وتوبة فيه،  ولا يلزم على هذا أفضلية يوم الاثنين على الجمعة لاختصاص أطوار سيد الوجود صلى اللّه عليه وسلم به،  فإن التفضيل أمر إلهي لا علّة له ولا قياس،  يفضل اللّه ما شاء بما شاء على ما شاء،  فما سمع من التفضيل لمخلوق من خبر اللّه وخبر رسول اللّه فهو المفضل وما لا فلا،  انتهى.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اِلْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالْخاَتِمِ لِمَا سَبَقَ،

نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ ‏‏وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ‏

وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ اِلْعَظِيمِ‏

هذا،  وأول من أرضعه صلى اللّه عليه وسلم أمّه السيدة آمنة تسعة أيام.  وعن القضاعي: سبعة أيام،  وقيل ثلاثة،  ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب التي أعتقها حين بشّـرته بولادة النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان إرضاعها له بإذن سيدها،  أرضعته أياما قلائل بعد أمه وقبل قدوم حليمة. رواه ابن سعد.  ثم خصّ اللّه تعالى به السيدة السعدية حليمة التي فازت بجناية سعدها منه وكل غنيمة.  ففي المواهب ذكروا أنه لما ولد صلى اللّه عليه وسلم قيل: من يكفل هذه الدّرة اليتيمة التي لا يوجد لمثلها قيمة،  قالت الطيور: نحن نكفله ونغتنم خدمته العظيمة،  وقالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه.  فنادى لسان القدرة أن: يا جميع المخلوقات إن اللّه كتب في سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة اهـ.

وقد كان من عادة العرب إذا ولد مولود يلتمسون له مرضعا من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له. قالت حليمة بنت أبي ذؤيب عبد اللّه بن الحرث،  وقيل: الحرث بن عبد اللّه من بني سعد بن هوازن،  فيما رواه ابن إسحاق والطبراني والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شهباء على أتان لي ومعي صبي لنا – تعني ولدها عبد اللّه بن الحارث الذي كانت ترضعه حينئذ والراجح أنه أسلم وعدّه في الصحابة الحافظ ابن حجر في الإصابة – وشارف لنا – أي ناقة مسنّة – واللّه ما تبضّ – أي تدرّ – بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك لا يجد في ثديي ما يغديه ولا في شارفنا ما يغديه.  فقدمنا مكة فواللّه ما علمت منا امرأة إلّا وعرض عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم من الأب،  فواللّه ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري،  فلما لم أجد غيره قلت لزوجي: واللّه إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنّه،  فقال: لا بأس عليك أن تفعلي عسى اللّه أن يجعل لنا فيه بركة.  فذهبت – وفي رواية قالت: فاستقبلني عبد المطلب فقال: من أنت ؟ فقلت: امرأة من بني سعد،  فقال: ما اسمك ؟ فقلت: حليمة. فتبسّم عبد المطلب وقال: بخ بخ سعد وحلم خصلتان فيهما خير الدهر وعزّ الأبد يا حليمة إن عندي غلاما يتيما وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن: ما عند اليتيم من خير إنما نلتمس الكرامة من الآباء،  فهل لك أن ترضعيه فعسى أن تسعدي به ؟ فقلت: ألا تذرني حتى أشاور صاحبي، قال: بلى،  فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته فكأن اللّه قذف في قلبه فرحا وسرورا،  فقال لي: يا حليمة خذيه،  فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعدا ينتظرني،  فقلت: هلمّ الصبي فاستهلّ وجهه فرحا فأخذني وأدخلني بيت آمنة فقالت لي: أهلا وسهلا وأدخلتني البيت الذي فيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء راقد عليها على قفاه يغط تفوح منه رائحة المسك،  فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله،  فدنوت منه رويدا فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينه ينظر إليّ فخرج منهما نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر فقبّلته بين عينيه وأعطيته ثديي الأيمن فأقبل عليه بما شاء من لبن فحوّلته إلى الأيسـر فأبى،  وكانت تلك حاله بعد.  قال العلماء: ألهمه اللّه تعالى أن له شريكا فألهمه اللّه العدل،  ثم قالت حليمة: فروى وروي أخوه ثم أخذته بما هو إلى أن جئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشـرب حتى روي وشرب أخوه،  فقام صاحبي – تعني زوجها- إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل،  فحلبا منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريّا وشبعا وبتنا بخير ليلة،  فقال صاحبي حين أصبحنا: واللّه يا حليمة إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة،  فقلت: واللّه إني لأرجو ذلك.  ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته معي عليها فواللّه إنها قطعت بالركب ما يقدر على مرافقتها شي‏ء من حمرهم حتى أن صواحبي يقلن لي وهي ورائي: يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أ ليست هذه أتانك التي كنت عليها تخفضك طورا وترفعك طورا آخر.  فأقول لهن: بلى واللّه إنها لهي،  فيقلن: واللّه إن لها لشأنا عظيما،  قالت حليمة: وكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: واللّه أن لي لشأنا ثم شأنا شأني بعثني اللّه بعد موتي ورد لي سمني بعد هزالي،  ويحكنّ يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة،  وهل تدرين من على ظهري،  على ظهري خير النبيين وسيّد المرسلين وخير الأولين والأخيرين وحبيب رب العالمين.

روي أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت،  أي خفضت رأسها،  نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت قالت: ثم قدمنا منازلنا بني سعد،  ولا أعلم أرضا من أرضى اللّه أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا أي غزيرات اللين فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعائهم: ويحكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب،  يعنونني،  فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا.  فللّه درّها من بركة كثرت بها مواشي حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت،  فلم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى والزيادة.

لقد بلغت بالهاشمي حليمة   مقاما علا في ذروة العز والمجد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها   وقد عمّ هذا السعد كل بني سعد

وذلك أن حليمة قالت: لما دخلت به منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلّا شممن منه ريح المسك وألقيت محبّته في قلوب الناس حتى أن أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه صلى اللّه عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن اللّه سريعا.  قالت حليمة: وكان صلى اللّه عليه وسلم يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان فلم يقطع سنتين حتى كان غلاما جفرا – أي غليظا شديدا – وفي رواية قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بلغ شهرين يتزحلق إلى كل جانب،  وفي ثلاثة أشهر كان يقوم على قدميه،  وفي أربعة كان يمسك الجدار ويمشي،  وفي خمسة حصلت له القدرة على المشي،  وفي ستة كان يسـرع في المشـي،  وفي سبعة كان يسعى ويغدو إلى كل جانب،  فلما بلغ ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه،  ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم بالكلام الفصيح،  ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي بالسهام مع الصبيان.  قالت: فلما فصلته قدمنا به على أمه ونحن أحرص شي‏ء على مكثه فينا لما نرى من بركته،  فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنّا نخشى عليه وباء مكة.

ولم نزل بها حتى ردّته معنا،  فرجعنا به فو اللّه إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفى بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد،  فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه وشقا بطنه.  فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائما منتقعا لونه،  فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان.  قالت حليمة: فرجعناه معنا فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوّف،  قالت حليمة: فاحتملناه حتى قدمنا به مكة على أمه فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه ؟ قلنا: نخشى عليه الإتلاف والاحداث،  فقالت: ما ذاك فأصدقاني شأنكما.  فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره قالت: أخشيتما عليه الشيطان ! كلا واللّه ما للشيطان عليه سبيل وأنه لكائن لابني هذا شأن عظيم،  فدعاه عنكما  اهـ.

لكن ما أخذ من هذه الرواية من أن شقّ صدره الشـريف كان في أول السنة الثالثة لقوله فيها بشهرين أو ثلاثة الراجح خلافه،  وأن شق الصدر إنما كان في الرابعة وأن رجوعه لأمه وهو ابن أربع سنين كما جزم به الحافظ العراقي وتلميذه الحافظ ابن حجر في سيرته.  وحكى الواقدي عن ابن عباس: أنه رجع وهو ابن خمس سنين.  وعن ابن عبد البر: بعد خمس سنين ويومين.  وقال الأموي: ابن ست سنين.

روى أبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر عن شداد بن أوس عن رجل من بني عامر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: « كنت مسترضعا في بني سعد بن بكر،  فبينما أنا ذات يوم في بطن‏ واد مع أتراب لي من الصبيان إذ أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملئ ثلجا فأخذوني من بين أصحابي وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحيّ،  فعمد أحدهم فأخذوني من بين أصحابي وانطلق الصبيان هرابا مسـرعين إلى الحيّ،  فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا ثم شقّ ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسّا،  ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قام الثاني فقال لصاحبه: تنح،  ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي،  وأنا أنظر إليه،  وصدعه – أي شقّه- ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ».

وعند مسلم أحمد: « فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك.  ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئا فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه،  فختم به قلبي وامتلأ نورا وذلك نور النبوءة والحكمة،  ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا.  ثم قال الثالث لصاحبه: تنح،  فأمرّ بيده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشقّ بإذن اللّه تعالى،  ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا ثم قال الأول للثالث: زنه بعشـرة من أمته،  فوزنني فرجحتهم،  ثم قال: زنه بمائة من أمته،  فرجحتهم،  ثم قال: زنه بألف،  فرجحتهم،  فقال: دعه فلو وزنته بأمته كلها لرجحهم.  ثم قالوا: يا حبيب اللّه لم نزع أنك لو تدري ما يراد بك من الخيرات لقرّت عيناك » الحديث.

ثم إن هذا الشق الذي أخرج فيه من قلبه المطهّر المضغة السوداء،  وقيل له: هذا حظ الشيطان منك ثم ملئ قلبه بنور النبوءة والحكمة وختم عليه بخاتم من نور يحار الناظر دونه هو الشق الأول.  والحكمة في شقّ صدره الشريف حال صباه واستخراج العلقة منه: تطهيره عن حالة الصبا حتى يتصف في ذلك السن بأوصاف الرجولية وينشأ على أكمل الأحوال المرضية. وروى أبو نعيم في الدلائل: شقّه مرة ثانية وهو ابن عشر سنين ونحوها،  كما رواها أيضا عبد اللّه بن أحمد في زوائد مسند أبيه عن أبي هريرة والحكمة فيه أن العشـر قريب من سن التكليف فشقّ وقدّس حتى لا يتلبس بشي‏ء مما يعاب على الرجال،  وقد وقع شقّه مرة ثالثة عند مجي‏ء جبريل له بالوحي في غار حراء.  أخرجه البيهقي وأبو نعيم والطيالسـي،  والحكمة فيه زيادة الكرامة ليلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال.  قاله الحافظ. ومرة رابعة عند الإسراء،  رواها الشيخان والترمذي والنسائي،  والحكمة فيه الزيادة في إكرامه ليتأهّب للمناجاة.  وروي: مرة وهو ابن عشـرين سنة،  ولم تثبت،  نقله في شرح المواهب عن الحافظ.  وإلى الأربع الأول أشار سيدي علي الأجهوري بقوله:

وشقّ صدر المصطفى وهو في   دار بني سعد من غير مرية
كشقه وهو ابن عشـر ثم في   ليلة معراج وعند البعثة

ثم إن وقوع الشق ليلة الإسراء قال الحافظ حديثه متواتر فنفى القاضي عياض له في الشفاء غير صواب وكذا نفاه صاحب الإبريز ولكن ما ثبت عن الصحابة بالسند الصحيح مقدم كيف وهو الذي رواه من ذكرنا من أئمة الحديث واللّه تعالى أعلم.

ومن مرضعاته صلى اللّه عليه وسلم أم فروة،  وكذا امرأة من بني سعد غير حليمة،  فهؤلاء خمسة متفق عليهن وبقيت خمسة مختلف فيهن،  أم أيمن بركة الحبشية والمشهور أنها حاضنة لا مرضع وثلاث من بني سليم أبكار مرّ به صلى اللّه عليه وسلم عليهن فأخرجن ثديهن فوضعنها في فيه فدرت ولذا قال أنا ابن العواتك من سليم ولكن الراجح كما للسهيلي أنهن جدات لا مرضعات عاتكة بنت هلال أم عبد مناف وعاتكة بنت مرة أم هاشم وعاتكة بنت الأقوص أم وهب جده صلى اللّه عليه وسلم لأمه، الخامسة خولة بنت المنذر والصواب أنها إنما أرضعت ولده سيدنا إبراهيم كما لابن عبد البر وغيره،  ثم إنه لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت كما لأبي بكر بن العربي في سراج المريدين.  ونقله السيوطي عن بعضهم وسلمه أما أمه السيدة آمنة رضي اللّه عنها فهي على الإسلام على دين جدها سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) كما يدل لذلك قولها لما حضرتها المنية وولدها سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم عند رأسها ناظرة لطلعته البهية.

بارك اللّه فيك من غلام   يا بن الذي من حومة الحمام
نجا بعون الملك العلام   فدى غداة الضـرب بالسهام
بمائة من إبل سوام   إن صح ما أبصـرت في المنام
فأنت مبعوث إلى الأنام   تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث في التحقيق والإسلام   دين أبيك البر إبراهام
فاللّه أنهاك عن الأصنام   أن لا تواليها مع الأقوام

ثم قالت: كل حي ميت وكل جديد بال وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكري باق وقد تركت خيرا وولدت طهرا.  ثم ماتت وهو صلى اللّه عليه وسلم ابن أربع سنين،  وقيل: خمس ومائة يوم،  وقيل ست وثلاثة أشهر،  واقتصـر عليه الحافظ ابن حجر.  وقيل غير ذلك على أنه كما قال السيوطي قد ورد من طرق متعددة ضعيفة ولكن بعضها يعضد بعضا،  ومعلوم أن الضعيف يعمل به في الفضائل والمناقب أن اللّه تعالى أحيا أبوي النبي صلى اللّه عليه وسلم له حتى آمنا به،  وبهذا جزم جمع من الأئمة وحفاظ الحديث.  ولقد أحسن الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي حيث قال:

حبا اللّه النبي مزيد فضل   على فضل وكان به رءوفا
فأحيا أمه وكذا أباه   لإيمان به فضلا منيفا
فسلّم فالقديم بذا قدير   وإن كان الحديث به ضعيفا

وقال الشهاب ابن حجر الهيثمي في شرح الهمزية وفي مولده أن الحديث غير ضعيف بل صححه غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا للطعن فيه،  وعلى هذا قول بعضهم:

أيقنت أن أبا النبي وأمه   أحياهما الرب الكريم الباري
حتى له شهدا بصدق رسالة   سلم فتلك كرامة المختار
هذا الحديث ومن يقل بضعفه   فهو الضعيف عن الحقيقة عار

لكن قال الزرقاني في شرح المواهب: الذي يظهر لي أن المراد صححوا العمل به في الاعتقاد وإن كان ضعيفا لكونه في مرتبته فيرجع لكلام السيوطي  اهـ.  ولا يخفى عليك بعد هذا التأويل من كلام الهيثمي وقد بذل الحافظ السيوطي في ذلك جهده فألف فيه ست مؤلفات حفلة فجزاه اللّه خيرا وشكر سعيه.

وأما السيدة حليمة فقد صحح إسلامها وأنها من الصحابة جمع من الأئمة كابن حبان والمنذري وابن الجوزي وابن عبد البر والحافظ ابن حجر في الإصابة.  وأما ثويبة وأم فروة والمرأة التي أرضعته وهو عند حليمة فيكفي في دليل إسلامهن ما نقلناه قبل عن ابن العربي والسيوطي.  ولما ماتت أمه السيدة آمنة ضمه جده إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده،  وكان يقربه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام،  ويجلس على فراشه وأولاده لا يجلسون عليه.  ذكر ابن إسحاق أنه كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة وكان لا يجلس عليه من بنيه أحد إجلالا له وكان صلى اللّه عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه،  فتذهب أعمامه يؤخرونه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني،  ويمسح على ظهره بيده ويقول: إن لابني هذا لشأنا.

ولما كملت له صلى اللّه عليه وسلم ثمان سنين،  كما جزم به ابن إسحاق وتبعه العراقي وتلميذه الحافظ ابن حجر،  مات جده سيدنا عبد المطلب وسنه مائة سنة وعشر،  وقيل أربعون،  وعمي قبل موته ودفن بالحجون – بفتح الحاء جبل بمعلاة مكة – وكفله عمه أبو طالب واسمه عبد مناف بوصية من أبيه عبد المطلب لكون أبي طالب شقيق عبد اللّه والد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

ذكر الواقدي: أن عيال أبي طالب كانوا إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل المصطفى معهم شبعوا.  فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول: كما أنتم حتى يأتي ابني.  فيأتي فيأكل معهم فيفضل من طعامهم وإذا كان لبنا شرب أولهم ثم يشربون فيروون كلهم من قعب واحد،  وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.

وروى أبو نعيم وغيره عن ابن عباس قال: كان بنو أبي طالب يصبحون عمشا رمصا ويصبح محمد صلى اللّه عليه وسلم صقيلا دهينا كحيلا،  وكان أبو طالب يحبه حبا شديدا لا يحب أولاده كذلك ولذا لا ينام إلّا إلى جنبه ويخرج به متى خرج.

وذكر ابن قتيبة في غريب الحديث: أنه كان يوضع له الطعام ولصبية أبي طالب فيتطاولون إليه ويتقاصر هو وتمتد أيديهم وتنقبض يده تكرما منه واستحياء ونزاهة نفس وقناعة قلب ويصبحون عمشا رمصا مصفرة ألوانهم ويصبح هو صلى اللّه عليه وسلم صقيلا دهينا كأنه في أنعم عيش وأعز كفاية لطفا من اللّه تعالى به،  ولما بلغ صلى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة سنة،  وقيل ثلاثة عشر،  خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام حتى بلغ بصرى – بضم الباء- مدينة من عمالة الشام هي أول مدينة فتحت بابها فرآه بحيرى الراهب – بفتح الباء وكسـر الحاء المهملة آخره راء مقصورة – واسمه جرجيس – بكسـر الجيمين- كان إليه علم النصرانية فعرفه بصفته. وفي رواية للترمذي والبيهقي وابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى اللّه عليه وسلم في أشياخ من قريش،  فلما أشرفوا على الراهب – يعني بحيرى – هبطوا فحلّوا رحالهم فخرج إليهم وكان قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت،  قال: فنزل وهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: هذا سيد المرسلين،  هذا سيد العالمين،  هذا يبعثه اللّه رحمة للعالمين،  فقيل له: وما علمك بذلك،  قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلّا خرّ ساجدا ولا يسجدان إلّا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوءة في أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة وإنا نجده في كتبنا.

وفي حديث البيهقي وأبي نعيم: أن بحيرة رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظلّه من بين القوم،  ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلّت الشجرة وتهصرت – أي مالت – على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى استظل تحتها،  أراد الواقدي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما فارق تلك الشجرة التي كان جالسا تحتها وقام انقلعت من أصلها،  زاد في رواية ابن إسحاق أنه قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلّا ما أخبرتني عما أسألك عنه،  فقال صلى اللّه عليه وسلم: لا تسألني بهما شيئا فو اللّه ما أبغضت شيئا قط بغضهما.  فقال له بحيرى: فباللّه إلّا ما أخبرتني عما أسألك عنه،  فقال له: سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن حاله ونومه وهيئته وأموره ويخبره صلى اللّه عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته،  ورأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده فلما فرغ أقبل على عمه فقال له: ما هذا الغلام منك، قال: ابني،  قال: فما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا،  قال: فإنه ابن أخي،  قال: فما فعل أبوه،  قال: مات وأمه حبلى به.

قال: صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو اللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم. فأسرع به إلى بلاده فخرج به أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

وخرّج الترمذي وحسّنه والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم والخرائطي وابن عساكر في حديث أبي موسى السابق صدره أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصدون قتله ( عليه السلام ) فاستقبلهم بحيرى،  فقال: ما جاء بكم ؟ فقالوا: إن هذا النبي – أي الذي بشّـر به في كتبنا – خارج في هذا الشهر- أي إلى السفر- فلم يبق طريق إلّا بعث إليها بأناس،  قال: أ فرأيتم أمرا أراد اللّه أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا: لا،  قال: فبايعوه – أي بحيرى- على مسالمة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأقاموا معه – أي مع بحيرى- خوفا على أنفسهم إذا رجعوا لملكهم بدونه فقام بحيرى وقال لأبي طالب ومن معه: أنشدكم باللّه أيكم وليه ؟ قالوا: أبو طالب،  فلم يزل يناشده حتى ردّه أبو طالب ثم خرج صلى اللّه عليه وسلم مرة ثانية إلى الشام فلما بلغ عشـرين سنة مع أبي بكر الصديق وهو ابن ثمان عشـرة سنة لتجارة فذهبا حتى نزلا منزلا فيه سدرة فقعد (عليه السلام) في ظلها ومضـى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى يسأله عن شي‏ء،  فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة،  قال: محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب،  قال: هذا واللّه نبي ما استظلّ تحتها بعد عيسى (عليه السلام ) إلّا محمد.  ووقع في قلب أبي بكر التصديق.  فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم اتبعه،  أخرجه ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس قال الحافظ ابن حجر: إن هذه السفرة غير سفرته مع أبي طالب لأن تلك كانت وهو ابن ست عشـرة سنة وهذه وهو ابن عشرين سنة،  ولما بلغ صلى اللّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة خرج إلى الشام مرة ثالثة ومعه ميسرة غلام خديجة وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة وكانت قريش قوما تجارا ومن لم يكن منهم تاجرا فليس عندهم بـشي‏ء.

روى الواقدي أن أبا طالب قال: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضـر خروجها إلى الشام وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من اليهود،  ولكن لا نجد من ذلك بدا.  فقال صلى اللّه عليه وسلم: لعلها ترسل إليّ في ذلك.  فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه وقالت: دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.  فذكر ذلك صلى اللّه عليه وسلم لعمه فقال: إن هذا لرزق ساقه اللّه إليك.  فخرج صلى اللّه عليه وسلم ومعه ميسرة حتى بلغ سوق‏ بصرى فنزل تحت ظل شجرة هناك قريبة من صومعة نسطورا الراهب فقال نسطورا: يا ميسـرة من هذا الذي تحت هذه الشجرة ؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم،  فقال له الراهب: ما نزل – أي في هذه الساعة – تحت هذه الشجرة بعد عيسى إلّا نبي.  ثم دنا إليه صلى اللّه عليه وسلم وقبّل رأسه وقدميه وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكر اللّه في التوراة.  فلما رأى الخاتم قبّله وقال: أشهد أنك رسول اللّه النبي الأمي الذي بشّر بك عيسى فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلّا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد.  ثم قال الراهب لميسـرة: في عينيه حمرة،  قال ميسرة: نعم لا تفارقه أبدا،  قال الراهب: هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج.  فوعى ذلك ميسـرة ثم حضر صلى اللّه عليه وسلم سوق بصـرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل: احلف باللات والعزى،  فقال: ما حلفت بهما قط،  فقال الرجل: القول قولك،  ثم قال لميسرة وخلا به: هذا نبي والذي نفسـي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم.  فوعى ذلك ميسرة ثم انصرف أهل العير جميعا وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس

ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية – أي غرفة لها – رأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على بعير وملكان يظلان عليه.  رواه أبو نعيم،  زاد غيره: فأرته نساءها فعجبن لذلك ودخل عليها صلى اللّه عليه وسلم فأخبرها بما ربحوا فسـرت فلما دخل عليها ميسـرة أخبرته بما رأت،  فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام.  وأخبرها بقول نسطورا وقول الآخر الذي خالفه في البيع وربحت ضعف ما كانت تربح فأضعفت ما كانت سمته له.

ثم بعد قدومه صلى اللّه عليه وسلم من الشام بشهرين وخمسة وعشرين يوما تزوج مولاتنا خديجة بنت خويلد بن أسد التي كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وبسيدة نساء قريش،  كما كانت تدعى بذلك في الإسلام،  وكانت أولا تحت أبي هالة بن زرارة التميمي فولدت له ذكرين أحدهما هندا الصحابي الجليل راوي حديث صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم،  والثاني هالة له صحبة ثم بعد موته تزوجها عتيق بن عابد المخزومي فولدت له بنتا اسمها هند لها صحبة،  وقيل أن تزوج عتيق بها قبل أبي هالة.  حكي القولين في الإصابة.

ولما تزوجها صلى اللّه عليه وسلم كان لها من العمر أربعون سنة،  وكانت امرأة حازمة ضابطة شريفة في قومها أوسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك،  قد طلبوها وبذلوا لها الأموال فأراد اللّه بها خيرا وكرامة فعرضت نفسها على سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم لما حدثها به غلامها ميسرة مع ما رأته من الآيات.  ولما ذكره ابن إسحاق أنه كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه فاجتمعن يوما فيه فجاءهن يهودي فقال: يا معشر نساء قريش،  إنه يوشك فيكن نبي،  فأيتكن استطاعت أن‏ تكون فراشا له فلتفعل.  فحصبنه وقبحنه وأغلظن له وأغضت – أي سكتت خديجة على قوله – ووقر ذلك في نفسها،  فلما أخبرها ميسـرة بما رآه من الآيات وما رأته هي قالت: إن كان ما قال اليهودي حقا ما ذاك إلّا هذا.

ولما عرضت نفسها عليه ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه أبو طالب،  وقيل حمزة،  حتى دخل على أبيها خويلد،  وقيل على عمها،  فخطبها إليه فتزوجها (عليه السلام) وأصدقها عشرين بكرة من ماله واثنتي عشـرة أوقية ذهبا ونشا [20] من مال عمه أعطاها له،  وحضر أبو طالب ورؤساء مضر،  فخطب أبو طالب فقال: الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ[21]‏ معد وعنصـر مضـر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس.  ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد اللّه لا يوزن برجل إلّا رجح به،  فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد ممن عرفتهم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم.  ثم قام ورقة بن نوفل فقال: الحمد للّه الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معشـر قريش بأني زوّجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد اللّه على كذا.  ثم سكت،  فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها فقال عمها: اشهدوا عليّ يا معشـر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد اللّه خديجة بنت خويلد.  وشهد على ذلك صناديد قريش ثم لما تزوجها صلى اللّه عليه وسلم ذهب ليخرج فقالت له: إلى أين يا محمد اذهب وانحر جزورا أو جزورين وأطعم الناس.  ففعل وهي أول وليمة أولمها صلى اللّه عليه وسلم.

وفي المنتقى: فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضـربن الدفوف وقالت: مر عمك ينحر بكرا من بكراتك وأطعم الناس وهلم فقل مع أهلك فأطعم الناس.  ودخل صلى اللّه عليه وسلم فقال معها فأقرّ اللّه عينه وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال: الحمد للّه الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الهموم.  ثم إن خديجة رضي اللّه عنها ولدت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ستة،  اثنان ذكران وأربعة إناث،  الأول سيدنا القاسم وبه كان يكنى النبي صلى اللّه عليه وسلم ومات في زمن الرضاع،  ثم مولاتنا زينب وهي الثانية ولدت في سنة ثلاثين من مولده صلى اللّه عليه وسلم وأدركت الإسلام وكانت زوجة لأبي العاصي وهاجرت بعد بدر وماتت وهي بنت ثلاثين سنة أول سنة ثمان من الهجرة ثم مولاتنا رقية وهي الثالثة ولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده صلى اللّه عليه وسلم وكانت زوجة لسيدنا عثمان ثم توفيت والنبي صلى اللّه عليه وسلم ببدر وهي بنت عشـرين سنة فتزوج أختها أم كلثوم ولذا كان يلقب بذي النورين،  ثم مولاتنا فاطمة الزهراء وهي الرابعة ولدت قبل نبوّته بخمس سنين وكانت أحب إليه من جميع أولاده.

أخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن أسامة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: « أحب أهلي إليّ فاطمة »،  وكان يعطيها لسانه لتمص منه الأسرار وكان إذا أراد الخروج من البلد كان آخر عهده بها،  وإذا جاء من السفر دخل عليها قبل كل أحد وكانت مشيتها كمشيته صلى اللّه عليه وسلم.  فقد روى عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقول: إذا أقبلت عليها فاطمة رضي اللّه عنها كان مشيتها مشية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.  وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كنا نخيط ونغزل وننظم الإبرة بالليل في ضوء وجه فاطمة.  وتزوج بها سيدنا علي وهي بنت خمس عشرة سنة ونصف عام إلا شهر،  وعلي ابن احدى وعشـرين سنة وخمسة أشهر في السنة الثانية بعد بنائه (عليه السلام) بعائشة.  وتأخر دخول علي بفاطمة عن تزويجه بها سبعة أشهر ونصفا.

وسئل الإمام مالك: هل الأفضل فاطمة أو أبو بكر ؟ فقال: لا أعدل ببضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحدا.  وسئل أبو داود: هل الأفضل خديجة أو فاطمة ؟ فقال: فاطمة لقوله عليه الصلاة والسلام: « فاطمة بضعة مني » ولقوله لها: « أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ».

وذكر أبو المواهب التونسـي: أن أول من تلقى القطبانية من المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فاطمة ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن.  وتوفيت رضي اللّه عنها بعد موت النبي صلى اللّه عليه وسلم بستة أشهر وعمرها ثمان وعشرون سنة ونصف سنة.  ثم ولد له صلى اللّه عليه وسلم مولاتنا أم كلثوم وهي الخامسة بعد النبوّة،  وماتت سنة تسع من الهجرة.  ثم سيدنا عبد اللّه وهو السادس ومات صغيرا في زمن الرضاع.  ولم يلد صلى اللّه عليه وسلم مع زوجة من زوجاته إلّا مع خديجة.  وأما سيدنا إبراهيم الذي هو سابع أولاده فمن مارية أمته،  وكانت له أمة أخرى تسمى ريحانة وطئها ولم تلد وهو آخر أولاد النبي صلى اللّه عليه وسلم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة ومات قبل النبي صلى اللّه عليه وسلم بثلاثة أشهر.  وورد أنه كان يشبه النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورته.

واعلم أن خديجة رضي اللّه عنها هي أول من آمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم على الإطلاق بإجماع،  ولم يتزوج صلى اللّه عليه وسلم عليها حتى توفيت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح لعشر خلون من رمضان ودفنت بالحجون وهي بنت خمس وستين سنة وهو ابن خمسين سنة ومدة مقامها معه صلى اللّه عليه وسلم خمس وعشرون سنة ثم بعد موتها بشهر عقد النكاح على مولاتنا سودة وكانت قبله متزوجة بابن عمها،  ثم قبل الدخول بها عقد النكاح على مولاتنا عائشة بنت سيدنا أبي بكر الصديق وذلك بمكة في شوال سنة عشـر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين ولها ست سنين،  ثم بنى بسودة وبعد ذلك بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين بالمدينة في شوال سنة اثنين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا،  ولما كبرت سودة أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم فراقها فسألته أن لا يفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها وزاد يومها لعائشة وتوفيت سودة بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية وقيل في خلافة عمر وشهر وأقام صلى اللّه عليه وسلم مع عائشة تسع سنين.  ولما مات صلى اللّه عليه وسلم كانت بنت ثمان عشـرة سنة وكانت رضي اللّه عنها فقيهة عالمة فصيحة كثيرة حفظ الحديث عارفة بوقائع العرب وأشعارها،  زاهدة في الدنيا موصوفة بالكرم،  واستقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان وهلم جرا،  إلى أن ماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين على الصحيح،  وقيل ثمان وخمسين لسبع عشـرة خلت من رمضان وهي بنت ست وستين سنة وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا،  وصلى عليها أبو هريرة رضي اللّه عنه.  روي أنها مدحت النبي صلى اللّه عليه وسلم بقولها:

فلو سمعوا في مصـر أوصاف خده   لما بذلوا في سوم يوسف من نفد
صواحب زليخا لو رأين جبينه   لأثرن بالقطع القلوب على الأيدي

ثم بعد تزوجه صلى اللّه عليه وسلم بعائشة تزوج بحفصة بنت سيدنا عمر بعد أن مات زوجها،  وكانت قبل متزوجة بخنيس السهمي الصحابي الجليل،  ومات من جراحات أصابته ببدر عقد النبي صلى اللّه عليه وسلم النكاح عليها سنة ثلاث من الهجرة.  وورد أنه صلى اللّه عليه وسلم طلقها فجاءه جبريل (عليه السلام) وقال له: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة.  ماتت رضي اللّه عنها بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين وهي بنت ثلاث وستين سنة.  ثم عقد صلى اللّه عليه وسلم النكاح على زينب أم المساكين،  لقبت بذلك لكثرة إطعامها لهم،  سنة ثلاث من الهجرة وكانت قبله متزوجة بعبد اللّه بن جحش فقتل يوم أحد ولم تلبث عنده صلى اللّه عليه وسلم إلا شهرين أو ثلاثة ثم توفيت وهي بنت ثلاثين سنة ودفنت بالبقيع،  ثم عقد النكاح على أم سلمة في شوال من السنة الرابعة واسمها هند،  وكانت قبله تحت أبي سلمة ومات بجرح أصابه في غزوة أحد.  ولما أرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم عمر يخطبها له قالت له: ما مثلي ينكح،  أنا لا يولد لي لكبري وأنا غيور وذات عيال وليس لي هنا من أوليائي من يزوّجني.  فغضب عمر وأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بما قالت فأتاها صلى اللّه عليه وسلم وقال لها: أنا أكبر منك وأما ما ذكرت من غيرتك فأنا أرجو من اللّه أن يذهبها عنك وأما ما ذكرت من عيالك فإن اللّه سيكفيهم وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني.  فعند ذلك قالت لابنها سلمة: زوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمك،  فزوجها له وماتت رضي اللّه عنها سنة تسع وخمسين وعمرها أربع وثمانون سنة.  ثم في سنة خمس من الهجرة عقد على زينب بنت جحش وكانت جميلة،  وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحبها كما اعترفت بذلك عائشة حيث قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم – أي تضاهيني وتفاخرني بجمالها ومكانتها عنده (عليه السلام).  وقد وصفتها عائشة بالخير والتقوى والصدق وصلة الرحم وكثرة الصدقة.  ماتت سنة عشرين ولها ثلاث وخمسون سنة ثم تزوج صلى اللّه عليه وسلم جويرية في سنة خمس من الهجرة أيضا لما سبيت وهي بنت عشرين سنة.

روى الطبراني عن ابن شهاب،  أنه قال: سبى النبي صلى اللّه عليه وسلم جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها مع زوجاته.  روي أنه لما سباها وتزوج بها جاء أبوها فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فخلّ سبيلها.  فقال: أ رأيت إن خيّرتها أ ليس قد أحسنت،  قال: بلى،  فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيّرك فلا تفضحينا،  قالت: فإني أختار اللّه ورسوله.  توفيت وعمرها خمس وستون سنة ودفنت بالمدينة.  ثم في سنة سبع من الهجرة تزوج صلى اللّه عليه وسلم بثلاثة،  أم حبيبة وهي رملة،  وصفية وميمونة،  وجميع نسائه صلى اللّه عليه وسلم من العرب إلا صفية فمن بني إسرائيل،  وستة منهن من قريش وهن خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وسودة،  وأربعة من حلفاء قريش لكن من العرب وهن زينب بنت جحش وزينب أم المساكين وميمونة وجويرية.  ولم يأخذ بكرا إلّا عائشة،  ولم يمت في حياته إلّا خديجة وأم المساكين.

ولما بلغ صلى اللّه عليه وسلم أربعين سنة كثّر اللّه الشهب الطاردة للشياطين عن استماع الوحي من السماء وصار لا يمر على شجر ولا حجر إلا قال له بلسان فصيح: السلام عليك يا رسول اللّه،  لكونه صار نبيا رسولا،  فأتاه الوحي مناما وبعد ذلك بنحو ستة أشهر صار الوحي يأتيه يقظة.

أخرج البخاري عن عائشة قالت: أول ما بدى‏ء به من الوحي الرؤية الصادقة في النوم،  فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح وكان يأتي حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد- الليالي ذوات العدد ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ،  قال،  فقلت: ما أنا بقارئ،  فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ،  فقلت: ما أنا بقارئ.  فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد،  ثم أرسلني فقال: اقرأ،  فقلت: ما أنا بقارئ،  فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ( [العلق: الآية 1]،  حتى بلغ:‏ )ما لَمْ يَعْلَمْ‏( [العلق: الآية 5]،  فرجع بها يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني،  فزملوه حتى ذهب عنه الروع،  فقال: يا خديجة ما لي،  وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت على نفسـي،  فقالت له: كلا واللّه لا يخزيك اللّه أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث،  وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم أتت به ورقة بن نوفل فقص عليه ما رآه فقال له: إن جبريل الذي جاءك هو الناموس الذي أنزل على موسى وعيسـى ليتني كنت حيا إذ يخرجك قومك من مكة قال: أو مخرجي هم،  قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وحينئذ أسلمت خديجة وعلي وأبو بكر.

ثم لما كملت له صلى اللّه عليه وسلم ثلاث وأربعون سنة نزل عليه قوله تعالى: )قُمْ فَأَنْذِرْ( [المدّثّر: الآية 2] فصار صلى اللّه عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم يقول: اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا.  ولما كان في شهر ربيع الأول بعد المبعث بخمس سنين أسري بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصـى ثم عرج به من المسجد الأقصـى إلى فوق سبع سماوات ورأى ربه بعيني رأسه وسمع الكلام القديم من غير واسطة وأوحى إليه ما أوحى وفرض عليه الصلاة ثم انصرف في ليلته إلى مكة فأخبر بذلك فصدقه الصديق وكل من آمن باللَّه وكذّبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس فمثله اللّه له فجعل ينظر إليه ويصفه.  ولما أتت عليه تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشـر يوما مات عمه أبو طالب قبل موت خديجة بثلاثة أيام فكان صلى اللّه عليه وسلم يسمي ذلك العام بعام الحزن ولما أتت عليه ثلاث وخمسون سنة هاجر إلى المدينة المنورة التي صار ابتداء التاريخ من يوم الهجرة إليها ولما دخل إليها في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وكان يوم الاثنين فرح أهلها فأدخلوه وصاروا يقولون:

طلع البدر علينا   من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا   ما دعا للّه داع
أيها المبعوث فينا   جئت بالأمر المطاع

وصار نساء بني النجار يضربن الدفوف ويقلن:

نحن الجواري من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فمرحبا بالنبي المختار ومرحبا بسيد الأبرار

ثم في صفر من السنة الثانية من الهجرة أمره اللّه بقتال من قاتله من الكفار فقط،  وبذلك نزل قوله تعالى: )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( [الحجّ: الآية 39] ثم بعد ذلك أذن اللّه تعالى له أن يقاتل في غير الأشهر الحرم من قاتله ومن لم يقاتله في قوله تعالى: )فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏( [التّوبة: الآية 5] ثم أذن له تعالى في القتال ولو في الأشهر الحرم في قوله تعالى‏: )وقاتِلُوا الْمُشْـرِكِينَ كَافَّةً( [التّوبة: الآية 36] وإليه أشار صلى اللّه عليه وسلم بقوله: « بعثت بين يدي الساعة بالسيف أقاتل الناس حتى يعبدوا اللّه وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظلال السيوف وجعل الذلّ والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم »،  فجاهد وأمر بالجهاد إلى أن توفي صلى اللّه عليه وسلم.  فجملة غزواته التي حضـر فيها سبع وعشـرون إلا أن القتال بالفعل إنما وقع في تسع منها وسراياه التي لم يحضـر فيها،  ويقال لها بعوث ثلاثة وسبعون.

ولما توفي صلى اللّه عليه وسلم ترك ثوبي حبرة وإزارا يمانيا وثوبين صحراويين وقميصا صحراويا وآخر سحوليا،  وجبة يمانية وخميصة وكساء أبيض وقلانس صغارا ثلاثة لائطة وأربعة غير لائطة وملحفة مورسة ودرعا وعصا وسيفا وقدحا وخاتما ونعلا وآنية وشعرا ورداء وصحيفة.

وفي البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ما ترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة – أي مملوكين-.  وأما العبيد والإماء الذين أعتقهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فبقي بعد موته الكثير منهم والحق كما عليه المحققون وهو المشهور أن النبي وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء بأجسادهم في قبورهم حياة حقيقية نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها بل لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقبل أبو بكر رضي اللّه عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه خبر موت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان عمر بن الخطاب يقول للناس: من قال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مات ضربته بسيفي فإنه ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فقد فارق قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد الميقات فلم يلتفت أبو بكر إلى شي‏ء من ذلك حتى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت أمنا عائشة رضي اللّه عنها ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ناحية البيت مسجى عليه برد حبرة فأقبل عليه حتى كشف عن وجهه فقال: وا نبياه وا صفيّاه وا خليلاه،  ثم أكبّ عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا واللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين، أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد رزقتها ثم لن يصيبك كرب بعدها أبدا. وفي البخاري عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه: أن سيدتنا فاطمة الزهراء لما توفي أبوها صلى اللّه عليه وسلم قالت: يا أبتاه أجاب ربّا دعاه،  يا أبتاه من جنّة الفردوس مأواه،  يا أبتاه من إلى جبريل ننعاه.

خاتمة:

ختم اللّه لنا بالحسنى وأسكننا بمحض فضله المقر الأسنى في بيان أول من أحدث قراءة المولد وبيان حكمه وما يحصل لقارئه على الوجه المرضي من الفوائد،  فأقول وباللَّه التوفيق،  وبيده أزمة التحقيق: اعلم أن من البدع المحمودة عمل المولد الشريف في الشهر الذي ولد فيه صلى اللّه عليه وسلم.

قال الزرقاني في شرح المواهب: وأول ما أحدثه الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل،  قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشـريف في ربيع الأول ويحتفل فيه احتفالا هائلا وكان يحضـر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم البخور،  وكان يصـرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا،  وطالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر الإفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة.  اهـ.

قال الشيخ إبراهيم الحلبي الحنفي في كتابه روح السير: قد صنف الحافظ أبو الخطاب ابن دحية سنة أربع وستمائة للملك المظفر كتابا في المولد الشريف سمّاه « التنوير بمولد النبي البشير » فأجازه بألف دينار اهـ.

وقال ابن حجر الهيثمي في مولده الكبير نقلا عن الشمس ابن الجزري: أن أكثر الناس عناية بذلك أهل مصـر والشام،  وأنه شاهد من سلطان مصر الظاهر برقوق سنة خمس وثمانين وسبعمائة وأمرائه بقلعة مصر في ليلة المولد المذكور من كثرة الطعام وقراءة القرآن والإحسان للفقراء والقراء والمداح ما بهره وأنه صرف على ذلك نحو عشـرة آلاف مثقال من الذهب.  اهـ.

زاد غيره: وكان لملوك الأندلس والهند ما يقارب ذلك أو يزيد عليه.  وقد أكثر الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي الثناء على الملك المظفر بما كان يفعله من الخيرات ليلة المولد الشريف وثناء هذا الإمام الجليل على هذا الفعل الجميل في هذه الليلة أدل دليل على أن عمل المولد بدعة حسنة لا سيما وقد ذكر أبو شامة هذا الثناء الفائق في كتابه الذي سماه « البواعث على إنكار البدع والحوادث » وهذا إذا خلا عن المفاسد وما ينكر شرعا إذ تعظيم ما عظم اللّه إنما هو بامتثال أمر اللّه واجتناب نواهيه.  وعبارة أبي شامة: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم من الصدقات وفعل الخيرات وإظهار الفرح والسرور،  فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبته عليه الصلاة والسلام وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر اللّه على ما منّ به من إيجاده صلى اللّه عليه وسلم وفيه إغاظة للكفرة والمنافقين اهـ.  فعمل المولد بدعة وهي مذمومة وعليه التاج الفاكهاني حتى أنه ألّف في ذلك تأليفا لكنه ليس بصواب وقد عارضه الإمام الحافظ الزين العراقي،  وكذا تكفل السيوطي برد ما استند إليه حرفا حرفا أو مستحسنة وعليه الجمهور وهو الأظهر.

قال السيوطي: وهو مقتضـى كلام ابن الحاج في مدخله فإنه إنما ذم ما احتوى عليه من المحرمات مع تصريحه قبل بأنه ينبغي تخصيص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الصدقات وغير ذلك من وجوه القربات،  وهذا هو عمل المولد المستحسن.

وقال البرهان إبراهيم الحلبي الحنفي في «روح السير» بعد ما نقل استحسان فعل المولد عن جملة من الأعيان ما ملخصه: أما إذا حصل بسبب ذلك شي‏ء من المنكرات كاجتماع النساء في عملهن المولد مع رفع أصواتهن بالغناء فهو حرام في جميع الأديان فإن نفس رفع صوت النساء عورة فضلا عن ضم الغناء إليه.  ه.

قال الزرقاني في «شرح المواهب» وقد اختاره – أي استحسان عمل المولد- أبو الطيب السبتي نزيل قوص وهو من أجلّة المالكية.  اهـ.

وقد سئل الإمام المحقق أبو زرعة العراقي عن عمل المولد: هل هو مستحب أو مكروه وهل ورد فيه شي‏ء عمن يقتدي به،  فأجاب رحمه اللّه بأن اتخاذ الوليمة وإطعام الطعام مستحب في كل وقت فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور النبوّة في هذا الشهر الشـريف ولا نعلم غير ذلك عن السلف ولا يلزم من كونه بدعة كونه مكروها فكم من بدعة مستحبة بل واجبة اهـ.

قال في المواهب اللدنية: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام،  ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم،  ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام،  فرحم اللّه امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادا ليكون أشد علة على من في قلبه مرض وأعيادا.

ولقد أطنب ابن الحاج في «المدخل» في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشـريف،  فاللَّه تعالى يثيبه على قصده الجميل ويسلك بنا سبيل السنّة فإنه حسبنا ونعم الوكيل.  اهـ.

ومحصل كلام «المدخل» الذي أشار إليه أن من جملة ما أحدثه الناس من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد وقد احتوى فعلهم على بدع ومحرمات كاستعمالهم آلات اللهو والطرب ولا شك أن ذلك في غير هذا الوقت فيه ما فيه فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضّله اللّه تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم على ربّه عزّ وجل،  فأي نسبة بين آلات اللهو وبين تعظيم هذا الشهر الذي منّ اللّه تعالى علينا فيه بسيد الأولين والآخرين فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير شكرا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة،  وحينئذ ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به وذلك بالاتباع له صلى اللّه عليه وسلم حيث كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات.

وفي حديث البخاري: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان،  فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة المحترمة بما امتثله عليه الصلاة والسلام على قدر استطاعتنا من الأعمال الصالحة المعظمة،  وليحذر من عوائد أهل الوقت وممن يفعل العوائد الردية الموقعة في المقت،  فتعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات وأنواع الطاعات والصدقات والقربات فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له تعظيما لهذا الشهر الشريف وإن كان مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرام،  فيترك‏ الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي من كل محذور قولا كان أو فعلا،  كالغيبة والنميمة وقول الزور وقصد المباهاة والمفاخرة وحب الظهور واتخاذ الأواني والفروش المحرمة الاستعمال واختلاط النساء بالرجال أو نظرهن إليهم من السطوح والطاقات واللهو والطرب بالمزمار والآلات وكتخصيص أهل الثروة والظهور بذلك ومنع الفقراء والمساكين وأهل الفضل مما هنالك،  فإذا كان استعمال المولد يؤدي إلى الوقوع في شي‏ء من المحرمات كما ذكر، فالواجب هو الترك واتباع السنّة المطهرة والحذر الحذر من مخالفتها فإنها لا تأتي إلّا بالخسارة.

قال في شرح المواهب: والحاصل أن عمله بدعة لكنه اشتمل على محاسن وضدها،  فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة،  ومن لا فلا.  اهـ.

قال السخاوي في فتاويه: عمل المولد لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاث الماضية،  وإنما حدث بعد،  ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتلفون في شهر مولده صلى اللّه عليه وسلم بعمل الولائم البديعة المشتملة على الأمور المبهجة الرفيعة ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السـرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.  اهـ.

وذكر الشيخ سيدي محمد بن عباد في بعض رسائله ما ملخصه: أن أهل الصدر الأول والسلف الصالح لما كان الإيمان الكامل راسخا في قلوبهم لم يحتاجوا إلى لباس الثياب الفاخرة في تعظيم المولد بخلاف أهل وقتنا فإنهم يستعينون بذلك اللباس على التعظيم كما يستعينون عليه بسماع البردة والهمزية.  اهـ.

قال الحافظ ابن حجر، وقد ظهر لي تخريجه على أصل ثابت وهو ما في الصحيحين: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق اللّه فيه فرعون ونجّى موسى ونحن نصومه شكرا،  قال: فيستفاد منه فعل الشكر على ما منّ به في يوم معين وأي نعمة أعظم من بروز نبي الرحمة.  والشكر يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة،  انتهى.  وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي.  ويرحم اللّه مالكا ابن المرحل إذ قال:

فحق لنا أن نعتني بولادة ونجعل ذاك اليوم خير المواسم
وأن نصل الأرحام فيه تقرّبا ونغدو له من مفطرين وصائم
ونترك فيه الشغل إلّا بطاعة وليس لنا فيه ملام للائم
ونتبع فيه الصالحين فإنهم هدونا بأنوار الوجوه الوسائم

انتهى.  لكن قوله: وصائم،  يأتي ما فيه.  وقال البرهان الحلبي في «روح السير» نقلا عن الإمام الحافظ ابن حجر: إن قاصدي الخير وإظهار الفرح والسرور بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم والمحبة له يكفيهم أن يجمعوا أهل الخير والصلاح والفقراء والمساكين فيطعموهم ويتصدّقوا عليهم محبة له صلى اللّه عليه وسلم فإن أرادوا فوق ذلك أمروا من ينشد من المدائح النبويّة والأشعار المتعلقة بالحث على الأخلاق الكريمة مما يحرك القلوب إلى فعل الخيرات والكف عن البدع المنكرات،  أي لأن من أقوى الأسباب الباعثة على محبته صلى اللّه عليه وسلم سماع الأصوات الحسنة المطربة بإنشاد المدائح النبويّة إذا صادفت محلا قابلا فإنها تحدث للسامع شكرا ومحبة.  اهـ.

قال شارح مولد ابن حجر الهيثمي: فالاجتماع لسماع قصة مولد صاحب المعجزات عليه أفضل الصلاة وأكمل التحيات من أعظم القربات لما يشتمل عليه من المبرات والصلات وكثرة الصلاة عليه والتحيّات بسبب حبه الموصل إلى قربه.  وقد صرح الأعلام بأن عمل المولد أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة لنيل البغية والمرام،  كما صرح به ابن الجزري ونقله عنه الحلبي وكذا المؤلف – يعني ابن حجر الهيثمي- والقسطلاني في المواهب.

وحكى بعضهم: أنه وقع في خطب عظيم فرزقه اللّه النجاة من أهواله بمجرد أن خطر عمل المولد النبوي بباله.  فينبغي لكل صادق في حبه أن يستبشر بشهر مولده عليه الصلاة والسلام ويعقد فيه محفلا قراءة ما صح في مولده من الآثار فعسى أن يدخل بشفاعته مع السابقين الأخيار فإن من سرت محبته صلى اللّه عليه وسلم في جسده لا يبلى،  ولم تحصل مرتبة الشفاعة لأهلها إلّا بواسطة حبهم لجنابه الأعلى،  وإذا كان الشفعاء الأبرار أورثهم حبه صلى اللّه عليه وسلم قبول شفاعتهم في الأغيار،  فلا أقل أن يورث عمل المولد الشفاعة في صاحبه وإن نزلت مرتبة محبته عن محبتهم في المقدار،  ومصداقه قول الحبيب المختار: « المرء مع من أحب» [22].  فرحم اللّه امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادا فإنه إذا لم يكن من ذلك فائدة إلّا كثرة الصلاة والتسليم عليه صلى اللّه عليه وسلم لكفى وفضلهما لا يخفى،  واللّه سبحانه أعلم بالمرام،  وإنما الأعمال بالنيات والسلام.  اهـ.

قال الحافظ أبو الخير شمس الدين ابن الجزري: فإذا كان أبو لهب الذي أنزل القرآن بذمّه جوزي في النار بسقيه في نقرة إبهامه وبتخفيف العذاب عنه في كل ليلة اثنين لإعتاقه ثويبة فرحا لما بشـرته بولادته صلى اللّه عليه وسلم فما حال المسلم الموحّد من أمته صلى اللّه عليه وسلم الذي يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قوّته،  لعمري إنما يكون جزاؤه من اللّه تعالى الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم.  اهـ.

قال ابن حجر الهيثمي في مولده الكبير المسمى بالنعمة الكبرى: إن النعمة تمت بإرسال نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم المحصّل لسعادة الدارين،  فصيام يوم تجددت فيه النعم من اللّه تعالى حسن جميل وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تحددها للناس بالشكر ونظير هذا صيام يوم عاشوراء حيث نجّى اللّه تعالى فيه نوحا عليه الصلاة والسلام من الغرق،  وموسى عليه الصلاة والسلام وقومه من فرعون وجنوده وأغرقهم في أليم فصامه نوح وموسى ( عليهما السلام) شكرا للَّه تعالى وصامه نبينا عليه الصلاة والسلام متابعة لأنبياء اللّه تعالى.  وقال اليهود: نحن أحق بموسى منكم وأمر بصيامه. اهـ.

ثم إن ما ذكره الهيثمي من استحسان صيام يوم المولد معلّلا له بأنه من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر، وأصله للحافظ ابن حجر العسقلاني وهما شافعيان وسبقهما إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي كما تقدم، هو خلاف مذهب المالكية، فقد نقل الخطاب لدى قول خليل وعاشوراء عن الشيخ زروق كراهة صيامه وسلمه ونصه الخامس، أي من التنبيهات. قال الشيخ زروق في شرح القرطبية: صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح علمه وورعه قائلا: إنه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام.  وكان شيخنا أبو عبد اللّه القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه.  اهـ.  ونقله الشيخ بناني في حواشي الزرقاني وسلمه كما سلمه الشيخ الرهوني بسكوته عنه ثم قال الخطاب،  قلت: لعله – يعني ابن عباد – فقد قال في رسائله الكبرى: وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكل ما يفعل فيه مما يقتضـي وجود الفرح والسـرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزيّن بلباس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح.  والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع بسببه ظلام الكفر والجحود وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة،  ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم المولد إلى ساحل البحر،  فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر- أي السلوي رحمه اللّه – وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما محتفلا ليأكلوه هنالك،  فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل وكنت إذ ذاك صائما،  فقلت لهم: إني صائم،  فنظر إليّ سيدي الحاج نظرة منكرة وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور ويستقبح فيه الصيام بمنزلة يوم العيد.  فتأملت كلامه فوجدته حقا وكأني كنت نائما فأيقظني،  لكن المناكر التي ألفت في العادة من اجتماع الرجال والنساء وتزاحمهم وتضاممهم والإصغاء بالسمع وإرسال البصـر في المستحسنات المحظورة المسموعة والمنظورة عند تشاغل الولدان بالأذكار والأشعار قبل اشتهار ضوء النهار،  هي التي تكدر صفاء هذه الحالة المرضية وتوجب للمتدين أن لا يتشاغل بما يوقع في هذه البلية، وأن يسد هذا الباب عن نفسه بالكلية،  فإذا تركتم العمل بذلك لأجل ما يؤول إليه من الفساد لا لأجل كونه بدعة يؤمر بتركه في كل حال من الأحوال،  كانت نيّتكم فيه صحيحة ولا يضركم توسّم الناس فيكم الصلاح بسبب ذلك ولا حاجة بكم إلى ذم الناس بتقدير رجوعكم إلى الحالة الأولى.  انظر تمام كلامه رضي اللّه عنه وقد نقله العلامة ابن زكري في شرح همزيته عند قوله:

يوم مولده على سائر الاعيا د فضله في الوضوء ضحاء
ولليلته على ليلة القد ر علو بقربه وزكاء

ولا يخفى عليك أن الأظهر كراهة صيام يوم المولد لوضوح علّته المشار لها في كلام العارف ابن عباد ونقلها الشيخ زروق كما رأيته،  وأما ما ذكره الإمامان الحافظ ابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي من تعليل استحسان صيامه بأنه من مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر قياسا على يوم عاشوراء فغير ظاهر لأن شرط القياس المساوات كما تقرر في الأصول،  فإن يوم عاشوراء ورد عن الشـرع الترغيب في صيامه بالخصوص وليس يوم عيد وإنما هو موسم من المواسم الفاضلة المرغّب في صيامها،  وأما يوم المولد فهو،  وإن كان الأصل إباحة صيامه بل أفضليته لكونه من الأيام الفاضلة،  لكن لما انعقد الإجماع من بعد القرون الثلاثة على اتخاذه عيدا من أعياد المسلمين وإجماعهم حجّة ولا تجتمع الأمة على ضلالة،  فالأولى قياسه على سائر الأعياد في الجملة فهو من باب تعارض المانع والمقتضي ومعلوم أنه إذا تعارض المانع والمقتضـى فالمقدم المانع،  وإنما لم يحرم صيامه كغيره من الأعياد لأنه لم يكن عيدا في زمن النبوّة ولا في القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالخيرية،  فلذاكره فقط نظرا للإجماع المذكور واتخاذه عيدا وإن كان بدعة أي لغوية،  لكن البدعة اللغوية تعرض لها الأحكام الخمسة كما هو مقرر.  وأما تعليلهما استحسان الصيام بأنه من مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر فنقول: إن ذلك ليس على إطلاقه بل محله ما لم يمنع منه مانع كما علمته هنا،  واللّه تعالى أعلم.

اللَّهم يا باسطَ اليدينِ بالرحمةِ والعطيةِ،  يا منْ إذَا رُفعتْ إليه أكُفُّ عبدْهِ أعطاهُ مطلبَهُ وأُمنيتَهُ،  يا منْ تنزَّه في ذاتِه وصفاتِه عنِ المثْلِيَّة،  وتفرَّدَ بالقدمِ والبقاءِ والعزَّةِ والعظمَةِ والألوهِيَّة،  يا منْ وسعتْ رحمتُه منْ أطاعَهُ وعصاهُ وسائرَ البريَّةِ،  يا من لا يُرْجَى غيرُه وليسَ إلَّا على فضلهِ المعوَّلُ،  أنتَ الظاهرُ والباطنُ والآخرُ والأولُ،  أسألكَ اللَّهم‏ بأنواركَ الأحديَةِ القدسيَّةِ،  وقَيَّومِيَّتِكَ الأزليةِ الأبديةِ،  ونتوسلُ إليكَ يا مولانا بشرَفِ الذاتِ الأحمدِيَّةِ المحمدِيَّةِ،  ومن هو أولُ الأنبياءِ بمعناهُ وآخرُهمْ بصورتِه الذاتِيَّة،  صلّى اللّه عليه وعلى آله الكواكبِ الدريَّةِ،  من جعلتَهُم أماناً لهذه الأمةِ المحمديةِ،  وأصحابِه أولِي الهدايَةِ والأفضَلِيَّةِ،  الذينَ نَالُوا بالانتماءِ إليهِ الدرجاتِ العليَة،  أنْ تُوَفَّقنا والحاضرينَ يَا مولانَا فِي الأقوالِ والأعمالِ لإخلاصِ النيِّةَ،  وأن تجعلنَا يَا ذا الكرمِ والجودِ منْ أهلِ الاجتباءِ والخصوصيةِ،  وتَخلِّصنَا منْ أسرِ الشَّهواتِ والأدواءِ القلْبِيَّةِ،  وتُحقِّقَ لنَا فيكَ كلَّ أَملٍ وتَكفيَنَا كلَّ مدْلَهِمَّةٍ وبَلِيةٍ،  وتمحوَ عنَّا كلَّ ذنْبٍ اقتَرَفنَاهُ في السِّرِّ والعلانِيَةِ،  وتَسترَ لكلٍّ مِنَّا عيْبَه وعجْزَه وَعِيَّهُ،  وتَعُمَّ جمعنَا هذَا وسائِرَ الأمَّةِ المحمديةِ بِالرحمةِ والمغْفِرَة منْ خزائِنِ مِنحِكَ السَّنِيَّة،  اللَّهمَّ اكتبْنَا في ديوانِ أصفيائِك المتقينَ،  واجعلْنَا منْ أولِيَائِك العارفينَ المقرَّبِينَ المُحِبِّينَ المَحْبوبِينَ،

اللَّهمَّ إنَّكَ أمَرْتنَا فِي كتابِكَ المكنونِ علَى لِسانِ رَسولِكَ وحبِيبِك الصادقِ الأمينِ المصونِ،  بالدُّعاءِ والإنَابَةِ،  ووعدْتَنَا فضلاً منْكَ بالإجابَةِ،  وقدْ سأْلَنَاكَ مادِّينَ أكُفّ الفَاقَةِ والاضْطِرَارِ إلَى حمَاكَ يا كريمُ يا رحيمُ يا غفَّارُ،  أنْ تُعطينَا علَى قدْرِ كرمِكَ وجودِكَ يا ذَا الجلالِ والإكرامِ،  وتُسْبِلَ علينَا ستْرَكَ العَميمَ عَلَى الاستمرارِ والدَّوَام،  اللَّهمَّ اغْفِرْ لنَا ولوالدِينَا وأشياخِنَا وإخوانِنَا وذرِّياتِنَا ولِكَافَّةِ المسلمينَ،  وأَحسنْ عاقِبتَنا كمَا أَحسنْتَ عواقِبَ المتَّقينَ،  واجعلْ خيرَ أيامِنَا وأسعدَهَا وأبْرَكهَا يومَ لقائِكَ،  واجمَعْ شملنَا وشملَهُمْ بِلَا مِحنَةٍ معَ أكابرَ أوليائِكَ في أعَلَى علِّيينَ،  ومتِّعْ جميعنَا إِثْرَ الموتِ في أعلَى الفرْدَوْسِ بلذِيذِ رؤيتِكَ ومُرافقَةِ منْ أنعمْتَ عليهمْ منَ النَّبِيِّينَ والصدِّيقِينَ والشُّهدَاءِ والصَّالِحِينَ،

اللّهمَّ إنَّا نتَوسَّلُ إليكَ يا مولانَا فِي نيلِ هذهِ المطالبِ كلِّهَا بذاتِكَ العليَّةِ،  ثمَّ بنبيِّكَ ورَسُولِكَ الفاتحِ الخاتمِ سيِّدِنَا محمدٍ ذِي النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ،  الشفيعُ المشفعُ عندَكَ سيِّدُ الأولِينَ والآخرينَ،  وأفضلُ الأنبياءِ والمرسلينَ،  صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَرِينَ،  وصَحابتِه الأكرمينَ،  وكلِّ منْ تبِعَهمْ بإِحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.  ربنَا ظلَمْنَا أنفسنَا وإنْ لمْ تغفرْ لنَا وترحمْنا لنكونَّنَّ منَ الخاسِرينَ،  ربنَا ظلمنَا أَنْفسنا ظُلماً كبيراً ولاَ يغْفِرُ الذنوبَ إلَّا أنْتَ فاغفرْ لنَا وارحمْنا فضلاً منْكَ يا أرحمَ الراحمينَ،  سبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ وسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين.

[1]  ـ الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط17، 2007م، 209/2.

[2]  ـ دليل مؤرخ المغرب الأقصى، عبد السلام ابن سودة، دار الفكر للطباعة والنشر، ط1، 1418ھ-1997م، ص: 192، الترجمة رقم: 1149.

[3]  ـ إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع، عبد السلام بن عبد القادر ابن سودة، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1417ھ-1997م، 558/2.

[4]  ـ سل النصال للنضال مع الأشياخ وأهل الكمال، عبد السلام بن عبد القادر ابن سودة، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1417ھ-1997م، ص: 166، الترجمة رقم: 202.

[5]  ـ علماء الطريقة التجانية، أحمد بن عبد العزيز بنعبد الله، ص: 34.

[6]  ـ سل النصال، ابن سودة، ص: 168.

[7]  ـ المصدر السابق، ص: 167.

[8]  ـ دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ابن سودة، ص: 192.

[9]  ـ نفسه، ص: 168.

[10] – هكذا في المطبوع المستنسخ وما هو متداول عند الساردين والمنشئيين ” شيبة الحمد”والله أعلم

[11] – الصفف : ما يلبس تحت الدرع.

[12]  – لقد إختلف العلماء والمفسرون في اسم أخت سيدنا موسى عليه السلام،  فمنهم من يقول إن اسمها كان «مريم» بنت عمران أخت كليم الله سيدنا «موسى بن عمران»؛ وإن السيدة مريم العذراء سُميت على اسمها لأنهم قديما كانوا يسمون أبناءهم على أسماء الصالحين ممن سبقوهم، ومن العلماء من يؤكد لنا أن اسم أخت سيدنا موسى الحقيقى “كلثم”.

[13] – رواه أحمد في المسند، حديث عقبة بن مالك، حديث رقم (17046) [ج 4/ 110]، و أبو داود في سننه، باب في سكنى الشام،  حديث رقم (2483) [3/ 4] و رواه غيرهما.

[14] – رواه أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث حبيب بن يساف [1/ 364]،  و أبو الفرج في صفوة الصفوة [1/ 54] و رواه غيرهما.

[15] – قبلها : أي الدنيا.

[16] – الظلال : ظلال الجنة.

[17] – مستودع : أي في صلب آدم (عليه السلام).

[18]  – خندف : بكسر الخاء و الدال، امرأة إلياس بن مضر، و اسمها ليلى القضاعية كانت ذات نسب عال لذا ضرب بها المثل.

[19]  – ارتجس : أي اضطرب و تحرك حركة سمع لها صوت.  (لسان العرب)

[20]  – النش: نصف أوقية عشرون درهما.

[21]  – ضئضئ: أي أصل.

[22]  – رواه البخاري في صحيحه، باب علامة حب في اللّه عز و جل، حديث رقم (5816) [5/ 2283]، و مسلم في صحيحه، باب المرء مع من أحب، حديث رقم (2639) [4/ 2032] و رواه غيرهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى