عروض وأبحات
قدمت بمناسبة تدشين الزاوية التجانية الكبرى لسيدي محمد الكبير التجاني
بحي بريمة
27 ماي 2006 / 29 ربيع الثاني 1427
السلطان أبي الربيع مولاي سليمان بن محمد
الحمد لله حمدا يوافي نعمه المتزايدة.و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد عين الرحمة الربانية و على آله و صحابته.أهل السبق الفائزين بالغفران و المحبوبية و رضي الله تعالى عن شيخنا قطب دائرة الولاية المحمدية مولانا أحمد التجاني المشمول بالعناية القدسية
نحمده تعالى لإنعامه على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم في آخر الأزمان بظهور الختم المحمدي رحمة للعباد فربح بهديه من كتب الله اسمه في ديوان أهل السعادة فأشرقت عليهم أنوار قدسية و معارف لاذونية لا يعلم سرها إلا من اغترف من بحر الأحمدية صادق في محبته و تعلقه.فتعجب الناس من السرعة التي انتشر بها الفتح انتشارا هجوميا عم الشريف و العالم و الأمي و العبد و الصغير و الكبير.و لا زالت هذه الطريقة و الحمد لله في توسع مطرد شمل كل بقاع الكرة الأرضية.
أخبرني من شاهد بعينيه بل حضر الوظيفة التجانية تذكر في جمع من الإخوان بإحدى مدن القطب الشمالي و الحمد لله و هذه المزية لمن تأملها من أعظم كرامات سيدنا الشيخ التجاني رضي الله تعالى عنه المعنوية الدالة على وراثته الكاملة لجده المصطفي صلى الله عليه و سلم وراثة يقينية فيضية.و منذ أن أذن لمولانا الشيخ رضي الله عنه من صاحب الطريقة صلى الله عليه وسلم بالنهوض بالأعباء التلقينية كان أول من تلقاها بقبول العلماء الأجلاء أمثال سيدي محمد بن المشري و سيدي محمود التونسي و الخليفة الأعظم سيدي الحاج علي حرازم و سيدي الغالي بوطالب و سيدي إبراهيم الرياحي و سيدي محمد الحافظ الشنقيطي و السلطان مولاي سليمان رضي الله عن جماعتهم الفضلية.
فاخترت الحديث اليوم في عجالة عن السلطان أبي الربيع مولاي سليمان بن محمد بمناسبة إعادة بناء هذه الزاوية المباركة أعلى الله منار هديها.لأنها توجد بحي بريمة الذي أنشئه هذا السلطان خلال إمامته الممتدة من1206 الى 1238 وقد تحدث أصحاب التراجم بإجمال عن العلاقة الودية و الروحية بين السلطان و مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه كما حاولوا أن يجمعوا أخبار باقي أصحاب الشيخ في دواوين فلم يتيسر لهم إلا النزر القليل من ذلك.فما أحوجنا اليوم لتظافر الجهود من أجل جمع الثرات التجاني الذي هو خير دليل على ما أدركه هؤلاء السادات.من علو و رفعة.كما أن التعريف بالتلاميذ تعريف بالشيخ لان أصحاب الشيخ هم مرآة الطريقة و معالمها.فما أصدق الإمام الشاذلي رضي الله عن شيخنا و عنه حين قال:(كتبي أصحابي).و مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه بحر علم زاخر لو انكب على التدوين لأظهر ما يبهر العقول لما حباه الله به من معارف يغترفها بغير واسطة من بحر الحقيقة المحمدية.لكن المشيئة الربانية اختارت له أن يكرس حياته للتربية و هداية.الخلق.بل لما ارتقى الى مقام ختم الولاية منعت عنه حتى مطالعة الكتب لأنه أصبح في كفالة صاحب ختم الرسالة صلى الله عليه وسلم وكفى به عمدة.
والسلطان مولاي سليمان اشتهر بين ملوك المغرب بالعلم والعدل وكانت له مجالس طافحة بأعظم علماء المغرب في زمانه بين فقيه و محدث و لغوي و مؤرخ و صوفي.ويكفي أن نذكر منهم على سبيل الإشارة الشيخ التاودي بنسودة و محمد بن عبد السلام الناصري و الطيب بنكيران و سليمان الحوات و سيدي حمدون بلحاج…و غيرهم كثير فهؤلاء هم جلساء السلطان و بطانته.كلهم بحار متدفقة من العلوم.لكنه لما عرف مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه بعد انتقاله من الصحراء الى فاس سنة 1213 اتضح له أن هذا الرجل نسيج وحده قل أن يجود الزمان بمثله فأقبل عليه بكليته.وقد زكى فراسة السلطان حول الشيخ رضي الله عنه ما كان ينقله له ثلاثة من أخص ندمائه و هم سيدي حمدون بلحاج و سيدي محمد بن عمرو الزروالي و السيد العباس بنكيران.الذين انتفعوا بمولانا الشيخ رضي الله عنه فصاروا تثنون عليه في كل محفل و يقسمون أنه لا تحمل البسيطة من هو أعلم من الشيخ التجاني رضي الله عنه.
ولنشر هنا على سبيل الاستأناس أن جدنا سيدي محمد بن أحمد أكنسوس رحمه الله قال في بعض كتبه أن سبب معرفته أول أمره لاسم الشيخ التجاني رضي الله عنه هو أن أحد شيوخه-يعني بذلك سيدي محمد بن عمرو الزرواي-كان ياتي في دروسه بشروح و تقارير مختلفة ثم يتوج كلامه بقوله:وقال العارف بالله الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه .و في هذا دليل على ما كان يحفظه من كلام مولانا الشيخ الذي سمعه في مجالس السلطان.فلأجل ما سمع صار أكنسوس يبحث عن مكان وجود هذا الشيخ الجليل.فكان ما يعرفه الجميع
و كان السلطان يستدعي الشيخ لمجالسه و يستعذب تقريراته التي ترفع اللبس بأفصح عبارة و أبسطها عن عويصات المسائل.ولا عجب إذا أيقظت هذه النفحات نار الغيرة والحسد والإنكار في قلوب بعض المتكبرين.فان مشيئة الله تعالى اقتضت لأمر هو يعلمه أن يبتلى أوليائه بكل امتحان عسير.لكن السلطان ذو السريرة الصافية علم أن مجيء ولي عظيم القدر إلى المغرب أزعجه البغي و الاستبداد إلا أن يقول ربي الله نقمة في طيها نعمة فهذا الشريف الذي يفيض علما و صلاحا و مُتبع للسنة جملة و تفصيلا في قدومه رحمة للعباد.فلا يجب أن يضيعها لسيما و الشيخ التجاني يحدث أصحابه عن رغبته الأكيدة في الانتقال بأهله من المغرب إلى الشام.
فعرض السلطان على الشيخ رضي الله عنه أن يسكن أحد قصوره و هو المعروف (بدار المرايا) بفاس.ذكر المؤرخ الضعيف أن مولاي سليمان أنفق على بناء هذا البيت مالا كثيرا فاستدعى مجلسه العلمي للناظرة فيه و ذلك على اثر الانتهاء من البناء سنة 1212 و في السنة الموالية أهدى البيت بكل سخاء للشيخ التجاني رضي الله عنه ليقيم فيه.فأبى الشيخ ذلك إلا بالمقابل فصار يتصدق كل شهر بمقدار ثمن الكراء.كما أراد السلطان أن يُعِين الشيخ رضي الله عنه على بناء الزاوية فلم يقبل.فازداد اعجاب السلطان بهذا السيد وعلم أنه على أعلى درجة من الورع.
وبعد هذا تاقت نفس السلطان بأن يدخل في سلك المريدين التجانيين.فتريت مولانا الشيخ رضي الله وقتا حتى أخذ الإذن في ذلك من صاحب الطريقة صلى الله عليه وسلم.فاستجاب لرغبة الطالب وبعث له برسالة يبشره فيها بما أعده الله لأهل الطريقة ويدعوا له بالخير و الإعانة على القيام بأعباء الملك.كما أذن له بأمر نبوي في تلاوة بعض الأذكار العالية.ومما زاد مولانا الشيخ رضي الله عنه حبا في الملك ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم من أنه لا يوجد في الدنيا في ذلك الوقت أمير يسوس رعيته بمقتضى الكتاب و السنة أكثر من هذا الإمام الشريف.و قد اعتنى سيدنا بالملك اعتناء كبيرا شأنه شأن باقي أخص أصحابه.و كان الواسطة بينهما في تبليغ الرسائل هو الخليفة سيدي الحاج علي حرازم رضي الله عنه.و من أراد مطالعة رسائل سيدنا للملك فعليه بكتاب كشف الحجاب
وقد تقبل السلطان نصائح الشيخ رضي الله عنه بصدر رحب بل صار ينظر إليه نظرة الولد البار لوالده و يستشيره في أمور الدولة فيشير عليه سيدنا بالنصائح الثمينة الصائبة. بلغ المولى سليمان بفضل الله مقاما عاليا في الولاية و المعرفة بالله إلا أن الله ستر ذلك عن غيره باشتغاله بمهام الحكم و إمارة المسلمين كما يستر الله ولاية العلماء باشتغالهم بالعلم و ولاية الملامتية باشتغالهم بالصنائع و الحرف.لم يكن المولى سليمان حاضرا بفاس لما توفي مولانا الشيخ رضي الله عنه و إنما حضر ولي عهده المولى إبراهيم ولو حضر لكان على رأس المشيعين لجثان الشيخ.
و لما أستقر السلطان في آخر عمره بمراكش تعرف على بعض أصحاب الشيخ بها و توثقت عرى المودة بينه و بينهم بل لعلهم صاروا يذكرون الوظيفة معه.ولما مات رحمه الله سنة1238 صاروا يجتمعون في مسجد أبن يوسف الذي أعاد بنائه هذا السلطان الجليل و يذكرون الوظيفة بقبة تحمل اسمه كما يفعل بعض فقراء تونس في مسجد الزيتونة العتيق.وبقي الأمر كذلك و أصحاب الشيخ في تزايد إلى أن يسر الله بناء الزاوية سنة1262.
وبقي سلاطين و أمراء الأسرة المالكة على عهدهم بالطريقة الأحمدية زادها الله شرفا و رفعة جريا على سنة أبي الربيع لسيما علمائهم كالسلطان مولاي عبد الرحمن و أولاده سيدي محمد بن عبد الرحمن و أخويه العالمين الجليلين مولاي علي و مولاي عبد العزيز.ثم أنتقل شغف الأشراف بالطريقة إلى الحفدة و حفدة الحفدة إلى اليوم و إلى قيام الساعة إنشاء الله.
أيها الإخوة اعلموا حفظكم الله أن المولى الكريم جل جلاله يستحيي أن يزيل البركة من مكان وضعها فيه و البركة و الفضل مخلدان إنشاء الله في ذرية مولانا الشيخ رضي الله عنه وعنهم بنهجهم على اثر سلفهم الذين اصطفاهم الله ليحملوا علوم آل البيت ولن يحملها غيرهم.وهذا الشريف النبيل سيدي محمد الكبير حفظه الله جاء عن قدر الى مراكش فشرفت بقدومه هذه الحضرة و ألهمه الله لاحياء رسوم هذه الزاوية التي تعبد فيها كثير من العارفين وقتا طويلا ثم أفل نجمها و تداعت للخراب فتحركت همة الشريف من أجل إعادة شبابها فصارت و الحمد لله معلمة مقصودة للصلاة و الذكر جعلها الله من حسنات سيدنا الحفيد سيدي محمد الكبير و أطال عمره حتى يسعد بما تشوفت له همته العالية و هي التربية المحمدية التي ورثها عن سلفه الطاهرين.و السلام عليكم و رحمة الله
اكادير في 26 ماي 2006
محمد المهدي الكنسوسي