مقالاتمواضيع مختلفة

حكم الصلاة في المقبرة

حكم الصلاة في المقبرة

 

تأليف:

د:عدنان بن عبد الله زُهار

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين

 

 

بِكَ أَسْتَهْدِي فَسَدِّدْنِي إِلَى

  أَرْشَدِ السُّبُلِ وَأَهْدَى السَنَنِ

رَبِّ وَفِّقْنِي وَكُنْ عَوْنِي عَلَى

 

شُكْرِ مَا أَوْلَيْتَنِي مِنْ مِنَنِ

رَبِّ أَمِّنِّي فَإِنِّي عَائِذٌ

 

بِرَجَاءِ الْخَائِفِ الْمُسْتَأْمِنِ

مَا لِنَفْسِي فِيكَ مَا تَمْلِكُهُ

 

غَيْرَ مَا تَمْلِكُ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ

ثِقَةٌ مَا خَالَطَتْهَا رِيبَةٌ

 

وَيَقِينٌ مَا بِهِ مِنْ وَهَنِ

رَبِّ هَذَا سَبَبِي أُدْلِي بِهِ
 

رَبِّ فَامْدُدْ سَبَبِي لاَ تُخْزِنِي

 وبعد،

فإنه مما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم قديما حكمُ الصلاة في المقبرة، بين قائل بجوازها مطلقا، وقائل بالتحريم مطلقا، وذاهب إلى التفصيل بين المنبوشة وغير المنبوشة والبينة النجاسة من غيرها، مع اختلاف في صحة الصلاة فيها أو بطلانها، تبعا لاختلافهم في قاعدة “هل يقتضي النهي الفساد والبطلان أم لا يقتضيه؟…

واعتمد كلُّ واحدٍ منهم لقوله على دليل بعيد أو قريب، وما زالت هذه المسألة من الخلافيات المتداولة بينهم مما لا يقع بسببها نكيرٌ ولا تشغيب، كما هو أدبهم في كلِّ المباحث الاجتهادية.

إلى أن ظهرت طائفةٌ في الأزمنة المتأخرة، اختارت مذهبا في الفروع والأصول، وأرادت أن تحسم باختيارها مادة الخلاف الذي عاشه المسلمون ورضوا به وتسامحوا فيه قرونا طويلة، وادعت أن الصواب ما اختارته من الأقوال، والرأي الذي لا يصح غيرُه ما اعتمدته من الحجج والدلائل.

غيرَ عابئةٍ بعلل الأحكام ولا موقرة لكلام الأئمة الأعلام، فحكَّمت رأيَها في كل أصل وفرع، وأعلنته في الناس على أنه الدين الحق، ومخالفُه محروم من الأجر موزور ، مبتدع أثيم ملعون.

ومنها تشبثُهم بالقول الذي رأى المنع من الصلاة في المقبرة، وإذاعته بين الناس، ونشره بين الخاص والعام على أنه ما لا يصح غيرُه ولا يوجد في كتب الفقه قول يخالفُه، حتى تبناه العوامُّ، ودانوا الله به ظنا منهم تمام الإيمان، وخلافه شركٌ وكفران، وحصل بسبب ذلك من الفتن بين الناس ما الله به عليم، فتنازعوا وتسابوا وتشاتموا أثناء تشييع الجنائز إلى المقابر، وتماروا فيه في المجامع والمحافل، مع جهل مركب بنصوص الأحكام، وعلل التشريع ومقاصد الإسلام، وإساءة أدبٍ في حق الأئمة، وإنكار بالغٍ على من قال بالجواز من علماء الأمة، ورحم الله القائل:

لو سكت الجاهل لارتفع الخلاف.

         هذا، وقد كنتُ ابتليتُ  في يوم من الأيام، برجل غليظ الطبع بذيِّ الكلام، يجادل في المسألة مجادلةَ العوام، فأخبرته أنها خلافية بين الفقهاء، فإذا بالمسكين يجهل معنى الخلاف وحكمة  وجوده في الأحكام؛ فتركته وانصرفتُ، باكيا على ما صار إليه الأمر في العلم والدين، لائما معاتبا بشدة مَن أنكر التقليد في الدين، وادعى الاجتهاد لعموم المسلمين، حتى صار البناؤون والسباكون والخياطون والأطبة والمهندسون والفلاحون والزراعون وغيرُهم يستدركون على مالك وأصحابه ويخطئون أبا حنيفة وأتباعه وينكرون مذهب الشافعي وأقواله.

فحسبنا الله ونعم الوكيل.

فلما علمتُ أن الأمر مما يصعب على آحاد الناس الوقوف عليه بين كتب الفقه والخلاف، وخفتُ أن يشتهر القول بالمنع من الصلاة في المقبرة حتى كأن عليه الإجماع، قصدت إلى تأليف هذه الرسالة لبيان ما رأيناه أصح الأقوال، وهو جواز الصلاة في المقابر على مذهب الإمام مالك، والتعريف بأدلة المانعين والجواب عنها.

ونظمتُها على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، أما المقدمة فالذي مرَّ، وأما الفصل الأول ففي بيان مذاهب السلف في المسألة، والثاني في ذكر أدلة المانعين والجواب عنها، والثالث في ذكر أدلة المجيزين وتقريرها، والرابع في بيان أقوال العلماء فيها، والخاتمة للفوائد والعبر.واللهَ أسأل التوفيق وحسن السداد.

الفصل الأول:

[ذكر مذاهب السلف في المسألة وأهم أسباب الخلاف فيما بينهم]

اعلم أن الصلاة في المقبرة اختُلف فيها بين علماء الصحابة والسلف الصالح على أقوال.

قال ابن المنذر في كتاب “الأوسط”: وقد اختلف أهلُ العلم في الصلاة في المقبرة، فكرهت طائفة ذلك؛ وممن رُوي عنه أنه كره ذلك: عليٌّ وابنُ عباس وابنُ عَمْرٍو بنِ العاص وعطاء والنخعي …

ثم قال: ورخصت طائفة في الصلاة في المقبرة، قال نافع مولى ابن عمر: صلينا على عائشة وأمِّ سلمة وسطَ البقيع، والإمامُ يومَ صلينا على عائشة أبو هريرة؛ وحضر ذلك ابنُ عمر. ورُوِّينا أن واثلة بنَ الأسقع كان يصلي الفريضة في المقبرة غير أنه لا يستتر بقبر…

وصلى الحسن البصري في المقابر. واخْتُلف في هذه المسألة عن مالك، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا بأس بالصلاة في المقابر، وحُكي عن أبي مصعب عن مالك أنه قال: لا أحب الصلاة في المقابر.اهـ

وكذا وقع الخلاف في المسألة بين أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم إلى أقوال وآراء وتفصيلات:

-فذهب الأحنافُ إلى القول بكراهة الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يديِ المُصلي بحيث لو صلى صلاة الخاشعين وقع بصره عليه.أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحت ما هو واقف عليه فلا كراهة على التحقيق.

-وذهبت الحنابلة إلى أن الصلاة في المقبرة باطلة مطلقا إذا كانت تضم ثلاثة قبور فأكثر، وإلا فمكروهة.

وقال الشافعية بالكراهة في المقبرة غير المنبوشة سواء كانت القبور خلفه أم أمامه أو على يمينه أو شماله أو تحته.وأما إذا كانت المقبرة منبوشة بلا حائل فإنها باطلة.

ـ وذهب المالكية إلى القول بجواز الصلاة في المقبرة بلا كراهة إن أمنت النجاسة.

فهذه مذاهب السلف وأقوالهم في المسألة، نستخلصُ منها أمورا:

الأول : أن المسألةَ خلافيةٌ بينَهم رحمهم الله، فليست هي مما وقع عليه إجماعُ الأمة حتى يُنكَرَ على القائل بأحد الأقوال منها ويشنع عليه، بل يجري عليها ما يجري على كل المباحث الخلافية، خاصة أن الخلاف فيها ثابتٌ بين كبار علماء الصحابة، إذ إن منهم من ثبت عنه القول بالجواز بل فعلَه أمام عامة الناس ليُعلِم الحاضرين جوازه ومشروعيته.

       فما يفعله بعضُ المنتسبين إلى العلم من التهويل في قضية الصلاة في المقبرة والتشغيب على الناس فيها كأنها من القطعيات، بل وحملهم فاعليها على الشرك وأنواعه من الجهل المركب والتدليس المحرم، فهذه أقوال السلف بين يديك وذاك عملهم أمام عينيك، لم يبق إلا التعرف على مدارك آرائهم وعلل أحكامهم.

الثاني: أن الأدلة فيها متعارضة متباينة، لا يوجد فيها قطعي ثبوتا ولا دلالةً على ما اختاره البعضُ وصاروا يلزمون به الناس، بل الأدلة فيه متعارضةٌ قابلة للتأويل من الجهتين، وإن كان التأويل القاضي بالجواز أولى وأصح كما سنرى إن شاء الله، إلا أننا نجريه مجرى الخلاف المعتبر.

الثالث: أن أكثر المانعين للصلاة في المقبرة إنما قالوا بالكراهة فقط لا بالتحريم، اللهم ما كان من مذهب الإمام أحمد رحمه الله القاضي بالتحريم المطلق مع ثبوت القول عنه بالكراهة فيما إذا كانت الصلاة في مكان أقل من ثلاثة قبور.

وقولهم بالكراهة يشير إلى أمرين هامين:

الأول: أن الأمر عندهم أهون مما تصوره بعضُ المتأخرين من كونه ذريعةً للوقوع في الشرك، وأخفُّ مما زعموا كونه تشبها بالكفار وتقليدا لليهود والنصارى.فالتهويل في مسألة الصلاة في المقابر مردود بالنظر إلى الحكم الذي اختاره أغلبُ المانعين وهو الكراهة، ومثل الذرائع الموقعة في الشرك لا يقال فيها بحال إنها مكروهة.فكيف إذا كان القول بالكراهة مرجوحا والراجح الجواز كما سنبينه مفصلا إن شاء الله.

الثاني: أن القول بالكراهة يقتضي عدم بطلان الصلاة في المقبرة، كما سيتقرر فيما بعد إن شاء الله، وهذا خلافا لِمَن ألزم المصلي بالإعادة أبدا.

إذا تبيَّن هذا فلنلمِحْ إلى أهم الأسباب التي أوجدَت الخلاف في هذه المسألة الفقهية:

قال ابن رشد الحفيد في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”بعد ذكره أهم الأقوال في مواضع الصلاة المباحة والمنهي عنها:

       وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أن هاهنا حديثين متفق على صحتهما، وحديثين مختلف فيهما.

       فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام: “أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي”… وذكر فيها: “وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت”، وقوله عليه الصلاة والسلام: “اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا”.

وأما الغيرُ المتفق عليهما فأحدهما ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام “نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله” خرجه الترمذي، والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: “صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل”.فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح والنسخ، والثاني مذهب البناء أعني بناء الخاص على العام، والثالث مذهب الجمع…اهـ المقصود منه

والمراد منه إيضاح أمور:

–  الأول: أنه ليس في مسألة الصلاة في المقبرة دليلٌ من القرآن الكريم أصلا، لا قطعي الدلالة ولا ظنيها؛ ذلك أنها لو كانت من مظاهر الشرك أو مما يوقع فيه كما خافه على المسلمين مَن لا تحقيق عنده، لتعرض لها القرآن الكريم وحسم النزاع فيها، كعادته في سد ذرائع الشرك وأبوابه، خاصةً أن زيارة القبور وتعظيمها والتعبد عندها مما كان رائجا مشهورا في الجاهلية.

فكيف إذا علمت أن معنا من القرآن الكريم ما يشير إلى جواز الصلاة في المقبرة كما سيأتي إن شاء الله.

الثاني: أن الأدلة المعتمدة من الفريقين غيرُ قطعية حتما، فإما هي أخبار معلولة لا تقوم بها حجةٌ، وإما هي استنباطات مما صح من الآثار فاسدةٌ مردودةٌ. وإلا فإن مدارك أكثر الأئمة في المنع موافقةٌ لمذهب المالكية في الجواز من جهة واحدة، وهي المنع اعتبارا لعلة الحكم، وهو مظنة وجود النجاسة في المقبرة المصلى فيها، فيرجع الأمر إلى قول واحد إن شاء الله وهو الجواز إذا أمنت النجاسة.

الثالث: أن الإمام ابنَ رشد وغيرَه من المحققين ممن كتب في الخلاف العالي، إنما ذكروا لعلة المنع المفهومة من بعض النصوص وجود النجاسة المانعة من الصلاة إجماعا، ولم يتعرض أحدٌ منهم إلى ادعاء أنها خيفة الوقوع في الشرك أو عبادة القبور أو غير ذلك من الكلام المرسل غير المحقق، الذي لم يظهر إلا بعد القرن السابع مع ابن تيمية وأتباعه.

فالحنفية قالوا: تُكره الصلاةُ في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي بحيث لو صلى صلاة الخاشعين وقع بصره عليه. أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحت ما هو واقف عليه فلا كراهة على التحقيق . وقد قيدت الكراهة بأن لا يكون في المقبرة موضع أعد للصلاة لا نجاسة فيه ولا قذر وإلا فلا كراهة وهذا في غير قبور الأنبياء عليهم السلام فلا تكره الصلاة عليها مطلقا.

والمالكية قالوا : الصلاة في المقبرة جائزة بلا كراهة إن أمنت النجاسة فإن لم تؤمن النجاسة ففيه التفصيل المتقدم في الصلاة في المزبلة ونحوها.

والشافعية قالوا : تكره الصلاة في المقبرة غير المنبوشة سواء كانت القبور خلفه أو أمامه أو على يمينه أو شماله أو تحته إلا قبور الشهداء والأنبياء فإن الصلاة لا تكره فيها ما لم يقصد تعظيمهم وإلا حرم، أما الصلاة في المقبرة المنبوشة بلا حائل فإنها باطلة لوجود النجاسة بها.

       والحنابلة قالوا : إن الصلاة في المقبرة وهي ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن باطلة مطلقا، أما إذا لم تحتو على ثلاثة بأن كان بها واحد أو اثنان فالصلاة فيها صحيحة بلا كراهة إن لم يستقبل القبر وإلا كره.

وقال العلامة العدوي في “شرح كفاية الطالب”: (و) أما النهي عن الصلاة في (المزبلة) بفتح الباء وضمها مكان طرح الزبل (و) عن الصلاة في (المجزرة) بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي المكان المعد للنحر أو للذبح فنهي كراهة إن لم يؤمن من النجاسة، وإلا جازت وحيث قيل بالكراهة، وصلى فيها أعاد في الوقت على المشهور عامدا أو غيره .

(و) أما النهي عن الصلاة في (مقبرة المشركين) فنهي كراهة لكن ليس في الحديث ذكر المشركين كما وقفت عليه.

ك : المقبرة مثلث الباء فإن كانت غير منبوشة وليس في مواضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين فالمشهور الجواز، وإن كان في مواضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين ، فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي هل ينجس بالموت أو لا؟ وهذا في مقابر المسلمين ، وأما مقابر الكفار فكره ابن حبيب الصلاة فيها ؛ لأنها حفرة من حفر النار، لكن من صلى فيها وأمن من النجاسة فلا تفسد صلاته وإن لم تؤمن كان مصليا على نجاسة.اهـ

بل ذهب بعضُ الحنابلة إلى أن النهي الوارد في بعض النصوص تعبديٌّ محض غير معقول المعنى، لا لمظنة النجاسة المشتهر القول به في كلام الفقهاء ولا سدا لذريعة الشرك المتوهَّمة في كلام بعضِ أهل العلم.

ففي “المغني” لابن قدامة الحنبلي: قال القاضي: المنع من هذه المواضع تعبديٌّ لا لعلة معقولة، فعلى هذا يتناول النهي كلَّ ما وقع عليه الاسم، فلا فرق بين المقبرة القديمة والحديثة، وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب…الخ

فحمل بعضهم النهي على أنه من باب سد ذريعة الشرك تحكُّمٌ يرده الشرع والعقل، وإنما الشرع يحرِّم ما أدى إلى شرك أو مثله بالتصريح لا بالكنايات والإشارات، فهي دعوى باطلة، عن الدليل عارية، واختراع هذا القول مع مخالفته لمذاهب جمهور علماء الأمة أكبر بدعة وأقبح زلة تورط فيها المخالفون، نسأل الله العافية من حب الخلاف.

 

 [فصل في ذكر أدلة المانعين ونقضها]

حاولتُ أن أتتبع أهمَّ وأقوى أدلة منكري الصلاة في المقبرة، فحُصرت عندي في خمسة أحاديث، لا يقوم أصحها سندا وأوضحها دلالة أن يحسم مادَّة الخلاف في المسألة ويحكم برجحانية مذهب المانعين، ثلاثةٌ منها صحيحةٌ غير صريحة، والآخران صريحان غير صحيحين، والحجة لا تقوم إلا بصحيح صريح كما يعلمه صغار طلبة علم الأصول.

       فكيف وأن معنا من أدلة الجواز ما لا يعارَض بمثله فضلا عن ما هو أقل منه في الدلالة، فدونك الأحاديث الخمسة نناقشها سندا ومتنا، والله الموفق:

        الحديث الأول: روى البخاري ومسلمعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في مرضه الذي لم يقم منه: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.

قال الإمامُ ابنُ قدامة في “المغني” بعد أن ساق هذا الحديث وأحاديث أخرى معه: فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور للنهي عنها.اهـ

       وقال ابن تيمية في “شرح عمدة الفقه”: الفصل الثاني في المواضع المستثناة التي نهيَ عن الصلاة فيها وقد عد أصحابنا عشرة مواضع المقبرة والمجزرة والمزبلة والحش والحمام وقارعة الطريق وأعطان الإبل وظهر الكعبة والموضع المغصوب والموضع النجس.

 فأما الموضع النجس و المغصوب فقد ذكرنا حكمه، وأما ثلاثة منها فقد تواطأت الأحاديث و استفاضت بالنهي عن الصلاة فيها وهي المقبرة و أعطان الإبل و الحمام وسائرها جاء فيها من الأحاديث ما هو دون ذلك.

       أما المقبرة و الحمام فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام” رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح.

       وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم و لا تجعلوها قبورا” رواه الجماعة.

       وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “لا تصلوا إلى القبور و لا تجلسوا عليها” رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.

       وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس و هو يقول: “إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك” رواه مسلم.

       و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.اهـ  

وعندنا أن هذا الحديث لا حجةَ فيه على منع الصلاة في المقبرة، بوجه من الوجوه، وإنما استدل به بعضُ المخالفين تكلفا وتحكما، ودونك البيان:

الرد الأول: أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي صرح به الحديث هو العمدُ لبناء المساجد على القبور، ثم الصلاة عندها تبعا لاعتقاد باطل ساد عند اليهود والنصارى.

فحكم الحديث متوجِّهٌ لبناء المساجد خاصة على القبور ثم الصلاة فيها، والمسألة عندنا حول الصلاة في المقبرة بلا مسجد ولا قصد.

الرد الثاني أن هذه المساجد بُنيت على قبور الأنبياء والصالحين خاصةً، لمقصد معيَّنٍ عند اليهود والنصارى حيث جعلوها أوثانا يعبدونها، فكان الحكم في حديث عائشة رضي الله عنها معقول المعنى مفهوم المغزى، فالاستدلال به على منع الصلاة في المقابر العامة لا لنية سابقة أو قصد كفري ظاهر، من وضع الشيء في غير محلِّه وتكلف الدليل على غير مستدَلِّه.

قال في “مجمع البحار”: وحديث “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن. وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصدا به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه. ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل؟اهـ

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في “اللمعات”في شرح هذا الحديث:  لما أعلمه بقرب أجله فخشي أن يفعل بعضُ أمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم فنهى عن ذلك.

      قال التوربشتي: هو مُخرَّجٌ على الوجهين، أحدُِهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم وقصد العبادة في ذلك. وثانيهما: أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله، نظرا منهم أن ذلك الصنيع أعظمُ موقعا عند الله لاشتماله على الأمرين: العبادة والمبالغة في تعظيم الأنبياء.وكلا الطريقين غيرُ مرضية؛ وأما الأول فشرك جلي، وأما الثانية فلما فيها من معنى الإشراك بالله عز وجل وإن كان خفيا.

والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.اهـ

وقال العلامة البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها اتخذوها أوثانا لعنهم ومنع المسلمين من ذلك.

       قال: وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد.اهـ     

قلت: عُلِمَ بهذا أن الوعيد الوارد في حديث عائشة رضي الله عنها إنما هو لعابد قبور الأنبياء، لا للمصلي في المقبرة، وبين الأمرين مفاوز.

وقد ردَّ الإمام الحافظ ابن عبد البر النمري هذا الاستدلال واستغربه في “التمهيد”فقال:  وقد احتج بعض من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ولا حجة له فيه.اهـ

وقال في موضع آخر من “التمهيد”:في هذا الحديث إباحة الدعاء على أهل الكفر وتحريم السجود على   قبور الأنبياء، وفي معنى هذا أنه لا يحل السجود لغير الله عز وجل. ويحتمل الحديث أن لا تجعل قبور الأنبياء قبلة يصلى إليها، وكل ما احتمله الحديث في اللسان العربي فممنوع منه، لأنه إنما دعا على اليهود محذرا لأمته عليه السلام من أن يفعلوا فعلهم.

       وقد زعم قومٌ أن في هذا الحديث ما يدل على كراهية الصلاة في المقبرة وإلى القبور وليس في ذلك عندي حجة.اهـ

فحديث عائشة هذا لا يدلُّ أبدا على المنع من الصلاة في المقبرة، أما صراحة فبإجماع المسلمين، وأما إشارةً فبتكلّف المتكلفين، والله أعلم.

الحديث الثاني: روى البخاري في “صحيحه” ومسلم في “صحيحه” عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا”.

وهذا الحديث أيضا استنبط منه بعضُ الأئمة المنعَ من الصلاة في المقبرة تأويلا له، وفهما فهموه من عبارته، والواقع أن هذا الفهم محتملٌ منه، كما احتملوا فيه أيضا معاني أخرى ذكرها الأئمة في مصنفاتهم، وقد علم في محله من كتب الأصول أن “ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال”.

وممن ذهب إلى اعتماده دليلا على كراهة الصلاة في المقبرة أمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري، حيث ذكره في كتاب “الصلاة” من “صحيحه” مرتين، إحداهما تحت “باب كراهية الصلاة في المقابر”، وثانيتها تحت “باب التطوع في البيت”.

قال الحافظ ابن رجب في “شرح البخاري”: ووجه ذلك: أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بأن يصلوا في بيوتهم، ولا يتخذوها قبورا بترك الصلاة فيها، فدل على أن القبور ليس فيها صلاة، وأن البيت يكره إخلاؤه عن الصلاة ، لما فيه من تشبيه بالمقابر الخالية عن الصلاة .اهـ

لكنَّ رأيَ الإمام البخاري ومَن ذهب مذهبه مرجوحٌ ومتعقبٌ عند أهل التحقيق، ودونك البيان:

الرد الأول: أنه ليس صريحا فيما ذكر بل هو من قبيل التأويل لظاهره، مع احتمال تأويلات غيره ربما أظهر منه، بل هي كذلك حتما كما سنرى.

قال الحافظ العيني في “العمدة”: قيل هذا الحديث لا يطابق الترجمة لأنها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث أن لا تكونوا في بيوتكم كالأموات في القبور حيث انقطعت عنهم الأعمال وارتفعت عنهم التكاليف وهو غير متعرض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر ولهذا قال: “لا تتخذوها قبورا” ولم يقل “مقابر”.اهـ

قال ابن التين –شارح البخاري-: تأوَّله البخاريُّ على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في  البيوت، إذ الموتى لا يصلون. كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في  بيوتهم وهي القبور قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في  الحديث ما يؤخذ منه.اهـ

قال الحافظ في “الفتح”: وقال في “النهاية” تبعا ل”المطالع”: إن تأويل البخاري مرجوحٌ، والأولى قول من قال: معناه أن الميت لا يصلي في  قبره.اهـ    

بل ذهب بعضُ أهل العلم إلى تأويل ثالث، رادا فهم البخاري رحمه الله، قال الحافظ في “الفتح”: وقد نازع الإسماعيليُّ المصنفَ أيضا في هذه الترجمة، فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر.اهـ

قلت: هذا كان أقرب من فهم الإمام البخاري لولا ورود الحديث بألفاظ أخر تبعِدُ تأويله، وقد ذكرها الحافظ هناك في “الفتح”.

وقال الحافظ العيني في “عمدة القاري”: “ولا تتخذوها قبورا” من التشبيه البليغ البديع بحذف حرف التشبيه للمبالغة، وهو تشبيه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه.

       وقال الخطابي: يحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت.اهـ

       وقال القاضي عياض في ” مشارق الأنوار” : قوله: ” لا تجعلوا بيوتكم قبورا” أي صلوا فيها من صلاتكم، ويفسره الحديث الآخر ” اجعلوا صلواتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا” ، لأن القبر لا صلاة فيه ولا عمل، وقد تأولها البخاري لا تجعلوها كالقبور التي لا تجوز الصلاة فيها وترجم عليه كراهة الصلاة في القبور، والأول هو المعنى لا هذا. اهـ

       فرجع الحديث إلى ما تفق عليه الإئمة الأعلام في مصنفاتهم وتقريراتهم من أن غاية ما يشير إليه استحباب جعل بعض الصلاة ـ وهي النافلة عند الجمهور ـ في البيوت.

بقية البحث نشره الفقيه المحدث الأصولي

عدنان  عبد الله زهار

في سلسلة ( فتبينوا)

تحت عنوان ” حكم الصلاة في المفبرة “

دار الرشاد الجديدة

الدار البيضاء  – المغرب

تحت رقم 2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى