مقالات

الجن وأحواله

بحث متأصل من الكتاب والسنة قدمه سيدي العربي بن السائح عن أحوال الجن

 

الجن وأحواله

تـنبيه:
ما ذكر من أن هذه الطائفة المخصوصة، من أهل هذه الطريقة المباركة، مشتملة على الإنس والجن هنا، يستدعي التنبيهَ على طرف مما هو معتقد أهل السنة في الجان وأحواله وما يدور على ذلك من الأحكام، فنقول:
اختلف في وجود الجن قديما وحديثا. وأكثر الفلاسفة على إنكار وجوده، والجمهور من أرباب الملل والمصدقين للأنبياء عليهم السلام على إثبات وجوده. وهو معتقد أهل السنة رضوان الله عليهم. ثم اختلف المثبتون لوجوده أيضا على قولين.
• فمنهم من زعم أنها ليست أجساما ولا حالَّة في الأجسام، وإنما هي جواهر قائمة بأنفسها. ثم هي عندهم مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل. فبعضها خيِّرة وبعضها شريرة، وبعضها كريمة مُحبة للخيرات، وبعضها دَنِيَّةٌ خسيسة محبة للشرور والآفات. قالوا ولا يعلم عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله تعالى.
• والقول الثاني: في الجن أنهم أجسام. واختلف هؤلاء أيضا على قولين: فقيل إن الأجسام مختلفة في ما هياتها. والقول الثاني أنها متساوية في تمام الماهية.
ثم هؤلاء القائلون بهذا القول الثاني فرقتان: الأولى قائلة بأن البنية ليست شرطا للحياة، وهو قول الإمام الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية.
والثانية قائلة بأن البنية شرط للحياة، وهو مذهب المعتزلة. ولا دليل لهم عليه إلا الاستقراء، وهو إنما يتمشى على مذهبهم من إنكار وجود خرق العادة. واستقراؤهم في ذلك ركيك، ومذهبهم فاسد، حسبما أوضح المحققون من أهل السنة ذلك.
وإذا ثبت كما عليه الأشعرية أن البنية ليست شرطا للحياة لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة، وقدرةً على أشياء شاقة شديدة.
فبان من مجموع هذا صحة القول بإمكان وجود الجان، سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة، وسواء كانت أجرامهم كبيرة أو صغيرة اهـ مخلص ما في هذا المبحث على طريقة المتكلمين.
وقد دل القرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي (لاَ يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) على وجود الجان. ويكفي قوله تعالى: (قُلْ اُوحِيَ إِلَيَّ ) الآية. قال الرازي: “هو أمر منه تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجن، وفيه فوائد:
– إحداها: أن يعرفوا أنه بعث إليهم كما بعث إلى الإنس.
– الثانية: أن يعلم أنهم مع تمردهم لما عرفوا إعجاز القرآن آمنوا.
– الثالثة: أن يعلم أنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
– الرابعة: أن يعلم أنهم مكلفون كالإنس.
– الخامسة: أن يظهر أن الموفق منهم يدعو غيره إلى الإيمان.”
قال الرازي: “وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس” اهـ.
فبان من كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إليهم، وأنهم مكلفون، وأن الموفق منهم يدعو غيره إلى الله، أن لهم الثواب، وعليهم العقاب، وأنهم يصح الاقتداء بمن تأهل له منهم. وقد روى أصبغ عن ابن القاسم رضي الله عنهما أن للجن الثواب والعقاب، ولا -أعني ابن القاسم- (وَإِنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ ) الآية. قال ابن رشد: “استدلال ابن القاسم صحيح بلا إشكال بل هو نص جليّ في ذلك. ففي الجن مسلمون، ويهود، ونصارى، ومجوس، وعبدة الأوثان. وقالوا في قوله تعالى: (كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدَا ) أي مختلفين في الكفر. والاجماع على تعذيب الكفار منهم لقوله تعالى: (َلأمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسَ ) الآية.
واختلف في دخولهم الجنة. قال صاحب [أحكام الجان]: “وهل يدخل المؤمنون منهم الجنة؟ أكثر العلماء على ذلك، والمأثور عن مالك والشافعي رضي الله عنهما: لا يدخلون، وإنما يدخلون أرباضها بحيث يراهم المؤمنون من الجنة ولا يراهم الجن”.
واختلف أيضا على القول بالدخول هل يرون الله أم لا؟ قال عز الدين ابن عبد السلام: “لا يرونه إذ الرؤية مخصوصة بالبشر”.
فهذا بعض ما ينبئُ على تكليفهم. وكون النبي عليه الصلاة والسلام مبعوثا إليهم بذلك وعلى صحة الاقتداء بهم. فلو فرضنا جنيا مسلما هل تصح الصلاة خلفه أم لا. قال صاحب [أحكام الجان]: “تصح لأن الرسالة لنا ولهم” اهـ وهو الذي صرح به الرازي في الوجوه السابقة.
وإذا صح الاقتداء به في الصلاة فكذلك يصح جعله قدوة في الطريق، كما يصح اقتداؤه بالإنسي وأخذه عنه، وهو من المعروف المشهور عند أهل الطريق. نعم لم ينقل لنا عن أحد من أهل الطريق أنه شَيَّخَ جنيا في الطريق إلا ما في بعض طرق المسلسل بالمصافحة، وكذلك تلقي بعض العارفين لبعض الأسرار الخاصة من خاصتهم كتلقي سيدي علي حرازم تلميذ سيدنا رضي الله عنه للحزب السيفي وغيره من الأسرار مشافهة من القاضي أبي محمد شَمْهُورِش الصحابي المعروف رضي الله عنه، وذلك بإذن من سيدنا رضي الله عنه كما هو معروف عند الأصحاب. وكأخذ الشيخ أبي العباس سيدي أحمد ابن الشيخ مَحمد بنْ نَاصَرْ الدرعي رضي الله عنهما فاتحة الكتاب بالقراءة الورشية متصلة ميمُ البسملة بالحمد لله رب العالمين عن عبد المؤمن الجني الصحابي رضي الله عنه لما لقيه ببدر حين حج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبما وقفنا عليه في أسانيد بعض العلماء. وما وقع لسيدي على حرازم أدخل وأوجه في التمثيل به في هذا المقام.
وهذا بالنسبة لنا معهم، وأما هم مع بعضهم بعضا فمقتضى ما تقدم أنه يُشَيِّخُ بعضهم بعضا ولا إشكال، والله تعالى أعلم.
تـتـمة: قد ذكر الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى في الباب الحادي والخمسين من [فتوحاته المكية] ما يرشد إلى أن الهرب من صحبة الجان وترك مجالستهم أولى بالعاقل، وأن الإيثار لمجالستهم جهل، قائلا: “فإن مجالستهم ردية جدا قل أن تنتج خيرا لأن أصلهم نار والنار كثيرة الحركة، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه”، ثم قال بعد كلام في بيان ما ذكره ما نصه: “وما جالس الجانَّ أحد فحصل عنده منهم علم بالله جملة واحدة لأنهم أجهل العالم الطبيعي بالله تعالى. ويتخيل جليسهم بما يخبرونه به من حوادث الأكوان وما يجري في العالم مما يحصل لهم من استراق السمع من الملأ الأعلى، فيظن أن ذلك من كرامة الله بهم. وهيهات ما ظنوا. وغاية الرجل الذي تعتني به أرواح الجن أن يمنحوه من علم خواص النبات، والأحجار، والأسماء، والحروف، وهو علم السيمياء. فلم يكتسب هذا منهم إلا العلم الذي رمته ألسنة الشرائع”. وأطال في ذلك ثم قال رضي الله عنه: “ومن ادعى صحبتهم وهو صادق في دعواه فاسألوه عن مسألة في العلم الإلهي فما تجدون عنده من ذلك ذوقا أصلا، فرجال الله يفرون من صحبة الجان. وقد أُخْبِرْتُ بأن صحبتهم تورث التكبر على الناس، ومن تكبر على الناس مقته الله تعالى من حيث لا يشعر، فنسأل الله العافية” اهـ.

بغية المستفيد 354

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى