مقالات

الزاوية: مؤسسة إسلامية للعبادة والتربية والعلم

يرجع أصل الزاوية إلى هذه الرباطات التي تأسست في بداية أمرها بالمغرب بهدف التبتل والجهاد والإغاثة. وكان أولها رباط سيدي شيكر الذي وصفه ابن الزيات في التشوف بأنه “كان مجمعا للصالحين من قديم لاسيما في رمضان يفدون من كل أوب”.

 

وللحق والإنصاف التاريخي والديني والسياسي والاجتماعي نسوق هذا البحث المتواضع في عجالة مختصرة، الهدف منه هو إزالة غشاوة التضليل عن هذه المؤسسة الشامخة التي لا تستطيع معاول الهدم النيل منها رغم محاولات الشحد المتتالية.

1 ــ الأصل الأول للزاوية بالمغرب:
فما هو أصل هذه المؤسسة والمراحل التي قطعتها وما هي الأدوار الدينية والتاريخية التي قامت بها وما سندها الشرعي؟
يرجع أصل الزاوية إلى هذه الرباطات التي تأسست في بداية أمرها بالمغرب بهدف جهاد كفار بورغواطة الذين كانوا صورة مشوهة للإسلام ممزوجة بالتقاليد المحلية. وكان أول هذه الرباطات هو رباط شاكر ــ وهو من أصحاب عقبة بن نافع ــ الذي وصفه ابن الزيات في التشوف بأنه “كان مجمعا للصالحين من قديم لاسيما في رمضان يفدون من كل أوب”.

2 ــ الهدف من تأسيس الرباطات:
وكانت هذه الرباطات سهما قاتلا في نحر الرهبانية والرهبنة النصرانية التي كانت ما تزال بقاياها في شمال المغرب. بعد قدوم المولى إدريس، وذلك بما قدمته من تكوين ديني وجهادي مقاوم لكل ما هو مُشين للإسلام.
كما كانت هذه الرباطات بعد نكبة الأشراف عقب مذبحة فخ مركزا للاستقبال هؤلاء الأشراف، مما يفسر السرعة الهائلة التي تم بها نشر دعوة مولاي إدريس في ربوع المغرب، وأصبح لها الدور الهائل لتمهيد السبيل لكثير من الشيوخ الذين سيتزعمون الطُرقية في العصور الموالية.
بعد هذا، تناسلت الرباطات بشكل كبير، وانتشرت على نطاق واسع. وأقدم رباط مغربي مشهود له بنشر العلم وقراءة القرآن حسب ما أورده صاحب كتاب التشوف إلى رجال التصوف (ص:36) هو رباط وجاج بن زلو اللمطي السوسي، “الذي نجد من بين رجاله الصوفية كثيرا من المعلمين المنقطعين لتعليم كتاب الله”.
وهذا الذي ذكرنا أخيرا مظهر ثان لنوع ما كان يشتغل به الصوفية إذ ذاك.
وهكذا تطورت الفكرة الصوفية، فأضيف إلى التعبد بالقرآن تعبدات بالأدعية والأذكار، التي لم ينتحلها الصوفية دينا جديدا كما تدعي السلفية النصية الوهابية (معلمة التصوف الإسلامي ج:1 ص: 89).
إن الرباطات برغم أهميتها الجهادية ــ أي جهاد الكفار والنحل الضالة كالبرغواطيين ــ التي كان أساس تأسيسها، فقد أصبحت على مر العصور ذات وظيفة تعبدية تعليمية (المعلمة ص 4241).

3 ــ تحول اسم الرباط إلى الزاوية:
وتطور اسم الرباط فيما بعد إلى اسم الزاوية التي تعني رباطا للكفاح الروحي وجهاد النفس والهوى والشيطان. ومجمعا للتوعية ونشر الفكر الإسلامي، والدعوة إلى العمل للكسب السليم، وعدم القبوع في اعتكاف سلبي في انتظار ما يفتح الله به من “فتوحات مادية وزيارات…” (معلمة التصوف الإسلامي ج:1 ص:221).
إذن فالزاوية بهذا المعنى هي مكان للعبادة وإيواء الواردين وأبناء السبيل وإطعامهم وتسمى في الشرق خانقاة جمعها خوانق (معلمة المغرب 4602). وعرفتها دائرة المعارف الإسلامية “بأنها مدرسة دينية، ودار مجانية للضيافة…”
ولم تظهر الزاوية في المغرب إلا بعد القرن الخامس الهجري (11م)، حلت محل الرباط وسميت في البداية “دار الكرامة”، كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، كما سميت “دار الضيوف” (معلمة المغرب 4602).
ثم تكاثرت الزوايا بالمغرب في القرن السابع (13م) وفي القرون التالية بتكاثر عدد الزهاد والصالحين. كما قال ابن الزيات وعبد الحق البادسي ومحمد الحضرمي السبتي وأحمد بن قنفد القسنطيني.

4 ــ أهداف تأسيس الزاوية:
وأقدم هذه الزوايا زاوية ابن محمد صالح الماجري الذي كان يحض مريديه على حج بيت الله الحرام بعد أن تقاعس المغاربة والأندلسيون عن الحج بسبب اختلال الأمن في الطريق (المعلمة 4602). وذلك بعد إصدار بعض علماء السطور لفتاوى بإسقاط فريضة الحج متعللين بعدم الأمن والقيام بفريضة الجهاد في الأندلس، وبعد المسافة (آسفي دراسات تاريخية وحضارية. ص: 201 – 204)، فقام التصوف بواجبه التصحيحي، فأسس ابن محمد صالح ستة وأربعين زاوية فيما بين المغرب ومصر هدفها تأمين الطريق وتسهيل رحلة الحجاج. وكانت هذه الزوايا تدعى رُبَطاً، وبقي اسم الرباط غالبا على زاويته الأصلية بآسفي حتى اليوم، وهذا يدل على أن الرباط أصل الزاوية، فكلاهما معد للعبادة.
فما هو الغير مقبول في نظر النصيين السلفيين كما تحلوا لهم التسمية، وما دواعي التشنج والتعصب؟ أهي التسمية أم الممارسة التعبدية أم العمل الجهادي أم النشر المجاني للتعاليم السمحة الحنيفية من قرآن وعلم ومجاهدة النفس بالأذكار والمذاكرات، أم هو مجرد جهل بالحقائق.
إن الفكر الوقاد والناضج، هو ذلك الفكر المتفتح الذي ينظر للأمور بعين الحقيقة والواقع الموزون بالمعيار الثقيل للشرع، الذي لا يصدر الحكم الجزافي، ولكنه يتأنى في إصدار الحكم، لأن الأحكام الجزافية سوف تكون وبالا عليه دنيا وأخرى ويتحمل مسؤوليتها في الدارين.

4 ــ الاعتراضات ودوافعها:
أ ــ الاعتراض على التسمية:
فإذا كان الاعتراض على هذه المؤسسة هي التسمية كما تشبثت به السلفية النصية الضيقة الأحكام. فإن لفظة الزاوية لها أصل أصيل في السنة، روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض… » (رقم الحديث 5144) ومعنى زوى أي طوى وقرب.
ولما كان مفهومها هكذا آثر العارفون اتخاذ التسمية تبركا وتيمنا، فكانت الزاوية بهذا المعنى هي مؤسسة تقرب العبد من مولاه وتطوي له مسافة التدني منه بالمداومة على الأذكار المشروعة التي لا تخرج عن الثلاثي التعبدي ذي الأصل الأصيل في السنة المطهرة: الإستغفار، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والكلمة المشرفة لا إله إلا الله والتي اعتمدها كل المشايخ باختلاف مشاربهم، أي التطهير والتنوير والتعمير.
والزاوية تعني أيضا الركن الذي اقتطعه المشرع الأعظم صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة لأهل الصفة (ابن ماجة رقم الحديث 3240)، والصفة مكان اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد لفقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه (النهاية في غريب الأثر “الصاد” ج:3 ص: 37).
وكان عددهم يصل إلى حوالي 400 من المهاجرين (الجلالين ج:1 ص: 61). ومن تم أصبح كل مسجد يبنى يتخذ فيه زاوية أي ركنا يخصص للعباد والزهاد. وتصاميم المساجد داخل المدن العتيقة شاهدة على ذلك.
ب ــ الاعتراض على الممارسة التعبدية:
وإذا كان الاعتراض على الممارسة التعبدية، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «هل فيكم غريب من أهل الكتاب فقلنا لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب وقال ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله فرفعنا أيدنا ساعة…» (رواه الإمام أحمد رقم 16499. ورواته كلهم تقاة). وها هو الحديث القدسي يقول فيه الحق سبحانه: «… إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه…» (مسلم رقم: 4832) والذكر في الملأ لا يكون إلا جهرا.
ج ــ الاعتراض على الجهر بالذكر:
أما عن الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري: «اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما أو غائبا» (البخاري رقم: 2770) فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما فيه من الجهد والمشقة على النفس في حالة السفر والله أعلم.
د ــ الاعتراض على الدور الجهادي:
أما إذا كان الاعتراض على الجهاد، فها هو القرآن يحث على ذلك بقول الله عز وجل: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (سورة الحج: 78). قال ابن كثير: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم. والجهاد المقصود هنا هو جهاد النفس والهوى والشيطان الذي لا يكون إلا بكثرة الذكر، لا كما تفهمه السلفية النصية التي تصور لنفسها الفهم المطلق الذي لا يتقيد بحدود الشرع الحكيم وأهدافه السامية فتعلنها بفهم قتالي.
والصوفية غير ذلك فهم يدفعون بالمريد إلى الإكثار من ذكر الله لقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (سورة البقرة: 152). فمريد الزاوية أول ما يتعلمه هو الإكثار من ذكر الله باللسان ثم بالقلب ثم بالتفكر، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران: 191) وهذه الأخيرة أعظم مراتب الذكر.
فليتأمل معي الناصح لنفسه هذا النوع اليومي من الجهاد والمجاهدة، هل يمكن ممارسته في عموم المساجد؟ وإذا سمح لطائفة، ألا يحق لأخرى أن تمارس نفس حقوقها التعبدية؟ وإذا تم السماح لهذه الطوائف جميعها ــ وكلها على هدى من الله تعالى رغم عناد المعاندين وتعسف المتطاولين ــ أفلا يحدث ذلك تشويشا وخلطا على المصلين؟ أفلم تكن الزوايا حلا مثاليا لحق الممارسة التعبدية لكل طائفة من هذه الطوائف، تمارسها وتزاولها في زاويتها.
إن الذين فكروا في إنشاء هذه المؤسسة التي هي أصل أصيل في سنة رسول الله عليه الله عليه وسلم ليسوا من رعاع القوم أو من سفلتهم، بل هم من خشية الله تتفتت أكبادهم وتحترق أحشاؤهم.
هـ ــ الاعتراض على نشر العلم:
أما إذا كان الاعتراض على النشر المجاني للتعاليم السمحة الحنيفية من تعليم القرآن وعلم وتعليم وتلقين أذكار بالمجان. فهذا مما لا يمكن أن ينتقده إلا من هو عن الحق زائغ، وفي طريق العماهة تائه.
فالزوايا المغربية ولله الحمد والمنة لا تقوم إلا على أكتاف المحسنين، ولم يحدث لزاوية أن تلقت تمويلها من جهة خارجية أو حزبية أو جهادية، كما هو شأن الهيئات الدينية الحالية.
و ــ الاعتراض على كيفية التمويل:
فطف بكل زوايا المغرب المنتمية لأي طائفة من الطوائف الصوفية، فسوف لن تجد تمويلها قائما إلا على يد المحسنين المحتسبين المحبسين، أو الهيئات السلطانية التي لم يعترض أحد من أهل العلم على قبولها، بخلاف هيئات الحكام ممن هم دون مركز السلطان.
فأين هذا التنظيم والنظام المالي من تنظيم الهيئات الدينية الجديدة والمتجددة التي ترصد لها أموال خارجية، مشبوه في أصلها، وتصرف على دعواهم القائمة أساسا على معاداة ومحاربة أهل الله تعالى، وعلى العنف القولي والفعلي، من تبديع وتفسيق وإحلال دماء المسلمين وتغريمهم، طبقا لفتاوى مغرضة بعيدة عن التسامح الصوفي الذي يعانق الإسلام في أبهى حلل تألقه.

5 ــ أهداف الزاوية المتعددة:
والزاوية ليس لها فقط هذه المكانة المالية التنظيمية النظيفة القائمة على تقوى الله وصدق المعاملة، بل جلها لها حظوة الإنتماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يحظوْن بمكانة رفيعة من قلوب المغاربة لشرفهم وانتمائهم إلى الدوحة النبوية الشريفة ولعلمهم وتقواهم وصلاحهم.
قال صاحب كتاب قبائل الصحراء المغربية (ص: 43): “إن الزاويا بالجملة ظلت محل قمة المجد وبُحبوحة وشرف النفس والسلوك حتى أن أهل العلم جعلوهم على رأس هرم التنظيم السكاني”، “… فالزوايا بالجملة من أحفظ الناس لأنسابهم، وهم أهل المدارس العامرة والتآليف المفيدة والمشايخ الكبار والأموال الطائلة. وهم أهل الإشتغال بمصالح الأرض غرسا وحرثا وتجارة وحفر آبار وإجراء عيون الأنهار وهم مصدر المنتدى ومصلحو الثأي أي الفساد (النهاية.ج: 1. ص: 205). وأهل القضاء والفتوى، محافظون أشد المحافظة عما يزري بعرضهم أو يخل بمروءتهم (الجأش الربيط).

6 ــ الحملات المغرضة ضد الزوايا:
ومما تقدم، يتضح أن الحملة المغرضة ضد الزوايا والأضرحة والمزارات، ما هي إلا فصل من فصول المؤامرة المحاكة ضد صرح الأمة الإسلامية الذي شيدت لبناته ثقافات متنوعة أنتجتها يد المبدعين الثائرين على الجمود والمفاهيم الناشفة والبعيدة عن روح الإسلام المتجددة والمتطورة باستمرار. وقد مثل هذه الثورة خير تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان، فكانوا يستنبطون منه مفاهيم صالحة لكل زمان ومكان مساهمين بذلك في تحريك عجلة التقدم إلى الأمام.
إن التصوف الإسلامي ليعتبر المنهج الفكري الراقي الذي أحس بكينونة الإنسان، وبالكرم الإلهي الذي أكرمه به دون سائر المخلوقات، لذلك خلدوا ذكره ورفعوا مكانته وأعلوا صيته وهذبوا ذوق الإحساس بهذا الإنسان الجامع لمكارم الأخلاق.
إن المزارات والأضرحة لتعد شهامة إسلامية إنسانية مغربية فريدة في العالم الإسلامي. فأيما شخصية قدمت للمسلمين خدمة، خلدوا إحسانهم لهذه الشخصية ببناء مزارة أو ضريح، يذكـِّر اللاحقين من الأجيال بالعمل الخالد والرائع الذي يستحق عليه استمرارية الدعاء له، واستحضار أياديه البيضاء لخدمة الإسلام والمسلمين. وإذا كنت ذا روية فاسْبر أغوار كتب التراجم والسير والقصائد المختلفة التي غاص ناسجوها أعماق المحبة لهذا السمو الأخلاقي والروحي.

7 ــ فتاوى تحريم الصلاة في الزوايا والمزارات باطلة:
إن دعوى تحريم الصلاة في المزارات والأضرحة وما شابهها من رباطات وزوايا دعوى مغرضة يلوكها من تخلف عن ركاب العلم، وكانت أذنه الجهاز الصالح للاستخدام، ولم يستعن بأجهزة العين والعقل وهو أعظمها، فيصدق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكفي المرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (مسلم: 05 أبي داود: 4992 ابن حبان: 30) وقول توفيق الحكيم: “نحن أمة اقرأ ولا نقرأ فنسمع ونقول أكثر مما نقرأ ونَعِ”.
يقول العلامة عبد الله بن الصديق: “وأما بناء المساجد على ضريح ولي من الأولياء بقصد التبرك، فقد صرح البيضاوي بجوازه، وقال لا يدخل في النهي عن بناء المساجد، الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود والنصارى لأنهم كانوا يقصدون ببناء المساجد على القبور عبادة أصحابها والسجود لهم، وهذا المعنى منتف في بناء مسجد على رجل صالح للتبرك به”. وناقشه الحافظ ابن حجر بما يُعلم من مراجعته في فتح الباري (الفتاوى عبد الله بن الصديق ص: 9).
وبناء عليه فلم يرد تحريم منع الصلاة في الأماكن المذكورة عند أهل التحقيق من أهل العلم، فضلا عن أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان. وما ورد هو الكراهة التنزيهية، والكراهة يقابلها الجواز في الحكم الفقهي فإذا لم توجد الأسباب الدافعة للكراهة فالجواز هو الأصل.
فلو استخدم المانع للصلاة في هذه الأماكن كل الأجهزة التي منحتها له القدرة الإلهية لعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا» (الترمذي: 991. النسائي: 728. أبو داود: 413. الدارمي: 1353 الدارمي 2358) فيكون كل ما ذكر من أحاديث أخرى “منسوخ ومدفوع بعموم قوله صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله وما خص به.
وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص”. «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وذكر الباقي من الخصائص التي وصلت إلى أزيد من سبع. وقال صلى الله عليه وسلم: «…لم يؤتهن أحد قبلي» أي من النبيين والمرسلين. والرسول صلى الله عليه وسلم جائز في حقه الزيادة وغير جائز في حقه النقصان، ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا وكذلك…
ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله فمن هاهنا قلنا لا يجوز عليه النسخ والاستثناء ولا النقصان وجائز فيها الزيادة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا» أجزنا الصلاة في المقبرة وفي الحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من النجاسة لأنه عموم فضيلة لا يجوز عليها الخصوص… وقال صلى الله عليه وسلم : «حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجدا وطهورا» (التمهيد ج. 5. ص: 217. ابن عبد البر).
– وقال مالك في المدونة: الصلاة في الحمام والمقبرة جائزة.
– وقال الحنابلة: المقبرة ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن، فإن لم يحتو على ثلاثة فالصلاة فيها صحيحة بلا كراهة إن لم يستقبل القبر وإلا كره أي الاستقبال.
– وقال الشافعية: تكره الصلاة في المقبرة التي لم تنبش سواء كانت القبور أمامه أو خلفه أو عن يمينه أو عن شماله أو تحته إلا مقابر الأنبياء وشهداء المعركة لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وإنما هم أحياء في قبورهم.
– وقال الحنفية: تكره الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي بحيث لو صلى خاشعا وقع بصره عليه وأما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحته فلا كراهة على التحقيق، كما لا كراهة في الموضع المعد للصلاة بلا نجاسة ولا قذر ولا تكره الصلاة مطلقا في أماكن قبور الأنبياء (هل من فقه المأثور ص:82).
فأين هذا من فتوى العلامة الألباني بضرورة إزالة القبر الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي بدعوى الشرك (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ص: 68 و 69 وحجة النبي صلى الله عليه وسلم ص: 138).
فإذا علم الذي يشغل كافة أجهزته هذه الأدلة النقلية وأضفنا دليلا عقليا يتمثل في أن عمر الإنسان قديم على هذه الأرض سواء منه الآدمي أو غيره من المخلوقات الأخرى، يكون القريب من الواقع أن الأرض “حينئذ يكاد باطنها كله أن يكون مظنة لتلك القرون، وبالتالي مقبرة لأهلها” (هل من فقه المأثور ص: 103).
وإذا أضفنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفن وأبا بكر في بيت السيدة عائشة الذي كانت تسكنه. فأين كانت تصلي وزوجها ووالدها دفيني حجرتها؟ (سؤال ورد على جريدة الشرق الأوسط).
إنطلاقا مما سبق فإن الزوايا ــ إذا كانت فيها قبور ــ والمزارات والأضرحة تجوز فيها الصلاة باتفاق.
فما الدافع إلى تحريم الصلاة في الزوايا التي لا تحتوي على قبور كما هو عليه زوايا الشيخ التجاني رضي الله عنه؟ إذ للتذكير فالشيخ التجاني يحرم الدفن في زواياه. وقد شدد في ذلك حتى قال: “من يدفن في الزاوية تأكله النار لا محالة” (كشف الحجاب ص: 32). وبذلك بقي العمل إلى يومنا هذا.
للإجابة على هذا السؤال الجوهري نقرأ أحد أهداف السلفية المتجددة المنتشرة بعشوائية في الأحياء الشعبية والفقيرة: “الهدف الثلاثون: عدم حضور المناسبات المشبوهة كالأعراس المختلطة وأماكن الغناء، والبدع والأضرحة والزوايا، وكل ما من شأنه أن يلحق بالمسلم إثما وذنبا” (الإتحاد الإشتراكي ع: 7252). فسوى هذا الهدف بين ما هو حرام بالإجماع، وما هو مباح بالإجماع وجعل ارتياد الزوايا إثما وذنبا يعاقب عليه. إنه حضيض الفهم الإسلامي الذي جر علينا التخلف والتشدد اللذين أوقعا الأمة الإسلامية في مآسي الإرهاب بكل معانيه.
إن الحركة الوطنية أخطأت التصور وهمشت التصوف الإسلامي المغربي، وها هي اليوم تجني ثمار ذلك. لكن الحركة الوهابية شحنت النفوس بالحقد على التسامح الصوفي فتولد لديهما العنف السياسي والديني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى